«أسأل نفسي دائمًا: لماذا لا يأتي إليّ أحدُهم ويطلب أن أقترح عليه كتابًا لشخصٍ وقعَ في الحُبِّ للتو؟»
لو طلب أي شخص منّي اقتراحًا لكتاب لشخصٍ وقعَ في الحُبِّ لتوِّه، لشخصٍ عاشِقٍ منذ دهرٍ، لشخصٍ حزينٍ، لشخصٍ يرغب برفيقِ سفر، لشخصٍ يرغب بأصدقاءٍ جُدد، لشخصٍ يرغب بجُرعة غنيّة ولكن لطيفة من الحُبِّ، والكتابة، والقراءة، والأدب، والموسيقى، والمقالات، والشُّعراء والكُتّاب، والتَّاريخ، والسَّعادة، والكآبة، والوجود، والعدم، وحتى السياسة.. فبدون شكٍ أو تردُّد، سوف أقترح عليه: «اخرج في موعد مع فتاة تُحب الكتابة».
لقد تفنَّن «محمد الضبع» في ترجمة الكتاب، شعرتُ وأنا أقلِب آخر صفحاته أنه صديقي منذ فترةٍ طويلة، وأنّي انتهيتُ لتوّي من جلسةٍ ودّية تناقشت فيها مع الكاتب عن كامو وسارتر، سيناترا وإلتون جون، سيلڤيا بلاث وبيكاسو، والكثير والكثير غيرهم.
إن لهذا الكتاب مذاقًا خاصّ لا بُدَّ من تذوقه، ورائحةً مُختلفة لا بُدَّ أن تنفذَ إلى أنفِك!
فـ هذا كتابٌ برائحةُ كُلِّ الأشياءِ الجميلة!
«عندما يهزُّني كتابٌ ما، أتمنَّى لو أستطيع وضعَه في جيبِ كلِّ مَن أعرف. إذا انتشرَ كتابٌ مثل هذا بين أيدي الناس، سيصبح العالم أفضل، وسيصبح مكانًا أجمل!»
-أناتولي برويارد.
بداية الموعد: ما هو الحُب؟
وكالبدايات دائمًا.. تحدّثنا عن الحُبِّ. وعندما يكتب مَن يُحب عن الحُب، وعندما يكون المُحِب فيلسوفًا،تكون تلك هي النتيجة:
من جان بول سارتر لـ سيمون دي بوفوار..
«فتاتي الصغيرة العزيزة..
لوقتٍ طويلٍ انتظرتُ أن أكتبَ لكِ، في المساءِ بعد واحدةٍ من تلك النُزهات مع الأصدقاءِ التي سأصفُها عن قريبٍ في “هزيمة”، ذاك النوعُ حيثُ يكون العالمُ لنا، وقد أردتُ أن أُحضر لكِ فرحةَ المُنتصرِ وأضعُها تحت قدميكِ كما فعلوا في عهد ملك الشمس، ولكنَّني عندما أتعبُ من الصراخ أذهب دائمًا للنوم، واليوم أنا أقوم بهذا لأشعر بلذَّة لا تعرفينها بعد، لذَّة التحوُّل فجأة من الصداقة للحُب، من القوَّة للرقَّة؛ هذه الليلة أُحبُِّكِ بطريقةٍ لم تعرفيها بي بعد، فأنا لستُ مُتعبًا من السفر ولا ملفوف برغبتي بحضورك، أنا أحترف حُبِّي لكِ وأحوِّلُه داخلي كجزء مُتأصِّل منِّي؛ يحدُث هذا أكثر بكثير مما أعترف به لكِ ولكن نادرًا وأنا أكتبُ إليكِ، حاولي أن تفهميني؛ أنا أُحبِّكِ بينما أنتبه للأشياء الخارجيَّة، أحببتكِ ببساطة في تولوز، والليلة أُحبُّكِ كمساء ربيعي، أُحبُّكِ والنافذة مفتوحة، فأنتِ لي والأشياء لي ولكنَّ حُبِّي لكِ يُعدِّل الأشياء حولي وتُعدِّل الأشياء حولي حُبِّي لكِ».
وعندما يمسُّ النَّص الرُوح.. تكون تلك هي النتيجة:
من ليو تولستوي إلى ڤاليريا آرسينڤ..
«قد أحببتُ جمالَكِ مُنذُ زمنٍ، ولكنّي بدأت للتوِّ بـ حُبِّ الخالد والأزليّ فيكِ.. قلبكِ ورُوحكِ..بإمكان المرء أن يتعرف على الجمال ويقع في حبه خلال ساعة واحدة، ويستمر حبه له بالسرعة ذاتها؛ ولكن حين يأتي الأمر للروح، عليّ أن أتعلّم أولًا كيف أعرفها. صدقيني، لا شيء يُعطى على هذه الأرض دون جهد، حتى الحب، أكثر المشاعر طبيعةً وجمالًا.»
ثمّ تمَّ الانتقال المُفاجيء على حدِّ تعبير سارتر- من الحديثِ عن الحُبِّ إلى الحديثِ عن ما هو الحُبِّ؟ وطبعًا هذا سؤال وجواب في نفس الوقت!
فقد تناقشنا حول تعريفات مُختلفة.. وخرجنا بنتيجةٍ واحدة.. وهي أنّ كل هذه التعريفات خطأ يحتمل الصواب.. أي أنّ تعريف الحُبِّ أمرٌ نسبيّ، وبالتالي فالحُبِّ نفسه أمرٌ نسبيّ..
فـ مِن لاعِن الحُبِّ بوكوفسكي:
«الحُبُّ كلبٌ مِن الجحيم»
إلى العبقريّ دوستويفسكي:
«ماهو الجحيم؟ مُعاناة ألّا أكون قادرًا على الحُبّ»
مرورًا بـ برتراند راسل:
«الحذر في الحُبّ أكبر خطر يُهدد السَّعادة الحقيقية»
نخرج حافيي القدمين، لا ندري مع أيُّهم الحق، ولكن مَن يدري.. فلربما كانوا جميعًا مُحِقِّين!
الكُلُّ مَرّوا من هُنا
وبعد الكلامِ عن الحُب.. لم نجد ما هو أروع لنستأنفَ الحديثَ عنه سوى الكُتب.. أُحبُّ مَن يُحب الكتب، ومَن يتكلَّم عن الكُتب، ومَن لا يتكلَّم إلّا مِمّا شَكَّلته الكُتب داخله.. ببساطة.. لديّ هوس بـ الكتب.
تحدَّثنا.. وتحدَّثنا.. كُتّابٌ ومقالات، قصصٌ وروايات، شخوصٌ ونهايات، أحداثٌ وانفعالات.. نعم؛ لقد سَرَقَنا الحديثُ عن الحديث!
فـ نشرنا أفكارنا وما ادّخرته عقولُنا.. فجاءَ العرضُ مُشوَّشًا ولذيذًا في نفسِ الوقت، غير مُنسجم في ترتيبه، ولكنّه مُنسجم في روعة مكنونه.
ما بينَ «راي برادبيري»، «جورج أورويل»، «فرانز كافكا» إلى «جابرييل جارسيا مركيز». مرورًا بالموجود بوجوديته، العاشِق لقلمِ وشخص «سيمون دي بوفوار».. إنّه «سارتر»..
تطرَّقنا لأنواعِ الكُتب وحُبِّها، وكان الرَّبط بين الحُبِّ المُشترك للكُتبِ وإمكانية نجاح العلاقة جيدًا.. ثُم تداخلت المواضيع بين إحراق الكُتب في رائعة برادبيري: «فهرنهايت 451»، إلى كُتبٍ تتمنَّى إحراقها ولكن لن تفعل ذلك لأنّها هي من أحرقتك.. و طبعًا «مسخ» كافكا خيرُ مثال.
اخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة
كان هذا عنوان إحدى مقالات هذا الكتاب، والذي اختاره رفيق موعدنا -المُترجم محمد الضبع- عنوانًا للكتاب، مما جعلَ الكثيرين من القُرَّاء -عندما وقعَ الكتاب بين أيديهم للوهلةِ الأولى- يظنّون أن الكتاب يتحدّث عن الفتاة الكاتبة وحسْب، ولكن في الحقيقة ليس هذا سوى مقالٍ واحدٍ في كتاب يضم الكثير والكثير، ولكنّه مقالٌ كافٍ، يُسمِن ويُغني من جوعٍ..
«ابحث عن فتاة تحب الكتابة. ستكتشف أن لديها حسَّ فكاهة عاليًا، أنها مُتعاطفة وحنونة لدرجة بالغة، أنها ستحلم وتبتكر عوالمًا وأكوانًا كاملة لأجلك. هي التي ينحني الظلُ أسفلَ عينيها، هي الفتاة ذات رائحة القهوة والكوكاكولا وشاي الياسمين الأخضر. هل رأيت تلك الفتاة، ظهرها متقوّس باتجاه مفكرتها الصغيرة؟ تلك هي الفتاة الكاتبة. أصابعها مُلطخة أحيانًا بالجرافيت والرصاص، وبالحبر الذي سيسافر إلى يدك عندما تتشابك مع يدها. هي لن تتوقف أبدًا عن تذكُّر المُغامرات، مُغامرات الخونة والأبطال. مُغامرات الضوء والظلام، الخوف والحُب. تلك هي الفتاة الكاتبة، لا تستطيع أبدًا مقاومة مِلء صفحة فارغة بالكلمات، مهما كان لون الصفحة.
أعطها رأيك في تولستوي، وأخبرها عن أفضل نظرياتك حول هانيبال وعبوره الكبير لجبال الألب. حدّثها عن شخوصك، عن أحلامك، واسألها إذا كانت انتهت من كتابة روايتها الأولى.
لكن لا تكذب عليها، لأنها سوف تفهم ما وراء كلماتك، سوف تكون محبطة جدًا لأنك تكذب عليها، لكنها ستتفهَّم. ستتفهَّم أنه أحيانًا حتى الأبطال يفشلون، وأن النهايات السعيدة تتطلب وقتًا، هي واقعية. وليست عجولة أبدًا، ستتفهم بأن لديك أخطاء. ستقدّس أخطاءك، لأن الفتاة التي تكتب تفهم معنى الحبكة، وتفهم أن النهايات يجب أن تحدُث، مهما كانت سعيدة أو حزينة.الفتاة التي تحب الكتابة لا تتوقَّع الكمال منك، لأن قصصها غنيّة بالتحوُّلات، وشخصياتها مُتعدِّدة الأوجه بسبب عيوبها الكثيرة المُثيرة للاهتمام. هي تفهم أن الكتاب الجيِّد لا يجب أن يكون مليئًا بالشخصيات المثالية، أن الأشرار والأخطاء التراجيدية هي ملح الكُتب، الفتاة التي تُحب الكتابة ستتفهم أنك بشرٌ، وأن أخطاءك واردة، كُن رفيقها، كُن حبيبها، كُن حلمها، كُن عالمها.
هي شهرزادك، عندما تخاف من الظلام سوف تقودك من يدك، كلماتها تتحوَّل إلى مصابيح، إلى أضواء ونجوم وشموع تقودك عبر أكثر أيامك ظلامًا. ستكون هي الفتاة التي ستنقذك، سوف تسرقك بعيدًا على متن منطادها الهوائي، وستكون مسحورًا بها، هي مؤذية وهي لعوبة، ولكنها هادئة، وعندما تضطر لقتل شخصية من شخصياتها المحبوبة في القصة، وعندما تبكي، احضنها وأخبرها أن كل شيء سيكون على ما يرام.
سوف تتقدم أنت لطلب يدها للزواج. ربما على قارب وسط المحيط، ربما في كوخ صغير بجبال الأبلاش. ربما في نيويورك، ربما شيكاغو، بالتيمور، ربما خارج مبنى دار النشر التي تعاقدت معها، لأنها مشرقة ومتوهجة في أي مكان تذهب إليه، ربما حتى خارج السينما حيث كانت قبلتكما الأولى تحت المطر. ستخبرك أن كل هذا مُكرَّر ومُستهلك، لكن التماعة عينيها ستخبرك بالحُبِّ داخل قلبها والجنون الذي تخفيه عنك. سوف تبتسم أنت بشدة عندما تتحدث معك، قلبك سوف ينسى نبضة أو نبضتين حين تمسك بيديك وتكتب القصص عن حياتك وحياتها، سوف تقترب منك كثيرًا وتحتضنك، سوف تخبرك بالأسرار في أذنك، هي لطيفة وتحبك، تذكَّر هذا، هي صنعت نفسها بنفسها، وهي رائعة الصُنع. قد يكون اختيارها لأسماء أطفالكما سيئًا، ولكنَّك سوف توافق عليها.
الفتاة التي تُحب الكتابة ستحكي لأطفالك قصصًا بالغة الجمال والسحر؛ لأن هذا هو أجمل ما تملكه. لديها الخيال، ولديها الجرأة، وسيكون هذا كافيًا، سوف تنقذك في محيطات حلمها. ستكون فارستك، وستكون عالمك، في انحناءة ابتسامتها، في اللون البندقي لعينيها، في الكلمات التي تنهمر منها كالسيل، كالموجة، ساحرة إلى درجة تجعلك تخسر أنفاسك لصالحها.
اخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة؛ لأنه لا يوجد شيء أفضل من الخروج في موعد مع فتاة تحب الكتابة.»
الوداع هو أجمل وأسوأ ما في الموعد!
لتفهم هذه المُعادلة، عليك أن تقرأ لـ «كامو» و«سارتر» في نفس الوقت.. يعني أن تحبّ الموجودات وتكرهها في نفسِ الوقت، أي الشيُء المُهم الذي يجمع هو شيٌء مُهمٌ للتفريق، وبمعنى أوضح.. أن تُحب الأشياء بقدرِ كُرهك لها..
الموعد، الوداع، ولكن..
كتابة وإعداد: هبة خميس
مُراجعة: آلاء مرزوق
المصدر:
- اخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة. (اختيار وترجمة) By محمد الضبع. Published March 1st 2015 by الدار العربية للعلوم ناشرون.