الانتحار: اختيار أم إجبار؟

123

يتوفى كل عام حوالي مليون شخص حول العالم انتحارًا، ويزداد هذا العدد بمعدل 0.0145% سنويًا. كما يحتل الانتحار المركز العاشر من حيث أعداد الوفيات حول العالم [1].

يعتبر الانتحار سلوكًا معقدًا جدًا، وإلى الآن لم تُكتَشَف جميع أبعاده. ليس كما يعتقد الكثير أنَّ كل حالات الانتحار تكون إراديًا لأسباب مادية أو اجتماعية أو نفسية أو غيرها؛ فمن خلال دراسات تفصيلية في صلب هذا الموضوع يظهر لنا أنَّه ربما يكون هناك أسباب قهرية تؤدي إلى الانتحار.

سنتحدث فما يلي عن حالات الانتحار التي يرجع فيها لأسباب بيولوجية (فسيولوجية أو وراثية) بحتة، ولكن قبل أن نتطرق لتلك التفاصيل سأتحدث أولًا عن بيولوجيا الانتحار.

  • بيولوجيا الانتحار:

يوجد ثلاثة أنظمة بيولوجية عصبية تلعب دور في السلوك الانتحاري؛ هم النشاط الزائد في المحور تحت المهادي-النخامي-الكظري (Hypothalamic-Pituitary-Adrenal axis (HPA axis))، والنشاط الزائد للأدرينالين -ينشأ هذان النظامان استجابةً للضغوط النفسية الشديدة-، والخلل الوظيفي للسيروتونين -هذا النظام ربما يكون وراثي ويتصف بعدم القدرة على تنظيم القلق والعدوان- [2].

قد لوحظ ارتفاع نسبة هرمون الكورتيزول (Cortisol) -تفرزه الغدة الكظرية- في البول لدى المصابين حديثًا بالأفكار الانتحارية (Suicidal attempts) عن النسب الطبيعية [3]. كما وجد العلماء أنَّ هرمون أرجنين فازوبرسين (Arginine vasopressin (AVP))، وهو هرمون يفرز من الغدة النخامية كمضاد لإدرار البول، يزداد تركيزه في بلازما الدم عند مرضى الاكتئاب الذين تراودهم أفكار انتحارية [4]. دراسات أخرى تؤكد وجود هرمون (Corticotropin-releasing hormone (CRH))، الذي يفرز من تحت المهاد، بمعدلات أعلى لدى ضحايا الانتحار [5]، كل هذه النتائج تبرهن نشاط (HPA axis) عند الإقبال على الانتحار.

تؤكد لنا أيضًا الأبحاث التي أجرتها العالمة ماري أسبرغ (Marie Åsberg) وفريقها وجود علاقة عكسية بين تركيز حمض 5-هيدروكسي إندول أسيتك (5-Hydroxyindoleacetic acid (5-HIAA)) وهو مركب ناتج عن أيض السيروتونين، ووجود الأفكار الانتحارية عند مرضى الاكتئاب، وفصام الشخصية، واضطرابات الشخصية [6]. دراسات متعددة أخرى تثبت زيادة نشاط هرمون النورإبينفرين (Norepinephrine) نتيجةً للضغوط النفسية الزائدة [7]. هذه النتائج وغيرها تساعد في تشخيص الحالات بشكل أدق وتوقع حدوث الانتحار وبالتالي التقليل من هذا السلوك.

  • الانتحار نتيجة للإصابة بمرض نفسي:

يوضح لنا الخبراء أنَّ من (20%) إلى (60%) من ضحايا الانتحار مصابون بالاضطرابات المزاجية (Mood disorders)، وتعتبر هذه الاضطرابات هي أكثر الأمراض ارتباطًا بالانتحار [8]، والاكتئاب (depression) هو أكثرها شيوعًا. حسب تقرير منظمة الصحة العالمية (The World Health Organization (WHO)) يوجد 121 مليون شخص حول العالم يعاني من الاكتئاب، بنسبة (5.8%) من الذكور و(9.5%) من الإناث [9]، ويتوقع أن يكون ثاني الأمراض انتشارًا حول العالم عام 2020م بعد الأمراض القلبية [10].

تزداد أيضًا فرصة حدوث الانتحار إلى حوالي 15 ضعف لدى المصابين بالاضطراب ثنائي القطب (Bipolar disorder)[11]. وهو اضطراب مزاجي أيضًا يصيب 5 أشخاص من كل 1000 [12]. أمَّا في حالات فصام الشخصية (Schizophrenia) فحوالي (40%) تراودهم الأفكار الانتحارية، ومن (4-10%) في خطر حدوث الانتحار [13]، والمصابون بالفصام أنفسهم أعدادهم حوالي 24 مليون مصاب حول العالم، بمعدل 7 أشخاص من كل 1000 شخص [9].

في العموم لا ترتبط فرص حدوث الانتحار بشدة المرض النفسي، ولكن الجوانب الشخصية والسلوكية في المريض هي التي تزيد أو تقلل فرصة الانتحار (أي تفاوت الميول والأفكار)، وتتكون هذه الجوانب نتيجة لأسباب مختلفة مثل: العامل الوراثي، والتعرض لحادث مأساوي في الماضي، والإصابة بمرض مزمن، وتناول الكحول، وبعض الوجبات الغذائية التي تحتوي على نسب منخفضة من الكوليستيرول [14].

  • الانتحار نتيجة لتناول الأدوية المضادة للاكتئاب:

ربما من الغريب حقًا أنَّ الأدوية التي ابتُكِرَت وصُنِعَت لعلاج الاكتئاب (Antidepressant) تزيد أحيانًا من التفكير والسلوك الانتحاري، حيث لوحظ أنَّ المرضى الذين يتناولوا الأدوية التي تثبط استرجاع السيروتونين (Selective Serotonin Reuptake Inhibitor (SSRI)) يتطور لديهم أيضًا الهوس (Mania) أو سلوك العدوان والعنفوانية كأعراض جانبية قد تؤدي إلى الانتحار.

أُجري اختبار على أطفال يعانون من بعض الأمراض النفسية كالاكتئاب والوسواس القهري وغيرها، حيث يتم علاجهم بمضادات الاكتئاب (SSRI)، أوضحت النتائج أنَّ نسبة (4%) من المرضى يعانون من التفكير والسلوك الانتحاري بعد مدة من العلاج، مقارنةً بنسبة (2%) من المرضى تناولوا أقراص مشابهة لأقراص (SSRI) لكنها دون أي تأثير ضار أو نافع (Placebo). في عام 2010م نشرت منظمة الغذاء والدواء الأمريكية (Food and Drug Administration (FDA)) دراسةً توضح أنَّ خطر الانتحار يزداد مع زيادة استخدام (SSRI)[15].

  • الانتحار لأسباب وراثية:

بعد اكتشاف الحمض النووي (DNA) والجينوم البشري، بدأ يراعي العلماء الربط بين الأمراض أو السلوك البشري والجينات. وجد العلماء أنَّ السلوك الانتحاري قد يحدث لأسباب وراثية؛ أغلب الدراسات تؤكد أنَّ معدل حدوث السلوك الانتحاري عند الأشخاص الذين لهم أقرباء يعانون من سلوك أو أفكار انتحارية أكبر من غيرهم (ليس في العائلة شخص مصاب) [16،17].

كما نُشرت نتائج عام 2000م تفيد أنَّ معدل الانتحار يزداد في الأسرة التي بها مرضى نفسيين قاموا بالانتحار عن الأسرة التي بها مرضى نفسيين أيضًا لكن لم يحاولوا الانتحار [18]. في الولايات المتحدة نشرت نتائج أخري فيها عدد 7 حالات من 62 حالة توأم متماثل مشتركين في الأفكار والسلوك الانتحاري، بينما بالنسبة للتوأم المتآخي كانت النتيجة 2 من 114 [19].

  • نصائح لتجنب خطر الانتحار:

نسبة كبيرة من حالات الانتحار تحدث نتيجةً للأمراض النفسية، وبالتالي فإنَّ اكتشاف المرض والعلاج بالحال يقلل من فرص حدوث الانتحار. كذلك تقليل أو الابتعاد عن الكحول والوجبات التي تحتوي على معدلات كوليسترول منخفضة ووصف أدوية آمنة لا تزيد من خطر الانتحار.

بجانب العلاج الدوائي لابد أن يكون هناك علاج سلوكي لتقويم السلوكيات السلبية لدى هذه المجموعة، فبينما يتحدث المريض مع الأخصائي النفسي الذي يتولى رعايته فإنَّ خطر الانتحار يقل بنسبة (50%)[15]. يجب أيضًا مراعاة الخطوات التالية أثناء العلاج السلوكي: أولًا، يجب أن يتعرف المريض على الأشياء التي تثير أفكار الانتحار ليبتعد عنها. ثانيًا، تقليل استرجاع الذكريات السيئة والتركيز والانشغال أكثر بالأمور الجارية. ثالثًا، تشجيع المرضى لأداء السلوكيات والعادات الإيجابية [2].

 

إعداد: عصام محمد هشام

مراجعة: إسلام سامي

مراجعة لغوية: أمنية أحمد عبد العليم

المصادر:

  • Hawton K, van Heeringen K. Suicide. The Lancet. 2009;373:1372–1381.
  • Heeringen K. Can J Psychiatry. 2003;48:292–300.
  • Van Heeringen C, Audenaert K, Van de Wiele L, Verstraeten A. Cortisol in violent suicide attempters: association with monoamines and personality. J Affect Disord 2000;60:181–9.
  • Inder WJ, Donald RA, Prickett TCR, Frampton CM, Sullivan PF, Mulder RT, and others. Arginine vasopressin is associated with hypercortisolemia and suicide attempts in depression. Biol Psychiatry 1997;42:744–7.
  • Arato M, Banki CM, Bissette G, Nemeroff CB. Elevated CSF CRF in suicide victims. Biol Psychiatry 1989;25:355–9.
  • Åsberg M, Träskman L, Thoren P. 5-HIAA in the cerebrospinal fluid. A biochemical suicide predictor? Arch Gen Psychiatry 1976;33:1193–7.
  • Mann JJ. A current perspective of suicide and attempted suicide. Ann Intern Med 2002;136:302–11.
  • Jamison, K.R. (2000), “Suicide and Bipolar Disorder,” Journal of Clinical Psychiatry, vol. 61, Suppl 9, pp. 47-51.
  • World Health Organization (2001), “Mental and Neurological Disorders,” Fact sheet No. 265, who.int
  • Peveler, R., et al. (2002), “ABC of Psychological Medicine: Depression in Medical Patients,” British Medical Journal, vol. 325, pp. 149-52.
  • Harris, E.C., et al. (1997), “Suicide as an Outcome for Mental Disorders,” British Journal of Psychiatry, vol. 170, pp. 205-28.
  • Sane (2000), “Depression and Manic Depression,” sane.org.uk
  • World Fellowship for Schizophrenia and Allied Disorders, “Schizophrenia and Suicide,” Pamphlet No 23,world-schizophrenia.org.
  • Mann JJ. The neurobiology of suicide. Nat Med 1998;4:25–30.
  • https://www.drugwatch.com/ssri/suicide/
  • Johnson B. A, Brent D. A, Bridge J, Connolly J. The familial aggregation of adolescent suicide attempts. Acta Psychiatr Scand. 1998;97(1):18–24. [PubMed]
  • Brent D. A, Bridge J, Johnson B. A, Connolly J. Suicidal behavior runs in families. A controlled family study of adolescent suicide victims. Arch Gen Psychiatry. 1996;53(12):1145–1152. [PubMed]
  • Tsuang M. T, Boor M, Fleming J. A. Psychiatric aspects of traffic accidents. Am J Psychiatry. 1985;142(5):538–546. [PubMed]
  • Roy A, Segal N. L, Centerwall B. S, Robinette C. D. Suicide in twins. Arch Gen Psychiatry. 1991;48(1):29–32.[PubMed]
شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي