سؤال هاملت الشهير محدودٌ ومضلل
إِنّ السؤالَ الذي يبدأْ به مشهد المناجاة لمسرحية هاملت (Hamlet) للكاتب الكبير ويليام شكسبير (William Shakespeare) هو، على الأرجحِ، أكثرُ الاقتباسات شهرةً في الدراما الكلاسيكية، فقد كان هاملت يفكرُ في ما إذا كان من الأفضلِ له أن يعاني، أن يعيشَ وعلى كاهِله عبء الانتقام لمقتل أبيه، أو بالأحري “أن يكون”، وإلا فلينتحرْ، أو كما قال هاملت: “ألا يكون”، وينهي معاناته بقتل نفسه، ومن الواضح أنه سؤال يضع أمامه خيارين لا ثالثَ لهما. لكنّ طرحَ شكسبير للمسألةِ كان خاطئًا في ظني، ولمْ يساعد في حلّها على الإطلاق، فأن يكون أو لا يكون ليس في الحقيقة ذاك السؤالَ الذي يحملُ في طياتِه حلًّا لبطلِ المسرحية، أو لأيٍّ ممن استَشهدوا بهذا الاقتباسِ في يومٍ ما، بل إنّه سؤالٌ خاطئٌ من الأساس.
ولربما يبدو من غير المعهودِ، أن يفترضَ أحدهم بأن سؤالًا ما هو خاطئ، فلا شك أنّ هاملت كان يبحثُ عن إجابةٍ لحيرته حينَ طرحَه، لكنّ السؤال الخاطئ من شأنِه أن يجلب لنا إجابةً غير التي نبحث عنها، أو ألّا يجلب واحدةً مطلقًا، فيتركنا في متاهات الضياع إلى أنْ نفنى، ولا يخفَى على أحدٍ وجودُ افتراضات، وادعاءات، وإجابات خاطئة، لكن كيف لسؤالٍ أن يكون كذلك؟
كيف يكون السؤالُ خاطئًا بغض الطرف عن إجابته؟
أن يكون السؤال مبنيًّا على افتراضٍ مُسبق غيرِ صحيح، هكذا وبكل بساطة يمكن لسؤالٍ أن يكون خاطئًا، فالأسئلة تحتوي على عنصرين مهمين، هما: شيءٌ مجهول، وافتراضٌ مسبق، فإذا لم يكن هناك شيءٌ مجهول لنسأل عنه، أو افتراضٌ مُسبق نبني عليه السؤال، فلمَّ وعمَّ سنسأل؟! فإذا استفسرت منك عن الوقت، ها أنا قد افترضت مُسبقًا أنك تحمل من بين أشيائك الخاصة ساعةً منها تعرف الوقت، وبأنك تعرف كيف تقرأ الوقت، وبأن هناك شيئًا بالأصل يسمى الوقت، ولكن -كما في سؤال هاملت- قد يكون الافتراض الذي بُني عليه السؤال خاطئًا، فإذا سألتك مثلًا: “في أي ساعةٍ سطوتَ على البنك؟”، أكون قد افترضت بأنك سطوت على البنكِ بالفعل، ولهذا فإن كان الافتراض المسبق خاطئًا، يكون السؤال المبني عليه خاطئًا بالتبعية. إذًا ليست الإجابات وحدها هي من تكون في بعض الأحيان خاطئةً، حيث يمكن للأسئلةِ أن تكونَ كذلك.
أين الحل في معضلة هاملت؟
من المهم إذًا أن نتعلمَ كيف نفترض افتراضاتً صحيحة؛ لنطرح بناءً عليها السؤال الذي من شأنه أن يأخذ بيدِنا للحل، لكنّنا كثيرًا ما نجد أنّ الافتراضات المسبقة للأسئلة عادةً ما تكونُ ضمنية، فليس من السهل معرفةُ وجه الخطأ في بعضِ الأسئلة التي نطرَحُها. لكنْ ألا تتساءل لمَ افترضت أن سؤالَ هاملت هو سؤالُ خاطئ؟ لعلك تلاحظ أن الافتراضات المُسبقة التي بُني عليها سؤاله غير صحيحة ولا عادلة، إنه يحصر خيارنا بين هذين الطريقين فقط: إما المعاناة وإما الانتحار.
والحق أن هنالك طريقًا ثالث ينبغي علينا إدراكه، وهو جعلُ الحياةِ مكانًا أفضل، والتحلي بالشجاعة لمجابهة المعاناة التي نلاقيها فيها دون أن نهرب من المواجهة، فبمعنى آخر، أن نتغير لنتخطى صعوبات الحياة حتى وإن كان التغييرُ جذريًّا، فالمرءَ منَّا يستطيعُ أن يخفف معاناته بالعديد من الطرق والتي تتطلب حكمةٍ ومرونة، كالتعامل مع أسباب المشكلة ومحاولةِ حلّها دون شكايةٍ أو تسويف، والتغلبِ على الحساسية المفرطةِ تجاه المعاناة، وتجديد سعي الذات إلى الكمال، وخلقِ جوانبَ ممتعةٍ ذات قيمة للحياة، والالتفاتُ إلى تلك الموجودة لدينا بالفعل. فمن المؤسفِ أن بعض الناسِ يفضلون إنهاءَ حياتِهم بشكلٍ نهائيٍّ قبل محاولة تغييرها، ولو لمرةٍ واحدة.
الأمير رُوْدُلْف ومحبوبته ماري وقصة انتحارهما سويًّا
وقد ذكرتني قصة هاملت بقصةٍ تاريخية لأميرٍ حقيقي قام بالانتحار، إنه الأمير رودلف (Rudolf) وريثِ عرش أبيه فرانز جوزيف (Franz Joseph) حاكم الإمبراطورية النمساوية المَجَرية في الفترةِ الزمنية ما بين 1830 و1916م. وقد تزوجَ رودلف من أميرةٍ بلجيكية؛ لأسبابٍ سياسية وإرضاءً لرغبة أبيه، لكنه سرعانَ ما اكتشفَ أنّه يمقُتُها بكل معانى الكلمة، وبالرغم من ذلك، حرَّم والده والتقاليد المجتمعية على حد سواء طلاقَهُ منها، وزواجه من المرأة التي أحب. ولم تكن تلك هي الحياةُ التي أرادَها لنفسه، فاختار رودلف الانتحار، ووافقته محبوبته الاختيار، فوُجد الاثنانُ معًا منتحريْن في الثلاثين من يناير عام 1889م. ولا عاقل يُنكرُ أن هذا كان قرارًا صادمًا للبلاط الملكيّ بأكملِه، بل حتى لسائرِ شعبه، فلو إن كانت حياة رودلف بهذا السوء الذي جعل الانتحار هيّنًا على نفسه، فلا شكَّ أَن كانت هناك طريقةً لتغيير ذاك النمط من الحياة بدلًا من التخلصِ منها نهائيًا!
كان من الممكنِ له أن يُغادرَ البلاطَ الملكيّ مع محبوبته، متجهًا لأي مكانٍ يمتهن فيه حرفةً أو يجدُ لنفسه وظيفةً ما، بالطبع كان هذا ليُحدِث صدعًا في أرجاءِ الإمبراطورية كاملها، ولكانت مغادرته البلاطَ الملكيَّ كفيلةً بإحزانِ والديه، لكن انتحَارَه بلا شك سبَّب لهم أضعافً مضاعفةً من الأحزان.
إني كنتُ دائمًا ما أتساءلُ وأنا أطالعُ قصتَه لمَ اختارَ أن يُنهي حياتَه؟ ألمْ يكن من الممكنِ أن يتخلّص من الجزء التعيسِ منها فقط؟ لمَ لمْ يُعد تشكيلها إلى الصورةِ التي يريد مهما كلفه الأمر؟ لمَ لمْ يقضي علي الخوف الذي كان بداخلِه بدلًا من إنهاء حياته؟ لا شك أنّ هذا أمرٌ صعب، لكن من الضروريّ أحيانًا مواجهة الصعاب.
