إحدى أدوات كتابة الرعب المتعددة هي استخدام الخوف من المجهول، يعرف المؤلف الذي أتقن فن كتابة الرعب أن أكثر ما يخشاه القرّاء هو ما لا يستطيعون تفسيره، وفي أغلب الأحيان ما يخفى عن أعينهم في القصة يمكن أن يكون الجزء الأكثر رعبًا. يلجأ المؤلف لخبرته ببراعة، مستخدمًا التنافر المعرفي والأدوات الأدبية الأخرى من أجل أن ينسج القصص حول هذه الجوانب المرعبة في القصة.
وكان هذا تحديدًا ما قام به المؤلف (جوش مالرمان – Josh Malerman) في روايته الأولى عام 2014 (صندوق الطيور – Bird Box)، مقدمًا لقرائه خوفًا هائلًا من المجهول، وحوش لا نستيطع رؤيتها، تنذر بنهاية للحياة والعالم بأكمله. وفي نهاية العام الماضي 2018، أصدرت شبكة (Netflix) نسخة سينمائية من الرواية، لتتركنا بتساؤل هام: إلى أي مدى يمكن أن ينجح تحويل مثل هذه الروايات إلى الشاشة الفضية؟
لنرى معًا الحبكة والواقع المنفصل الذي استخدمه المؤلف مالرمان في روايته، وما الأساسيات التي تجعل من قصة الرعب أفضل قصة مرعبة على الإطلاق. وكذلك نقارن بين الرواية والفيلم، من خلال الأخذ بعين الاعتبار كل من التمثيل، وكتابة السيناريو، واختيارات التحرير.
تنويه هام: لمن لم يقرأ الرواية أو يشاهد الفيلم، سيحتوي المقال على حرق للأحداث. لذا يمكنك أن تكمل على مسؤوليتك الشخصية، أو تذهب لقراءة الرواية أو مشاهدة الفيلم وتعود مرة أخرى لقراءة المقال.
الخوف من المجهول
تفتتح أحداث الرواية على بطلتها مالوري، تحاول أن تقرر ما إذا كانت ستبحر مع أولادها عبر النهر إلى ملاذٍ آمن أم لا. فهي لديها طفلان، في الرابعة من العمر، وفي خضم حدث عالمي مروّع ينذر بنهاية مأساوية للجنس البشري؛ حيث احتلت كيانات غامضة عالمنا، عندما ينظر إليها الإنسان يصيبه الجنون والغضب العارم، يقتل أي شخصٍ يقابله، ثم ينتحر. لكن الرواية لا تشير أبدًا إلى ما يبدو عليه شكل هذه الكيانات.
«ماذا تعتقدي أن الناس يرون؟»
تسأل مالوري أختها شانون،
«لا أعرف، يا مالوري، ببساطة لا أعرف».
يطرح الأختان هذا السؤال على بعضهما البعض باستمرار، سيكون من المستحيل احتساب كمّ النظريات التي ظهرت عبر الإنترنت، فكلها تصيب مالوري بالرعب. إحدى النظريات تفترض أن هذا الجنون نتيجة لموجات الراديو في التكنولوجيا اللاسلكية، بينما تفترض نظرية أخرى أن هذه قفزة تطورية خاطئة في الجنس البشري. يدّعي أتباع العصر الجديد أن الأمر متعلق باقتراب الإنسانية مع كوكب قريب من الانفجار، أو الشمس التي تموت. بينما يعتقد البعض أن هنالك مخلوقات خارقة.
يترك هذا اللغز القارئ في حيرة من أمره، ما الذي قد يبدو عليه شكل هذا الشيء المرعب، وعدم معرفته ينمّي هذا الخوف الشديد من المجهول.
ومن أجل البقاء على قيد الحياة، تقرر مالوري وتوم وباقي رفاقهم أن يتنقلوا في هذا العالم المرعب بالخارج بينما هم معصوبي الأعين. وطوال أحداث الرواية، يجبر المؤلف شخصياته على ترك منازلهم الآمنة لاستكشاف عالم مرعب على نحو أعمى، وتصبح رؤيتهم ترفًا لا يملكونه.
ما يجعل الرعب مروعًا، لا سيما في القصص والروايات، هو هذا الخوف من المجهول. يلعب جوش مالرمان بخبرة على هذه النقطة، من خلال كتابة أغلب مشاهد روايته بدون أوصاف بصرية. تاركًا قرّاءه يختبرون ما تختبره مالوري والأطفال وهم معصوبي الأعين في رحلتهم عبر النهر، وما تختبره مالوري وتوم ورفاقهم بداخل المنزل فحسب. ومع أنه يصف عالمهم الداخلي بكثير من التفصيل، إلا أن غموضًا كثيفًا يكتنف ما يحدث بالعالم الخارجي.
ومن خلال تلاعبه بالتسلسل الزمني، يخلق تنافرًا معرفيًا قويًا من خلال حكي قصتين بالتزامن. واحدة تجري أحداثها في بداية نهاية العالم، قبل أن تلد مالوري، حين بدأت عمليات القتل والجنون الجماعي. بينما تحكي القصة الثانية عن رحلة مالوري وأطفالها، عندما غادروا منزلهم منطلقين في رحلة خطرة عبر النهر. وهو ما يجعل القراء يتساءلون دائمًا أين هم من أحداث القصة. ومرة أخرى، يزيد هذا الخوف من المجهول. (1)
Bird Box: بين الفيلم والرواية
أنتجت شبكة نتفلكس فيلمًا مقتبسًا من الرواية العام الماضي، وأخرجته (سوزان بيير – Susanne Bier) وقامت ببطولته الممثلة (ساندرا بولوك – Sandra Bullock).
تفتتح أحداثه على مالوري والصبي والفتاة، يستعدون لرحلتهم القاسية عبر النهر. ومع أن هذا المشهد الافتتاحي يقتبس من الرواية، عندما تخاطب مالوري طفليها:
لا ينزع أي منكم عصابة عينيه، تحت أي ظرف من الظروف، فإن فعلتم هذا سوف أؤذيكم، هل تفهمون؟
يبدو أن أوجه التشابه بين الرواية والفيلم تنتهي هنا. فتناول الفيلم يبدو مختلفًا بالمقارنة مع الرواية، حيث تحاول المخرجة سوزان بيير أن تنقل ذات العناصر ولكن بطرق مختلفة.
وفي مقابلة مع المؤلف جوش مالرمان، اعترف انه لم يشارك برأيه في نسخة الفيلم من «صندوق الطيور – Bird Box». كما أضاف أيضًا أنه إذا امتلك الاختيار فستجري نصف أحداث الفيلم في الظلام الدامس. ومع ذلك، قال أنه أحب المنتج النهائي للفيلم، والسيناريو، وكذلك رؤية المخرجة سوزان بيير للرواية. (2)
ومع أنها قامت بعمل رائع في تصوير الوحوش بدون الكشف عنها فعليًا للمشاهدين، فلا يزال يتوجب عليها تقديم صورة مرئية على الشاشة. لذلك تنحرف عن أحداث الرواية، من خلال تقديم أصوات الرياح والهمسات محاولةً تصوير خوف مماثل لما ينتج من الرواية. لكن يخسر المشاهدين قليلًا من الرعب الذي عانى منه القراء؛ فمن خلال رؤيته على الشاشة فلا يوجد الكثير من المجال لإثارة الخيال.
علاوة على ذلك، هناك شيء لم تناقشه الرواية بدقة، وهو التغير الجسدي الذي يتغلب على أي شخص يرى هذه الكيانات. يصور الفيلم هذا التغيير الجسدي السريع مع توسع بؤبؤ العين، وتغيير تعبيرات الوجه، ونوع من ابتسامة الجنون. وينزع هذا أيضًا الخوف من المجهول؛ لأنه أصبح مرئيًا لدى المشاهدين.
في الفيلم، تتداخل مشاهد رحلة النهر مع مشاهد من أحداث سابقة في المنزل وقبل وقوع الأحداث المروعة، مما يسهم في التنافر المعرفي. بينما ينقسم الكتاب لفصول قصيرة جدًا، وتتناوب الفصول في التسلسل الزمني، يخلق المؤلف عدم انسجام فريد من نوعه، ولكنه في ذات الوقت مترابط ومتماسك؛ يبدأ أحد الفصول بعناصر مشابهة تعكس نهاية الفصل السابق.
لكن لم يمتلك الفيلم هذا الترابط والتماسك؛ قُطعت المشاهد القصيرة معًا لخلق التوتر اللازم، ومحاكاة أسلوب كتابة المؤلف مالرمان في الرواية، في حين أن عرض جرائم القتل والانتحار بشكل صارخ يحاول أن ينقل عامل الصدمة للمشاهد.
عنصر آخر يفتقده الفيلم عن الرواية، وهو الحوار الداخلي لشخصية البطلة مالوري، خاصةً في مشاهد رحلة النهر. فيحاول الفيلم التركيز على العناصر المرئية والصوتية في الأحداث، بدلًا من التركيز على الحوار الداخلي للشخصيات؛ لذا يفتقد إلى جزء كبير من تطور شخصية مالوري، تاركًا المشاهد بمعلومات قليلة عمّا يجري بداخل رأسها.
وفقًا لمجلة (People Magazine)، صرّحت النجمة ساندرا بولوك بأن أدائها في الفيلم كان: «قصة حب عميقة وعاطفية حول ماهية العائلة، وما يحدث في العالم، وما يجعل الناس يضرّون بأنفسهم». ومع أن أداء ساندرا بولوك لشخصية مالوري كان أكثر من رائع، إلا أن عدم وجود بعد أعمق للشخصية أعاق هذا الأداء قليلًا. (3)
ومع كل ما قيل، ربما كانت النهاية هي أكثر الاختلافات إثارة للجدل بين الفيلم والرواية.
يقول ريك: لم تكن مسألة اختيار، نحن أعمينا أنفسنا بما استطعنا إيجاده، سكاكين المطبخ، أو أصابعنا، أو أي شيء. العمى، يا مالوري، كان وسيلة الحماية المطلقة. ولكنها الطريقة القديمة، لم نعد نفعل ذلك بعد الآن. فبعد مرور عام، أدركنا أننا قمنا بتحصين هذا المكان بما يكفي لتخفيف هذا العبء المريع على أكتافنا.
تنتهي الرواية نهاية مظلمة وكئيبة؛ الإجراءات القصوى التي يتحملها كل شخص تذكر القراء بما قد تلجأ إليه هذه الشخصيات من أجل البقاء.
بينما يختار الفيلم نهاية سعيدة تناسب قصص الأطفال، والتي قد لا تسعد معظم المشاهدين بالمقارنة مع نهاية الرواية. يُظهر مشهد الختام مالوري وطفليها في حديقة مغلقة محاطون بأشخاص يبتسمون وأطفال يلعبون، وتطلب منهم مالوري أن يطلقوا سراح الطيور التي كانوا يحملونها معهم طوال رحلة النهر في علبة الأحذية، لتنضم الطيور إلى باقي أصدقائهم. لينتهي الفيلم نهاية سعيدة، قد لا تعجب بعض المشاهدين.
كتابة وإعداد: محمد يوسف
المصادر:
1.Malerman, Josh. Bird Box. United States, Harper Collins, 2014. E-book.
2.Browne D, Browne D. ‘Bird Box’: Meet the Indie-Rock Lifer Behind the Netflix Hit [Internet]. Rolling Stone. 2019 [cited 2019 Mar 7]. Available from: https://www.rollingstone.com/music/music-features/bird-box-netflix-writer-josh-malerman-782645/
3.Bird Box: Everything to Know About Netflix Thriller Starring Sandra Bullock | PEOPLE.com [Internet]. [cited 2019 Mar 7]. Available from: https://people.com/movies/bird-box-everything-to-know-sandra-bullock-sarah-paulson/