لم يفارق العالِم الكيميائي روبرت بيرنز وودوارد [1] السيجارة حتى في أثناء عمله بالمختبر، وكان التدخين المستمر يُشكل خطرًا كبيرًا، فقد يؤدي إلى اندلاع حريقٍ لأنه كان يتعامل مع المذيبات المتطايرة، أو يشكل خطر الابتلاع، حيث إن المواد السامة يمكن أن تلوث السيجارة ويستنشقها مع دخان السجائر.
لا شك أن وودوارد كان عالِمًا كبيرًا في الكيمياء العضوية وإنجازاته يمكن أن تُلهم الطلاب ليصبحوا كيميائيين في الغد، ولكن بالنظر إلى ممارساته المتعلقة بالسلامة، فقد كان محظوظًا لأنه لم يُقتَل في حادثةِ معملٍ مرتبطة بالتدخين.
ربما تكون العينان أكثر عرضةً للإصابة في حوادث المختبر من أي جزءٍ آخر في الجسم، أما اليوم فأصبحت إصابات العين نادرةً نوعًا ما بسبب النظارات الواقية وسعرها المقبول، بالإضافة إلى تصميمها الجيد، كما أن أقنعة الوجه ساهمت في خفض الإصابات في العين أيضًا، ولكن في الفترة التى سبقت صناعة البلاستيك الشفاف الصلب كانت إصابات العين جزءًا لا يتجزأ من وظيفة الكيميائي. العالِم جاي لوساك [2] مثلًا قام بدراسة معدن البوتاسيوم بعد أن اكتشفه العالِم هيمفري ديفي [3]، ونظرًا لتفاعلات البوتاسيوم العنيفة كان من المتوقع وقوع حادثةٍ ما حتى بالنسبة إلى عالِمٍ دقيقٍ ومعتادٍ على أداء التجارب مثل جاي لوساك، ففي عام (1808) وقع انفجارٌ للبوتاسيوم أدّى إلى إصابة العالم الشاب جاي لوساك بالعمى المؤقت، ولسوء الحظ، فإنه لم يستعد نظره بالكامل بعد هذه الحادثة مما اضطره إلى ارتداء عدسات تصحيحية، ولحسن الحظ، فإنها قد تحولت إلى نعمةٍ له لأنها قامت بحماية عينيه من انفجارٍ واحدٍ على الأقل بعد تركيبها.
لم يكن جاي لوساك الكيميائي الوحيد الذي يُعرّض عينيه للخطر في أبحاثه، فقد اعتاد الكيميائي روبرت بنزن [4] استخدامَ بعض الحماية لعينيه، لقد كان دائم المجازفة وكان معروفًا بتسلقه إلى أفواه الينابيع الحارّة في آيسلندا والتي على وشك الفوران لقياس درجة حرارة الماء فيها، ومن هذه البيانات قام بتطوير نماذج لوصف كيفية فوران هذه الينابيع التي لا تزال مقبولةً حتى اليوم.
رغم كل المخاطر التي واجهها من غضب الأرض، فقد عاد لسوء حظه إلى مختبره في ألمانيا في عام (1843) وانفجرت قارورة تحتوي على كلوريد الكاكودل (C2H6AsCl) في وجه بنزن وفقد عينه اليمنى بشكلٍ دائم، وفي دراسته لمُركّبات الزرنيخ بما في ذلك كلوريد الكاكودل كاد أن يُقتل بنزن تقريبًا بعد استنشاق أبخرة المُركب الخطيرة.
عندما يريد العلماء اليوم تحضير المواد الخطرة في المختبر فإنهم يتعاملون بحذرٍ شديد مستخدمين دواليب الغازات لحمل الأبخرة السامة بعيدًا، ولكن هذا ليس هو الحال دائمًا.
الفلور هو الأكثر تفاعلًا بين جميع العناصر المعروفة، يمكن أن تكون مُركّباته مسببة للتآكل والانفجار ويمكن أن تسبب أبخرتها مخاطر بسبب استنشاقها.
يذهب الكيميائيون اليوم إلى أبعد الحدود لتجنب تحضيره في المختبر، على مدار معظم القرن التاسع عشر كان العلماء يحاولون إنتاج الفلور حيث لم يتم عزل العنصر من قبل، وبسبب نشاط الفلور العالي مع عدم وجود إحتياطات سلامةٍ جيدة أدّى ذلك إلى عدد كبير من الحوادث على مدى عقود بعضها قاتل.
كان همفري ديفي أول من حاول عزل الفلور، كان قد تمكن ديفي من عزل الكلور من خلال التحليل الكهربي لكلوريد الصوديوم (NaCl) وتوصل إلى أنه من المنطقي أن يتمكن من عزل الفلور من خلال التحليل الكهربي لمركبات الفلوريد المماثلة، عمل ديفي على مركب فلوريد الهيدروجين الخطير بدون استخدام دولابٍ للغازات مما أدّى إلى تعرضه لأضرارٍ في عينيه وأظافره من الأبخرة. في النهاية لم يتمكن ديفي من عزل الفلور أبدًا، حيث كان الغاز نشطًا وذا تفاعلية عالية لدرجة أنه كوّن مُركبات مع كل ما لمسه تقريبًا، ثم تولى الأخوان الأيرلنديان توماس وجورج نوكس مطاردة غاز الفلور من أجل الحصول عليه فى صورةٍ نقية، وخلال أبحاثهما تعرضا لتسمم شديد بفلوريد الهيدروجين المسبب لتلف الرئتين والقلب والكلى والجلد والعينين، توفي اثنان من الكيميائيين أيضًا هم بولين لوييت (Paulin Louyet) و جيروم نيكليس (Jérôme Nicklès) في محاولاتهما لعزل غاز الفلور.
في الستينيات من القرن التاسع عشر تسبب الكيميائي الإنجليزي جورج جور (George Gore) في العديد من الانفجارات في المعمل بسبب التفاعلات العنيفة للفلور الذي قام بإنتاجه.
ظل الفلور عصيًّا على العلماء حتى عام 1886، في تلك السنة استخدم الكيميائي الفرنسي هنري مويسان [5] التحليل الكهربي لإنتاج الفلور من محلول بيفلوريد البوتاسيوم (KHF2) وفلوريد الهيدروجين، وللحفاظ على الفلور الناتج من التفاعل مرة أخرى؛ استخدم مويسان تقنيات التبريد المتاحة حديثًا في ذلك الوقت والتي أدّت إلى تبريد خليط التفاعل إلى -23 درجة مئوية، سمحت له هذه الخدعة بعزل الفلور والتعرف عليه، وتقديرًا لهذا العمل حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام (1906).
من المؤكد أن مويسان كان يستنشق أبخرة الفلور وفلوريد الهيدروجين أثناء عمله، لكنه نجح في تجنب الوقوع كضحيةٍ للهالوجين، ليس من خلال أي تدابير سلامةٍ فعالة، وذلك لأنه توفي لاحقًا بالتهاب الزائدة الدودية بعد شهرين فقط من حفل توزيع جوائز نوبل.
كان العمل دون حماية العين أو دواليب الغازات وإنتاج المواد ذات نشاطٍ عالي بعض الأشياء الخطرة التي اعتاد الكيميائيون القيام بها، بالإضافة إلى ذلك كانت ممارسة السحب بالماصّة عن طريق الفم وتذوق المواد الكيميائية وغسل اليدين بالبنزين (C6H6) -المعروف الآن أنه مادة مسرطنة- من الممارسات المنتشرة قديمًا.
يجب على الطلاب والكيميائيين الممارسين على حدّ سواء أن يضعوا فى اعتبارهم النتائج الفعلية المترتبة على ضعف معايير السلامة في الماضي، وفهم ذلك سوف يوفر على الجميع الكثير من الألم والتعب اللذين يمكن تفاديهما باتباع قواعد السلامة في المعمل واستخدام الحس السليم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) روبرت بيرنز وودوارد (1917–1979): عالم كيمياء عضوية أمريكي ورائد فى مجال تخليق المنتجات الطبيعية المعقدة من المركبات العضوية البسيطة مثل الكولسيترول و الكوتزون والكينين والكلوروفيل والكثير من المركبات الآخرى بالإضافة إلى انه تنسب له قواعد ( Woodward–Hoffmann rules) في الكيمياء العضوية حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1965 وجائزة همفري ديفي من الجمعية الملكية البريطانية للعلوم عام 1959.
(2) جاي لوساك (1778–1850): عالم كيمياء وفيزياء فرنسي اهتمت أبحاثه بدراسة العلاقة بين الغاز ودرجة الحرارة وله قانون في ذلك.
(3) هيمفري ديفي (1778–1829): عالم كيمياء إنجليزي اكتشف الصوديوم والبوتاسيوم وتمكن من استخلاص الكثير من العناصر الطبيعية عن طريق التحليل الكهربي واهتم بدراسة الغازات وله جائزة علمية باسمه.
(4) روبرت بنزن (1811-1899): عالم كيمياءٍ ألماني يُنسب له تصميم موقد بنزن الشهير في معامل العلوم بالإضافة إلى أنه اكتشف السيزيوم والروبيدروم وله أبحاث في طيف الانبعاث من العناصر الساخنة.
(5) هنري مويسان (1852–1907): كيميائي فرنسي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام (1906) تقديرًا لتجاربه التي أدّت إلى عزل الفلور بصورة حرة لأول مرة.
ترجمة: عبدالعزيز محمد
مراجعة علميّة: أحمد فهمي
تدقيق لغوي: هاجر زكريا
تحرير: نسمة محمود
المصدر:
Not-So-Great Moments in Chemical Safety [Internet]. Science History Institute. 2016 [cited 2019 Feb 22]. Available from: https://www.sciencehistory.org/distillations/magazine/not-so-great-moments-in-chemical-safety