وإني لا أدّعي هُنا أن رودلف كان ليجد ما يحبه ويرتضيه بالتحديد إن اختار أن يكملَ حياته، لكنّي أرى أنه قد ظلم نفسَه حين لم يجربْ أي خيارٍ آخر، واختار بلا تردد الموتَ الذي لا يَعُده العظماءُ بالأصل خيارًا، فهو لم يضع نُصب عينيه سوى الخياريْن اللذين طرحَهما هاملت: الاستمرار في الحياة كما هي، أو الموت، وبدا لي أنّ احتمال وجود خيارٍ ثالث، حيث تتغيرُ الحياة ومن ثم تتحسنُ شيئًا فشيئًا، لم يتم الانتباه له على الإطلاق! فقد سجن نفسَه بنفسِه داخل خيارين اثنين غافلًا كمَّ الخيارات الأخرى الممكنة، فالحياة لا تمنحنا خيارين أو حتى ثلاثة خيارات، فمثلًا هناك خيارٌ رابعٌ غيرَ الانتحار، أو المعاناة، أو التغيير، وهو أن تنتظر فحسب، فلا داعٍ أحيانًا بل غالبًا لإضاعة جهودنا في تغيير الظروف؛ إذْ أنها ستتغير بمفردها بمرور الوقت، فعجلةُ الحياة دائمة الحركة، ومثلما تغيرتِ الظروفُ في الماضي، فمن المؤكد أن تتغير كذلك في المستقبل.
كيف نتعامل مع الأزمات؟ وما تأثير إدراكنا أنها مؤقتة؟
لكنْ عادةً ما يفكر الناسُ في الانتحار عند مواجهة أزمةٍ ما، مهوّلين ومرتعبين، هذه الأزمة التي يمكن تعريفها بأنها منخفضٌ يقع بين مرتفعَين، أي أنّها لن تستمرُ إلى الأبد، وتكمنُ الخدعة في الصبر لتحمُّلها، فالذين يواصلون إلى النهاية تغمُرهم الراحةُ والفرحةُ لتخطيها، بينما من يفشل في احتواء الموقف فيغرقُ في هذا المنخفض، وإن المرءَ في بعض الأحيان يفشلُ في احتواء الموقف لا لعلةٍ فيه، بل لأنه لا يدرك أنه يمر بأزمةٍ من الأساس، وأنه سيأتي عليه يومٌ حيث ينظر إلى الوراء ويتذكر مرورَه بها؛ ذلك لأنّ الناس عادةً ما يفقدون الحسَّ المنطقيّ في خِضَم الأزمات، فعند الوقوعِ في مشكلة ما، من السهل أن يسيطرَ على الإنسانِ شعورٌ بأن الأمر سيظلُ هكذا إلى الأبد، وأنه من الآن فصاعدًا ستسوء الأمورُ على الإفراد.
إنّ ما دفعنِي لرؤية الأمرِ بهذه الطريقة هو أنّي تحدثتُ مؤخرًا مع والدين جُدد لطفلٍ عمره ثلاثة أشهر، وقد أخبراني والدموع تكاد أن تنهمرُ من أعينهما: كيف تملكهما شعورٌ قاتلٌ بأن الحياة قد سُلبت منهما، وبأنهما لن يتمتعا مجددًا بنومٍ هانئٍ متصل، وكانا متيقنينْ بأنهما لن يستطيعا العودةَ إلى القراءة، أو الجري، أو حتى الجماع من جديد، ولن يكون لأيهما وقتٌ خاصٌ يهتم فيه بنفسه. وقد أدهشني ذهولهما عندما أخبرتُهما أن طفلهما سيكبر مع مرور الوقت، وسينشغلُ بأصدقائه، وسيكون الأمرُ الصعبُ حينها هو إيقاظُه للذهاب إلى لمدرسة، ولا أعلم لما كانا مذهولين هكذا برغم أني قد أخبرتهم أمرًا بديهيَّا، كقولي لهم بأن الكثيرَ من الحروب التي نخوضُها مؤقتة، حتى ولو كنّا -في خضَم مرورنا بها- لا نعي ذلك.
إذًا، ليس السؤالُ الواجب هُنا هو “أن تكون أو لا تكون”؛ فهو لا يمثل إلا اختيارن فقطْ، بل من المهمِ أن نأخذَ بعينِ الاعتبار كل الاتجاهات الممكنة قبل اتخاذِ القرار. فأن تكون أو لا تكون هو سؤالٌ مجرد مبتور، ويغفل عن الكثير من الطرق التي من شأنِ إِحداها أن تكونَ هي الحل.
ترجمة: أمنية علاء.
مراجعة علمية: ماريا عبد المسيح.
تدقيق لغوي: أحمد أبو المعارف / مريم سمير
المصدر: