قياسات المادة المضادة ووجود الكون

antiproton

إذا كان كوننا المنظور مكون من المادة العادية فأين ذهبت المادة المضادة منذ البداية وعقب الانفجار العظيم مباشرة؟ كيف كانت الأفضلية للمادة وكيف فازت بالسبق؟ أين تلاشت المادة المضادة؟ وما هو الاختلاف بينهما؟ وهل كان سيكون هناك كون بدون وجود هذا اختلاف؟ بالطبع لا.

تُعتبر فكرة عدم فناء الكون بسبب وجود المادة المضادة واحدة من أحد أهم الألغاز الغامضة في المنتشرة بين مجتمع الفيزياء الحديثة، ولتوضيح ذلك افترض الفيزيائيون وجود اختلاف في الإشارة الكهربية بين المادة والمادة المضادة وأيًا كان هذا الاختلاف فهو ليس في مغناطيسيتها كما يبدو، فقد قام مجموعة من العلماء في سيرن (CERN) بسويسرا بالقيام بقياسات دقيقة للعزم المغناطيسي لمضاد البروتون، العدد الذي يقيس مدى تفاعل الجسيم مع القوى المغناطيسية، وقد وجدوا أنَّه يُطابق البروتون العادي ولكنه مختلف في الإشارة، وقد تمَّ وصف الشغل في الطبيعة.

وقد قال كريستين سمورا الفيزيائي في سيرن وأحد العاملين بتجربة تناظر الباريونات ومضادات الباريونات(BASE):

«أوضحت كل مشاهداتنا التناظر التام بين المادة ومضادها والتي توضح بجلاء أنَّ الكون بالفعل لم يخرج للنور، يجب أن يظهر عدم التناظر هنا بشكلٍ ما ولكننا ببساطة لا نفهم أين الاختلاف تحديدًا».

المادة المضادة غير مستقرة كما يبدو فهي تتفاعل عند أقل اتصال مع المادة العادية وتضمحل في أشهر تفاعلات الفيزياء حاليًا والأكثر فعالية مما ينتج عنها طاقة نقية هائلة، ولهذا السبب تمَّ اختيارها كوقود لتشغيل المركبة الفضائية في ستار تريك.

ويتنبأ النموذج القياسي بأنَّ الانفجار العظيم يجب أن ينتج كميات متساوية من المادة والمادة المضادة على حدٍ سواء، ولكن هذا الخليط سيقوم بإبادة نفسه بنفسه مخلفًا وراءه العدم، أي لا شئ يسمح بوجود المجرات والكواكب أو البشر.

ولتوضيح الغموض حاول الفيزيائيون اللعب لاستنباط الفرق بين المادة والمادة المضادة بحثًا عن بعض الاختلافات مما قد يفسر سبب هيمنة المادة العادية على الوجود، ولذلك قاموا بالعديد من القياسات الدقيقة لجميع الخصائص: الكتلة والشحنة الكهربية وما إلى ذلك ولكن للأسف لم يتم العثور على أي فارق او اختلاف حتى الآن. وفي العام الماضي قام العلماء القائمين على تجربة ألفا (ALPHA) في سيرن (CERN) بسبر أغوار ذرة هيدروجين مضادة بواسطة الضوء لأول مرة والقيام بمقارنتها مع ذرة هيدروجين عادية ومرة أخرى لم يتوصلوا إلى وجود أي اختلاف.

ولكن هناك خاصية واحدة تُعرف فقط لمتوسط الدقة مقارنة مع الآخرين وهي العزم المغناطيسي لمضاد البروتون، فمنذ عشر سنوات أخذ ستيفان أولمر على عاتقه هو وفريقه مهمة محاولة تعيينه، أولًا قاموا بتطوير طريقة مباشرة لتعيين العزم المغناطيسي للبروتون العادي، وذلك عن طريق أسر البروتونات الفردية في مجال مغناطيسي والقيام بقفزات كمَّية في مغزلهم باستخدام مجال مغناطيسي آخر، وهذه التقنية بحد ذاتها سبق عظيم ونُشرت في مجلة ناتشر Nature 2014.

ثمَّ بعد ذلك قاموا بنفس القياسات للبروتون المضاد وقد تضاعفت صعوبة المَهمة هنا لأنَّ البروتون المضاد معرض للانحلال عند أي اتصال مع المادة العادية، ولكي يتجنبوا ذلك قام الفريق باستخدام المادة المضادة الأبرد والأطول عمرًا من ما تمَّ تخليقه على الإطلاق، وبعد تخليق هذا البروتون المضاد في 2015 أصبح الفريق قادرًا على تخزينه لمدة تزيد عن العام في حجرة خاصة في حجم وشكل عبوة البرينجلز، ولأنَّه لا يوجد عبوة حافظة طبيعية قادرة على تخزين المادة المضادة استخدم الفيزيائيون المجالات الكهربية والمغناطيسية لاحتوائها في أجهزة تدعى مصائد بيننج.

وعادةً يكون متوسط عمر المادة المضادة مقرونًا بمدى نقاء المصائد فعدم الاستقرار الطفيف يؤدي إلى فنائها، ولكن باستخدام مصيدتين من مصائد فريق دكتور ستيفان استطاع الفريق حبس المادة المضادة لمدة 405 يوم على التوالي وبهذا تُعَد هذه أفضل غرفة لاحتواء المادة المضادة على الإطلاق حتى الآن، وقد سمح هذا التخزين المستقر لهم بتشغيل تعيين العزم المغناطيسي للبروتون المضاد، وكانت النتيجة μN) 2.7928473441 μN هو ثابت يُسمى بالمغناطيس النووي Nuclear magneton وهو يعادل 3.152×10-8 eV.T-1)، وجود علامة السالب في القياس تطابق سابقتها في البروتون العادي.

يُعتبر القياس الجديد دقيق بنسبة كبيرة تصل إلى تسعة أرقام، أي ما يعادل تعيين محيط الأرض في بضعة سنتيمترات، وأكثر دقة بمقدار 350 مرة عن أي قياسٍ سابقٍ، وقال أولمر:

«هذه النتيجة هي تتويج لسنوات عديدة من البحث والتطوير المستمر، والانتهاء بنجاح واحدة من أصعب القياسات التي أجريت على الإطلاق في أداة مصيدة بينينج».

لقد انطلقت أعظم لعبة كونية لتعيين الاختلافات، وستنتهي التجربة التالية المتوقعة في ألفا (ALPHA) حيث يدرس علماء سيرن تأثير خطورة المادة المضادة – في محاولة للرد على السؤال حول ما إذا كانت المادة المضادة قد تسقط حتى.

وأخيرًا وليس آخرًا، لازلنا في بداية الطريق نتلمس الخطى لمعرفة بداية النشأة ولاكتشاف وجود أكوان أخرى، وهل يتكون بالفعل كون بالموازاة لكوننا بالمادة المضادة الخالصة كما هو الحال معنا؟ وهل هناك احتمالية لتصادمهما بالفعل؟ هذا ما يحاول مجتمع الفيزياء الإجابة عنه.

 

ترجمة وإعداد: آية غانم

مراجعة: محمد المصري

المصدر:

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي