سكارى.. نازيون وذكورية فاشية: أدب مقاومة هانس فالادا المتناقض

أدب المقاومة لدى هانس فالادا.

في أغسطس عام ١٩٤٤، بُعِث الكاتب الألماني الأكثر بيعًا عالميًّا، هانس فالادا، رودلف ديتزن بالولادة، إلى سجن نازي للأمراض النفسية. غير ثمل وواعٍ لأول مرة منذ شهور، بدأ بكتابة الشارب (The Drinker)؛ رواية ترسم أصول (أروين سومرز) مالك مشروع صغير، من حياة برجوازية محترمة لِسُكرٍ معربِد وحبس. مكتوبة في أسبوعين وبخطٍ ضئيل على ٢٤ ورقة، وتَعرض الرواية تشريح مأساوي هزلي للذكورية الألمانية. ما يبدأ بوصف للمنزل بدايةً من شبكة العنكبوت شمال الموقد إلى «مغامرات ممسحة»، ينتهي بسلسلة من التجاوزات تقشعر لها الأبدان: سرقة، وتهديدات بالعنف، وشروع بالقتل.

بالرغم من عدم ذكر النازيين، فإنه من الصعب عدم قراءة «الشارب» كرد على السياق الاجتماعي الواسع لفالادا، خاصةً أنه كتبها سرًّا وتحت خطر عظيم. وَضعت ترجمة إنجليزية تمت في عام ٢٠١٩ الرواية في إطار لغة اليسار الوسطي كحركة المقاومة «لا لترامب»، واصفةً أروين سومرز برجل الأعمال البسيط الذي يقاتل ببسالة ليبيد مجتمعًا في غاية الاستبداد. ولكن القراء الذين يبحثون عن البطل بداخل سومرز سيُخذَلون ليجدوا البطل المخالف للأعراف (Antihero) بامتياز. ومع نهاية الرواية ومن خلال مزيج عجيب من الضعف والعناد، أثبت سومرز أنه لا شيء إلا أنه سكِّير. العلاقة الغرامية التي ربطت سومرز بالكحول -غالبًا كعلاقة فالادا بها- ليست ردًّا على الاشتراكية الوطنية (النازية) أكثر من أنها نقطة تُحسب ضد إجمالي جرائم ألمانيا.

الكاتب الألماني هانس فالادا.
الكاتب الألماني هانس فالادا

يكتب (أمبرتو إكو) في مقاله «الفاشية الدائمة»:

«لتنجح الفاشية يجب على متابعيها أن يشعروا بالخزي. تتغذى الفاشية على هذا الخزي سواء اقتصادي أو وطني أو چندري أو عرقي، وتشجع متابعيها على توجيه هذا الإحباط نحو العدو الآخر الذي يتضح من خلال منطق هش أنه مصدر كل مشاكل المجتمع»

وفقًا لإكو: «من التناقضات الواضحة التي أظهرتها التحولات في الخطاب الفاشي اعتبار أن العدو ذاته يمكنه تارةً أن يكون غاية القوة، وفي منتهى الضعف تارةً أخرى». وذلك ما يجعل من المؤيدين ضحايا ومنتصرين بنفس الوقت، أبطالًا ومستضعفين نبلاء. في حال ألمانيا، سَخَّر (هتلر) إخصاءات زمن الفايمار، تفشي البطالة، المرأة في القوة العاملة، وإذلال فيرساي، ووظف تلك الإحباطات في شكل اليهودي الأدنى منزلة بالأصل بالرغم من مكره وقوته.

وفي حين عدم اكتراث أروين سومرز بخطر اليهود، فهو يزعم أنه ضحية، على الأقل وهو سكير. حين تسوء عاداته يلتف الأطباء، سكان المدينة، الصرافون، والموظفون حول زوجته (ماجدة) في مؤامرة نسوية غير واضحة الملامح. ماجدة تسعى لتنال منه، فهي تريد أن تحصل على ممتلكاته، فتعتقد أنها يجب أن تكون المتحكمة. يخبرها أروين قبل الإصرار على الطلاق: «لا يناسبني أنك ترفعين من نفسك وتحاولين التطاول عَلَيَّ بكل هذا الكلام عن كوني سكِّير، أنا فائق كأنقليس في الماء، وأذكى وأكثر منك فاعلية بعشر مرات». ومع ذلك كان يعترف في بداية الرواية أن ماجدة أفضل في ريادة الأعمال، نشطة ومغامرة أكثر، و«أفضل في المعاملات مع الناس».

بالرغم من إدراك سومرز بعجزه -بصورة أو بأخرى- كان يدفعه الخوف من ضعفه للغرق في سُكْرته.  يقول في افتتاحية الرواية:

«دائما ماكنت رجلًا حساسًا، في احتياج عطف وتشجيع من حولي، بالرغم من أنني بالطبع لم أظهر هذا وأحببت الظهور واثقًا ومتمالكًا نفسي»

هذا التنافر بين شخصيته في الخفاء وهويته في العلن صنع فجوة لم يستطع ملْئها إلا الكحول.

رأى قادة ألمانيا النازية مدمني الكحول مرضى ومرفوضين اجتماعيًّا، ومن جانب آخر يحبذون الشرب بين الجنود والمليشيات.

في اللحظات الحاسمة، تدفع فرص الاعتذار والتصحيح الذاتي والإهانات البسيطة أو المتخيلة سومرز إلى تصعيد مشاكله، إما عن طريق الكذب أو الشرب أو الهجوم على ماجدة. والنتيجة في كثير من الأحيان هي شبح شديد الذكورة يعترف به حتى سومرز أنه أداء. فبعد محاولته لساعات لتسلق جدار «بالعناد الذي يكتسبه السكارى نحو مهام مستحيلة»، يستطيع سومرز الدخول إلى حانة بالتظاهر بوجود مسدس في جيبه، يهدد بإطلاق النار على سيدة عجوز ويشعر أنه يجب عليه «أن يكون مَهيبًا خبيثًا، وأن يظهر استبداده للناس».

رواية الشارب لهانس فالادا.
رواية الشارب لهانس فالادا.

ومع ذلك فإن نوبات التبجح العنيفة هذه معقدة بسبب اللحظات التي يتفاخر فيها سومرز «بإحساس مؤلم بالتذلل الذاتي». في بداية الرواية، نظرته نادلة بنظرة «تخترق جذور رجولتي، كما لو كنت أسعى لمعرفة كم كنت رجلاً؛ بدت نظرة شهوانية، شيء وقح بالطافة وآلم، كما لو كنت عاريًا أمام عينيها». إذا كان لدى سومرز شعار لكان أسفل وأسفل وأعمق وأعمق! شعور يتكرر بأشكال مختلفة.
إذن ما الذي يقود أروين سومرز؟ هل يدمر نفسه بالكحول لكي يشعر -مؤقتًا على الأقل- بأنه رجل؟ أم بسبب فشله في أداء دور الرجولة؟ هل يتوق إلى أن يشعر بأنه محرج وحبيس ومسيطر عليه وفضح هويته الحقيقية؟

يُسجن سومرز في النهاية لتهديده بقتل زوجته أثناء مشاجرة على فضتهم. انتهى المشهد بسادية مازوخية قاتلة: «افترض أنك قبلتها فجأةً، وهمست بكلمات الحب في أذنها؟» يفكر في ذلك أثناء تصارعهم، وبدلًا من قول ذلك يقول: «ليلة الغد سآتي وأقتلك»، يمسك الحقيبة المليئة بالفضة مترنحًا. بعد إيقافه، يقضي فترة في السجن المحلي، الذي من سخرية القدر كان أكبر عقد لشركته، ثم يتم نقله إلى مستشفى للأمراض العقلية، حيث يقضي وقته في صنع الفرش ومراقبة زملائه المنكوبين. في نهاية الرواية يخبرنا أنه قد أصاب نفسه بمخاط من قارورة بلغم مريض بالسل لكي يموت «موتًا من اختياري».

بالرغم من عدم وضوح سنة تدهور سومرز، ربما عن قصد، فإن تجاربه تتوافق تمامًا مع النهج المتناقض للاشتراكية القومية تجاه الكحول. واعتبر قادة ألمانيا النازية مدمني الكحول مرضى و«مرفوضين اجتماعيًا»، ومن جانب آخر حبذوا الشرب بين الجنود والمليشيات.
منذ البداية استخدم النازيون طقوس الشرب لخلق شعور بالأخوة وإعداد أفرادها لأعمال العنف. يشرب أعضاء جيش الإنقاذ ويغنون أثناء التجمعات في الحانات، وغالبًا ما يخرجون إلى الشارع بعد ذلك لإحداث الفوضى.

ولاحقًا مع تصاعد شجار الحانات ومعارك الشوارع إلى قتل وإبادة جماعية، كان الكحول بمثابة حافزٍ للقتل، ومساعد للترابط بين الذكور، وطريقة للتَكيُّف، وفقًا للمؤرخ إدوارد ويسترمان.
في الجيستابو شارك الرجال في «احتفالات النصر» في حالة سكر بعد أعمال «التحرير من اليهود». في بولندا وصفت امرأة يهودية شم رائحة الجثث المحترقة أثناء مشاهدتها «مجموعة من رجال الجيستابو الذين كانوا يجلسون بجانب النار، يغنون ويشربون».

يقاوم الشارب العثور على أي شيء تعويضي أو عميق أو أصيل مفيد في ثورة سومرز البائسة.

وعلى الرغم من قابلية استهلاك الكحول بين الشعب الألماني كان غير مُحبَّذًا، تم طرد مدمني الكحول العنيدين من (Volksgemeinschaft) أو «مجتمع الناس»، وغالبًا ما يقضون سنوات خلف القضبان. من بين ٠٠٠ ٣٥٠  شخص تم تعقيمهم من قبل النازيين بموجب «قانون منع النسل المصاب بأمراض وراثية»، كان الآلاف على الأرجح من مدمني الكحول. عندما يتم استغلاله في أعمال التواصل الاجتماعي المثلي والقتل الجماعي، بعبارة أخرى كان استهلاك الكحول موضع ترحيب، ولكن عندما يتم اتباعه في حد ذاته، باعتباره إدمانًا مستهلكًا أو شغفًا راسخًا، يصبح السكر «معاديًا للمجتمع»، وهو تهديد لكل من تجمع الجينات والنظام الشمولي.

هذا يعيدنا إلى أروين سومرز، على الرغم من كونه القشة التي قسمت ظهر البعير في النظام الاجتماعي القائم، فإن سومرز يظل عَرَضًا من أعراض هذا النظام من جوانب كثيرة. إن عدم عمليته، وعدم رضاه عن الحياة البرجوازية ورغبته في القضاء على نفسه، والظلم العام، كلها صفات تنسبها (هانا أرندت) إلى الموضوع المثالي للحركات الجماهيرية مثل الاشتراكية القومية. ووفقًا لأرندت، فإن الناس من هذا النوع هم الأكثر عرضة لعبادة هتلر وأيديولوجية الاشتراكية القومية الشاملة، والتي وفرت لهم الحرية «من فوضى الآراء» وسعت في النهاية إلى «إخماد الهوية الفردية تمامًا».

مثل النازية بالنسبة للشعب الألماني، فإن إدمان الكحول بالنسبة لسومرز هو جرعة مُبْسِطة وفترة راحة مؤقتة من الكارثة الاجتماعية وتوترات شخصيته. في «الشارب»، في بعض الأحيان يبدو أن سومرز لا يسعى للهروب من تنافر الإخصاء أكثر من الهروب من حياته تمامًا: «كنت الأكثر وحشية وسكرًا في المجموعة»، كما يقول قبل مواجهة مؤسفة مع اثنين من الأطباء المحليين بقليل: «شعرت بنفسي متحررًا تمامًا، كنت حقًا حجرًا يندفع في الهاوية – لم أعد أفكر مطلقًا.»

إن المفاهيم الذكورية، مثل الفاشية والشمولية، تزدهر على التناقض. وباستخدام نظرية الكاتب الإيطالي (جرامشي) عن الهيمنة الثقافية، وصف العلماء الأشكال السائدة للذكورية بأنها «مهيمنة». يقول جرامشي من أجل الحفاظ على الهيمنة تتضمن بمكر ما يبدو مخربًا لقوانينها. وبتطبيق هذا المفهوم على مفارقات كون الرجل الأبيض ضحية، كتبت (كلير سيسكو كينج):

«الرجولة البيضاء تسود ليس بطرد ما هو آخر، ولكن من خلال التضحية بأفكارها من أجل استيعاب الآخرين وإفساح المجال للآخر، وتقديم روايات عزيزة عن القوة الذكورية، والعدوان، والحصانة من أجل الانغماس في الأنوثة والسلبية والافتقار.»

ربما إذن، إروين سومرز ، بشوقه الساديّ المازوخىّ إلى الهاوية، ليس موضوعًا نازيًا تخريبيًا بقدر ما هو موضوع فاشل. في (Elinor “la pure d’alcohol”)، ساقٍ بذيء يلخص حبه للشرب، لقد اختار فقط المعبود الخطأ؛ يجب أن يدخر كل حبه لهتلر، ويوجه دوافعه المدمرة نحو القضية النازية. ويمكن قول الشيء نفسه عن فالادا، المدمن على الكحول والمورفين، الذي حاول إصدار كتبه لإرضاء النازيين، فقط لتلقي مراجعات وحشية من الصحافة الاشتراكية الوطنية.

ما الذي نستخلصه إذن من سياسة «الشارب»؟

كتب فالادا الكتاب معرضًا لخطر كبير في مشفى نازي، في نفس الوقت الذي كان يكتب فيه كتاب «غريب في بلدي»، مذكراته المناهضة للنازية. الأكثر جدية، وذاتية التبري، وغير الثاقبة سياسيًا. إذا كانت هذه المذكرات هي الأنا الخاصة بفالادا في ظل الفاشية، فإن «الشارب» هي الهو.
تقدم الرواية تشريحًا دقيقًا لنفسية الذكور الألمان في وقت كانت فيه الذكورة الألمانية يتم حشدها في مشروع إبادة جماعي واسع. كما يوحي المسار القاتم للنظام النازي، فإن هشاشة الذكور والذكورة المفرطة تتمتع بعلاقة حميمة خطيرة مع العنف: «علينا أن نبدو قاسين هنا وإلا سنخسر الحرب»، كتب أحد ضباط قوات الأمن الخاصة إلى زوجته، مشيرًا إلى القتل الجماعي لليهود: «لا مجال للشفقة من أي نوع».

لكن يبقى السؤال: هل رواية «الشارب» تفكك الإذلال الذي تستخدمه الفاشية كسلاحٍ أم مثل راويها هي مجرد الانغماس في هذا الإذلال؟ ربما تكمن الإجابة في رفض الرواية تحويل وصمة سومرز إلى شيء أكثر نبلاً أو استساغة. على النقيض من الروايات الفلسفية مع الرواة «الساقطين» (سقوط لكامو)، على سبيل المثال، يقاوم «الشارب» العثور على أي شيء تعويضي أو عميق أو مفيد في ثورة سومرز البائسة. وفي الواقع، تسخر بعض مقاطع الرواية المضحكة من جهود سومرز العاطفية لإيجاد معنى في مضايقاته. إذا كانت الفاشية تعتمد على خداع الذات المريح -إزاحة اللوم عن مشاكل المرء على مجموعة أو أخرى- إذن فهو كتاب يؤرخ، بشكل مؤلم ودقيق، عملية هذا الإزاحة هو ترياق محتمل للكراهية الفاشية.

عاش هانز فالادا العديد من الحيوات: مدمن مخدرات، بائع بذور بطاطس، مختلس، داعٍ نازي متردد، سكير، عمدة سوفياتي. لقد كان، مثل (هانز كاستورب) من «الجيل السحري»، من النوع الذي يعيش «ليس فقط حياته الشخصية، كفرد، ولكن أيضًا بوعي أو بغير وعي، حياة عصره ومعاصريه». على الرغم من السذاجة في كثير من الطرق -حتى كاتب التأبين الخاص به اعترف بأنه «ليس مفكرًا عميقًا»- كان فالادا موهوبًا في تقديم التوترات المعقدة لتجربته كموضوع سياسي. كان يمتلك، على حد تعبير (جون ويليت)، «اللاوعي السياسي الحساس للغاية.» ربما هنا، أخيرًا، نرى مدى ملاءمة الاسم المستعار لرودولف ديتزن: هانز لـ «هانس الذكي»، أحمق سعيد الحظ من قصة خيالية للأخوة جريم، وفالادا، لإبداع الجريم آخر، حصان يستمر في التحدث بالحقيقة، حتى بعد أن قطعت الملكة رأسها.

 

 

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي