مقدمة
بعض خلايا الجسم السليمة قد تشذ عن السلوك الطبيعي في النمو والانقسام؛ فيتوقف نموها قبل النضوج وتبدأ في الانقسام غير المحدود فتُصاب بما يعرفه الناس بجنون الخلايا، والذي يظهر في انقسامها المستمر بدون توقف أو تحكم؛ فينشأ عن ذلك كتلة من الخلايا شاذة السلوك في الجسم تكبر كلما ازداد الانقسام، ويظهر ما يُعرف بالورم السرطاني.
هذا كل مانعرفه عن نشأة السرطان ولكن ماذا يحدث خلف الكواليس؟ كيف تأتي الخلايا بالقدرة والطاقة على التكاثر والنمو؟ هل تسرق الغذاء اللازم لإمدادها بالطاقة؟ هل الخلايا السرطانية تأتي بما يأتيه القراصنة من فعل، فتختطف الغذاء من الخلايا السليمة لكي تحيا وتتكاثر وتستمر في جسم المريض؟ لنتعرف سويًّا إلى إجابات تلك الأسئلة في المقال التالي.
اكتشف فريق من الباحثين في مركز السرطان بجامعة كلورادو -بالولايات المتحدة الأمريكية- أنّ خلايا سرطان الدم هي بالفعل خلايا قرصانية، تقطع طريق استهلاك سكر الجلوكوز اللازم لبناء الطاقة عن الخلايا السليمة؛ فيتوفر بذلك كمية أكبر من الجلوكوز للخلايا السرطانية لتتغذى عليه للنمو والتكاثر.
يحتاج السرطان لاستمرار نموه الخارج عن السيطرة وانقسام خلاياه إلى الطاقة، والتي يستمدها من الجلوكوز كغيره من الخلايا السليمة. في الواقع إن استهلاك الخلايا السرطانية للكثير من الجلوكوز يؤدي بنا إلى تخيل واحد عن سلوك هذه الخلايا وهى أنها تبحث ببساطة عن الجلوكوز في المناطق ذات الاستهلاك المرتفع له. إذن متى يزيد استهلاك الجلوكوز في مكان ما يكون السرطان موجودًا. ولكن كيف تحصل الخلايا السرطانية على هذا الكم الوفير من سكر الجلوكوز؟ هذا ما توصل إليه الباحثون في جامعة كلورادو في الدراسة التي نُشرت في مجلة (Cancer Cell) التي توضح أن خلايا السرطان تُقلل من استهلاك الخلايا السليمة للجلوكوز موفرة بذلك كميه أكبر منه لاستهلاكها الخاص.
يقول كريج جوردان الباحث في المركز:
«إن خلايا سرطان الدم تخلق حالة مشابهة لتلك التي يخلقها مرض السكري، حيث إنها تقلل من كمية الجلوكوز الذاهب إلى الخلايا السليمة للاستهلاك وإنتاج الطاقة، وكنتيجة، يصبح الجلوكوز غير المستهلك متاحًا بكميات أكبر للخلايا السرطانية، فكأن الخلايا السرطانية تقوم بسرقة الجلوكوز من الخلايا السليمة لتعزيز وزيادة نمو الورم».
التشابه بين تأثير السرطان وداء السكري على الجسم
مثل داء السكري إن استراتيجيات السرطان تعتمد على هرمون الإنسولين الذي تحتاجه الخلايا السليمة لتسحب الجلوكوز من الدم، وبالتالي تقوم باستهلاكه لإنتاج الطاقة وتخزين ما يفيض عن حاجتها، فما يحدث في داء السكري هو كالآتي: ينخفض إنتاج البنكرياس من الإنسولين أو لا تستجيب الخلايا له، فتبقى الخلايا جائعة للجلوكوز والطاقة، فتلجأ للحلول البديلة مثل استهلاك الدهون لإنتاج الطاقة، بينما يتراكم الجلوكوز في الدم. أما عن الحالة التي يخلقها السرطان في الجسم فهذه الدراسة توضح أن الخلايا السرطانية تخلق حالة مشابهة من تراكم الجلوكوز بطريقتين مختلفتين.
آليات سرطان الدم في الحصول على الطاقة
أولًا: في البداية تقوم خلايا السرطان بخداع الخلايا الدهنية لإنتاج بروتين يُسمى (IGFBP1) بغزارة، هذا البروتين يجعل الخلايا أقل استجابة وحساسية للإنسولين، مما يعني أنه كلما زاد تركيز البروتين قَلَّت استجابة الخلايا السليمة للإنسولين، وبالتالي، ستحتاج الخلايا إلي كميات كبيرة من الإنسولين لاستهلاك الجلوكوز والعكس بالعكس؛ لذلك إن لم يرتفع إمداد الخلايا بالإنسولين فإن ارتفاع نسبة بروتين (IGFBP1) تعني انخفاض استهلاك الخلايا السليمة للجلوكوز. هذا البروتين أيضًا يمكن أن يكون حلقة في السلسلة التي تربط بين السرطان والبدانة (تزيد الخلايا الدهنية فيزيد إنتاج البروتين، فتقل استجابة الخلايا السليمة للإنسولين، ويقل استهلاكها للجلوكوز؛ مما يترك جلوكوز أكثر لاستهلاك الخلايا السرطانية).
ثانيًا: قطع إمداد الجلوكوز عن الخلايا السليمة، حيث يعمل على التأكيد بأن إنتاج الجسم من الإنسولين لن يرتفع ليغطي الحاجة إليه التي خلقتها زيادة إنتاج بروتين (IGFBP1). في الحقيقة أن وجود السرطان في الجسم يقلل من إنتاج الإنسولين ويتم ذلك بشكل موسع في الأمعاء.
يقول جوردان في إطار هذا الفحص والتحليل الجهازي للجسم:
«أدركنا أن بعض العوامل التي تساعد في تنظيم الجلوكوز تُصنع بواسطة الأمعاء أو بالتحديد بواسطة بكتريا الأمعاء، فنظرنا هناك ووجدنا أن تكوين المايكروبايوم في الحيوانات المُصابة بسرطان الدم يختلف عن ذلك الموجود في الفئران السليمة».
العلاقة بين مايكروبايوم الجهاز الهضمي وسرطان الدم
اختلاف وحيد هو الذي كان في أمعاء الفئران المُصابة بسرطان الدم عن الفئران السليمة: وهو غياب نوع معين من البكتريا يعرف بالعصوانية (Bacteroides). هذه البكتريا تنتج سلاسل قصيرة من الأحماض الدهنية؛ وذلك لتغذية الخلايا السليمة المُبطنة للأمعاء ومن دون هذه البكتريا تعاني الأمعاء، وقد أظهرت الدراسة الحالية أن الأمعاء ستعاني بشكل يساعد على نمو السرطان؛ مما يؤدي إلى فقدان هرمونات الإنكرتين (Incretins)، فهذه الهرمونات تساعد في خفض مستوى الجلوكوز في الدم، فمثلًا بعد الوجبة الشهية يرتفع مستوى الجلوكوز في الدم فتقوم خلايا الأمعاء بإنتاج الإنكرتين الذي يقوم بتنظيم مستوي الجلوكوز في الدم وإعادته لمستواه الطبيعي، من خلال الأمعاء تقوم خلايا سرطان الدم بإيقاف عمل هرمونات الإنكرتين فيظل مستوى الجلوكوز في الدم مرتفعًا عما يجب أن يكون.
يقوم سرطان الدم أيضًا بمعارضة نشاط السيروتنين (serotonin): وهو معروف بكونه أحد النواقل العصبية التي تساعد على تحسين المزاج والشعور بالسعادة ويدخل في تركيب العديد من مضادات الاكتئاب. ولكنه مهم أيضًا لتصنيع الإنسولين في البنكرياس، وبمهاجمة خلايا السرطان له يقل إنتاج الإنسولين وبالتالي ينخفض استهلاك الخلايا السليمة للجلوكوز. وكنتيجة لانخفاض إنتاج الإنسولين وانخفاض استجابة الخلايا السليمة له، يُقلل السرطان من استهلاك الخلايا السليمة له من كلا الجانبين (حيث تحتاج الخلايا السليمة للمزيد من الإنسولين، ولكنه غير متوفر ويوجد القليل منه؛ فتستخدمه الخلايا في استهلاك كمية صغيرة جدًا من جلوكوز الدم تاركةً النصيب الأكبر لخلايا سرطان الدم).
يقول جوردان:
«حيلة طفيلية كلاسيكية.. استغلال مايقوم به العائل من عمليات وتدميره لصالحك».
من المثير للاهتمام أنه كما يأكل الطُفيل غذاء العائل له مما يؤدي إلى حالة من سوء التغذية، فإن سرقة السرطان للطاقة من مريضِه يمكن أن يلعب دورًا في التعب والإرهاق وفقدان الوزن الشائع في مرضى السرطان يقول جوردان:
«إن الملاحظة السائدة إلى حد ما هى أن مرضى السرطان يعانون من حالة تُسمى الدنف (Cachexia)، أو يمكن أن نُسميها متلازمة الهُزال (wasting-syndrome) حيث يفقد المريض وزنه. فإذا كان السرطان ينتج تغيرات جهازية في جسم المريض تؤدي إلى استنزاف مخازن الطاقة المعتادة فإنه يمكن لهذا أن يكون جزءًا من القصة».
مع ذلك، لم يقم جوردان وزملاؤه بعرض المشكلة فقط وتوضيح كيف أن السرطان يقوم باعتراض طريق استهلاك الخلايا السليمة للجلوكوز ولكنهم عرضوا الحل أيضًا لإعادة النظام لهذا الاستهلاك واستمراره.
العلاج المُقترح ونتائجه
يقول هوبين يي المشارك الأول في الدراسة:
«عندما قمنا بإدارة العوامل لإعادة فحص ومعايرة نظام أيض الجلوكوز في الجسم، وجدنا أنه يمكن إعادة النظام له وإبطاء معدل نمو خلايا سرطان الدم».
هذه العوامل -للمفاجأة- كانت منخفضة الكفاءة التكنولوجية، واحد هو الـ (serotonin) والآخر هو الـ (tributyrin)، وهو حمض دهني يوجد في الزبدة وبعض الأطعمة الأخرى، إن مكملات السيرتونين تحل محل السيرتونين الذي انخفض بسبب سرطان الدم أما الـ (tributyrin) يحل محل سلاسل الأحماض الدهنية القصيرة التي توقف إنتاجها نتيجة لغياب بكتريا الـ (Bacteroides).
قام الفريق البحثي بتسمية هذا المركب العلاجي بـ (ser-tri therapy) نسبةً إلى مكوناته، وقد أوضحوا أنه أكثر من علاج لأنه قد أدى إلى استعادة مستويات الإنسولين وانخفاض مستوى بروتين الـ (IGFBP1)، كما أن الفئران المُصابة بسرطان الدم والتي تلقت العلاج قد عاشت لمدة أطول من تلك التي لم تتلق العلاج (22 يومًا منذ أن تم إصابة الفئران بالسرطان، كل الفئران التي لم يتم علاجها قد ماتت بينما أكثر من نصف الفئران التي تلقت العلاج لاتزال حية).
إن استمرار العمل على الدراسة تُظهر أن السرطان يمكن أن يعتمد على وسيلة واحدة للحصول على الطاقة، وهي إقصاء الخلايا السليمة من المنافسة على هذه الطاقة المحدودة. إن الأنسجة السليمة لها آليات خاصة لتنظيم الإنسولين والسكر وعوامل أُخرى للتحكم في استهلاك الطاقة، وبالمثل فإن خلايا السرطان أيضًا لها آليات لتخريب هذا النظام بهدف واحد وهو إتاحة وتوفير كمية أكبر من الطاقة لاستهلاكها الخاص يقول يو:
«الآن لدينا الدليل على أن ما لاحظناه في نماذج الفئران هو أيضًا ما يحدث في مرضى سرطان الدم».
إن الهدف من فهم هذه الآليات التي يستخدمها السرطان لإخلال توازن نظام الطاقة في الجسم لصالحه هو مساعدة الأطباء والباحثين على الفهم الأوسع للمرض لصالح الخلايا السليمة، يقول جوردان: «هذا الأمر يعزز الفكرة القائلة بأنه يمكنك القيام بالأشياء بطريقة نظامية لإحباط خلايا اللوكيميا وتفضيل الأنسجة الطبيعية، يمكن أن يكون هذا جزءًا من الحد من نمو الأورام».
مثل داء السكري .. إن استراتيجيات السرطان تعتمد على هرمون الإنسولين الذي تحتاجه الخلايا لتسحب الجلوكوز من الدم، وبالتالي تقوم باستهلاكه لإنتاج الطاقة وتخزين ما يفيض عن حاجتها، فما يحدث في داء السكري هو كالآتي حيث ينخفض إنتاج البنكرياس من الإنسولين، أو لا تستجيب الخلايا له فتبقي الخلايا جائعة للجلوكوز والطاقة، فتلجأ للحلول البديلة مثل استهلاج الدهون بينما يتراكم الجلوكوز في الدم، أما عن الحالة التي يخلقها السرطان في الجسم فهذه الدراسة توضح أن الخلايا السرطانية تخلق حالة مشابهة من تراكم الجلوكوز بطريقتين مختلفتين.
إعداد وترجمة: فيروز محمد سعيد
تدقيق: Wael Yassir
المصدر: https://bit.ly/2PiVkUe