الثورة الثقافية الصينية: القتل باسم الثورة  

Accused of bearing a resemblance to Mao, Heilongjiang province Governor Li Fanwu?s  hair is brutally shaved and torn by zealous young Red Guards in Red Guard Square. Harbin, 12 September 1966

تحدَّثنا في مقالٍ سابق عن القفزة العظيمة إلى الأمام، وكيف أدَّت الخطَّة التي أطلقها الزَّعيم الصِّيني (ماو تسي تونج) إلى موت عشرات الملايين من الصينيين من المجاعة. وبدلًا من أن تكون بوَّابة تعبر منها الدَّولة الصينية المُثقَلة بندوب سنينٍ طويلةٍ من الحروب والتَّقلُّبات السِّياسيَّة والاجتماعيَّة إلى مستقبل مزهر ومستقرّ؛ تحوَّلت إلى أحد أكبر الكوارث الإنسانيَّة في التَّاريخ، بل وأعادت الصين عشرات العقود إلى الوراء من ناحية التَّقدُّم.

إلَّا أنَّ كل ما حدث -على الرَّغم من فظاعته- كان مجرَّد الجزء الأوَّل من ذلك الفصل الدَّامي في تاريخ الصين؛ فبعد كارثة القفزة العظيمة إلى الأمام -والتي يتحمَّل ماو الجزء الأكبر من ذنبها- كان الدَّرس الذي تعلَّمه الدِّيكتاتور الصيني هو: إنَّ فشل خطَّته الكُبرى يرجع إلى تلك الأصوات المزعجة المعارضة لحكمه، والتي تسلَّلت إلى صفوف الحزب من أجل أن تفسد خطط ماو للنهضة بالبلاد.

وكان على رأس تلك «العناصر المُخرِّبة» فئةُ المثقَّفين؛ وذلك لأنَّ المثقَّفين كانوا أكثر مَن ينادي بتعدُّدية الآراء، وهو ما اعتبره ماو خطرًا على طريقته في الحكم. وهكذا قرَّر ماو أنَّه قد حان وقت تطهير صفوف الشَّعب من خلال ثورة جديدة، وهذه المرَّة لن يكون هدف الثَّورة طرد محتلٍّ أو الوصول للحكم؛ وإنَّما سيكون تطهير العقول وإعادة كتابة التَّاريخ.

ماو تسي تونج

خلفية تاريخية للسلطة في الصين

كانت بوادر معارضة سلطة ماو قد بدأت تظهر داخل الحزب الشِّيوعيّ الصينيّ الحاكم منذ العام 1956، حين أشار بعض قادة الحزب إلى ضرورة نبذ ما أسموه بِ(عبادة الأشخاص)، وكان معارضو ماو قد تشجَّعوا بما كان يحدث في الإتِّحاد السُّوفييتي وقتها من نبذ الحزب الشِّيوعيّ هناك للسِّياسات السّتالينيَّة وإدانة صاحبها. كلُّ ذلك جعل ماو يقرِّر أن ينحني مؤقَّتًا للعاصفة، ويوافق على عدم التَّرشُّح لمنصب رئيس الجمهورية؛ على أن يظلَّ مُحتفِظًا بموقعه كرئيسٍ للحزب الشِّيوعيّ الحاكم.

غير أنَّ ماو كان يدرك أنَّه إن لم يتحرَّك بسرعة؛فسرعان ما سيكون مصيره هو نفس مصير ستالين، الذي أدانه رفاقه ومساعدوه بعد وفاته، وتنصَّلوا من كلّ سياساته. كلّ ذلك أقنع ماو بأنَّ الثَّورة الرُّوسية قد ضلَّت طريقها، ممَّا جعله يخشى بدوره من أنَّ الصِّين ستتَّبع نفس المسار. كما أنَّ البرامج والسياسات الجديدة التي طبَّقها الحزب بعد استبعاد ماو لإخراج الصين من الكساد الاقتصادي -النَّاجم عن القفزة العظيمة للأمام- جعلت ماو يشكُّ في درجة ولاءهم للثَّورة.

وهكذا تبنَّى ماو في النِّهاية أربعة أهداف للثَّورة الثَّقافيَّة: استبدال معاونيه الحاليين بقادة أكثر إخلاصًا لتفكيره وآراءه، تصحيح مسار الحزب الشيوعي الصيني، إنشاء جيل ثوري جديد من خلال تجنيد الشَّباب في الحزب، وأخيرًا إجراء بعض التَّغييرات السِّياسيَّة المحدَّدة لجعل النُّظُم التَّعليميَّة، والصّحيَّة، والثَّقافيَّة بعيدة عن سيطرة النُّخَب المُتعلِّمة.

سعى ماو  في البداية إلى تحقيق هذه الأهداف من خلال تعبئة جماهيريَّة للشَّباب في المدن، حيث نُظِّموا في مجموعات شبه عسكريَّة تُسمَّى بِ(الحرس الأحمر)، وأمر ماو الحزب والجيش بعدم التَّدخُّل ضدّ هذه الحركة الجديدة. كما استبدل أفرادًا آخرين يثق بهم  بشركائه التَّقليديِّين في الحزب؛ وذلك لمساعدته على تنفيذ الثَّورة الثَّقافيَّة.

فمن ناحية عيَّنَ زوجته (جيانغ كينغ) في منصبٍ بارزٍ، والتي قامت بدورها بجلب مجموعة من المثقَّفين المتطرِّفين والمواليين لأفكار ماو؛ من أجل استبدال المثقفين المعارضين لحكم زوجها، وإحكام السيطرة على المجال الثَّقافيّ؛ بينما من ناحية أخرى، تأكَّد وزير الدِّفاع (لين بياو) من بقاء الجيش مواليًا لماو على طول الخط، وعَمِل آخرون على تسيير شؤون البلاد الأخرى وفقًا لرؤية ماو.

 السنوات الأولى  (1966-1968)

كانت الخطوة الرَّسمية الأولى هي صياغة ماو لمخاوفه بشأن المتسلِّلين «البرجوازيين» في حزبه وحكومته -أو بمعنى أدقّ؛  أولئك الذين لا يشاركونه رؤيته في حكم البلاد- وذلك بشكل سياسات رسميَّة للحزب من خلال وثيقة اللجنة المركزيَّة للحزب الشِّيوعيّ الصّيني الصَّادرة في 16 مايو 1966؛ إذ يعتبر العديد من المؤرِّخين هذا التَّاريخ هو البداية الفعليَّة للثَّورة الثَّقافيَّة، وذلك على الرغم من أن ماو لم يطلق الثورة الثقافية رسميًّا حتى أغسطس 1966.

كانت البداية بإغلاق جميع المدارس والجامعات، وخلال الأشهر التَّالية بدأ الحرس الأحمر -الذي أنشأه ماو- بالتَّحرُّك، حيث أُصدرَت الأوامر إلى أفراده بمهاجمة جميع مظاهر العادات والتَّقاليد المجتمعيَّة القديمة، وكذلك جميع مظاهر «البرجوازية»، كما شُكِّلَت لجان خاصَّة لاختبار ولاء مسؤولي الحزب علانيةً؛ حيث اعتقد ماو أنَّ هذا الإجراء سيكون مفيدًا لكلٍّ من الشَّباب وكوادر الحزب الذين تمَّ اتِّهامهم.

تصاعدت الحركة بشكل سريع، وبدأت الانتقادات والاتِّهامات تتحوَّل إلى اعتداءات لفظيَّة ثمَّ إلى اعتداءات جسديَّة، ووقع ضحيَّة ذلك عددٌ كبير من المثقَّفين وكبار السّنِّ، ومات الكثير منهم. انقسم الحرس الأحمر إلى فصائل متنافسة متحمِّسة، كلٌّ منها يزعم أنَّه الممثِّل الحقيقي للفكر الماويّ، وهو الاسم الذي أطلقه ماو على حركته، والتي أصبحت أشبه بطائفة دينيَّة متعصِّبة لعبادة شخص الزَّعيم ماو، وترهيب كلّ مخالفيه. أدَّت الفوضى، والإرهاب، والشَّلل -الناتجة عن أعمال العنف- إلى تعطيل الاقتصاد في كافَّة المدن الصينية تمامًا، وهي التي تتركَّز فيها قوَّة الصين الصِّناعيَّة، وهكذا انخفض الإنتاج الصِّناعي لعام 1968 بنسبة 12 في المائة عن عام 1966.

خلال عامَي 1967 و1968، تحوَّلت تلك الفرق الشَّبابيَّة إلى مجموعات شبه عسكريَّة، انطلقت تصطاد أساتذة الجامعات والمدرِّسِين المُتَّهَمين بتمثيل البرجوازيَّة والتَّحريف، ونفَّذت عمليَّات إعدام لأعداد كبيرة منهم دون محاكمات، وكانت غالباً ما تُسبَق بحفلات من الإذلال البدنيّ والنَّفسيّ ضدَّ مَنْ كان الحرَّاس الحمر يطلقون عليهم اسم «الأعشاب السَّامَّة». كما شنَّت الشَّبيبة الغاضبة حملة شعواء على المعابد، والمراكز الدِّينيَّة، وحتى المحلَّات التِّجاريَّة؛ باعتبارها تعبيراً عن «النظام القديم» بشقَّيه: الإقطاع الرِّيفي التَّقليدي، والبرجوازيَّة الحديثة في المدن. حتى الكتب القديمة والتُّراثيَّة لم تسلم من حملة التَّطهير الثَّقافيّ تلك، وذلك إذا لم نتحدَّث عن الإنتاج الثَّقافيّ والفنِّيّ الغربيّ الذي حُظرِ أغلبه، ومُنِع تداول جلَّه؛ بحجَّة كونها منتجات برجوازيَّة مُفسِدة للفكر.

الثورة الثقافية الصينية

خلال تلك المرحلة المبدئيَّة للثَّورة الثَّقافيَّة استغلَّ ماو جحافل حرسه الأحمر المتعصِّب في التَّخلُّص من منافسيه داخل الحزب، فأُزيحَ قادة المكتب السِّياسيّ الرَّئيسيِّين من السُّلطة، وأبرزهم الرئيس (ليو شاو)؛ وهو الذي كان الحزب قد عيَّنهُ مكان ماو كرئيسٍ للبلاد في ذلك الوقت. وفي يناير 1967، بدأت الحركة في تركيز أنظارها تجاه الأقاليم؛ إذ بدأت الإطاحة الفعليَّة بأعضاء الحزب المناوئين لماو في المحلِّيَّات، وبدأت إجراءات لتشكيل هيئات سياسيَّة جديدة لتحلَّ محلَّها.

في فبراير 1967، دعا عدد ممَّن تبقَّى من كبار قادة الحزب، والذين نجَوا من موجة التَّطهير الأولى إلى وقف الثَّورة الثَّقافيَّة، لكن ردَّ ماو وأنصاره -الأكثر راديكاليَّة- كان التَّصعيد، لا التَّهدئة. وبالفعل بحلول صيف 1967، انتشرت الفوضى مرَّة أخرى، إلى حدِّ أن وقعت اشتباكات مسلَّحة كبيرة في جميع أنحاء المناطق الحضريَّة في الصِّين، بين فصائل من الحرس الأحمر، والذي كان قد بدأ ينشقُّ على نفسه وسط اتِّهامات داخليَّة بالخيانة.

وعندما حلَّ عام 1967، دعا ماو -الذي بدأ يُدرِك أنَّ الوضع قد خرج عن سيطرته- الجيش بقيادة (لين بياو) إلى التَّدخُّل، وإعفاء الحرس الأحمر من مهامه. إلَّا أنَّ تدخُّل الجيش زاد الأمور تعقيدًا؛ بدلًا من أن يحلَّها. بدأت تظهر انقسامات بداخل الجيش نفسه، بين مؤيِّدين، ومعارضين لأفعال الحرس الأحمر المتطرِّفة.

وفي عام 1968، وبعد أن خضعت البلاد لشهور طويلة من التَّقلُّب بين الفوضى والاستقرار النِّسبي، قرَّر ماو أنَّ السَّبيل الوحيد لضمان عدم فقدانه للسَّيطرة مرَّةً أخرى هو إعادة بناء الحزب الشِّيوعيّ من الصِّفر. وهكذا، وبأوامر ماو، أرسل الجيش ضبَّاطًا وجنودًا للسَّيطرة على المدارس، والمصانع، والهيئات الحكوميَّة؛ بينما أجبر الجيش في الوقت نفسه الملايين من أعضاء الحرس الأحمر في المناطق الحضريَّة على الانتقال إلى المناطق الرِّيفيَّة النَّائية؛ وذلك لكي تتشتَّت قوَّاتهم، وبالتَّالي يتخلَّص ماو من خطرهم بعد أن انتهى غرضه منهم، ويعيد بعض النِّظام إلى المدن التي عاث فيها الحرس الأحمر فسادًا خلال الفترة التي سبقت ذلك.

يعكس هذا الإجراء أيضًا خيبة أمل ماو تجاه الحرس الأحمر؛ بسبب عدم قدرتهم على التَّغلُّب على خلافاتهم الدَّاخليَّة. إنَّ كلّ تلك الأحداث قد أظهرت كذلك ضعف ماو، ومدى اعتماده على الجيش بقيادة لين بياو من أجل ضمان استمراره في السُّلطة.

صعود وسقوط لين بياو (1969-1971)

عندما انعقد المؤتمر التَّاسع للحزب في أبريل 1969، عُيِّنَ وزير الدِّفاع (لين بياو) رسميًّا كنائبٍ لماو، وخليفته في الحكم بعد وفاته. تزامن هذا مع تشديد الجيش قبضته على المجتمع بأسره؛ حيث سيطر العسكريّون على كلٍّ من اللَّجنة المركزيّة للحزب الشّيوعيّ بعد تجديده، كما استغلَّ لين الاشتباكات الحدوديَّة بين الصين والاتِّحاد السُّوفييتيّ في ربيع عام 1969 لإعلان الأحكام العرفيَّة، واستغلَّ منصبه لتخليص نفسه من بعض المنافسين المحتملين لمنصب خلافة ماو. غير أنَّ صعود لين السَّريع قابله كذلك مقاومة ومعارضة من جانب عدد من كبار مساعدي ماو، وبدأ هؤلاء في تحذير ماو من خطورة صعود لين بياو السريع. كان ماو نفسه قد بدأ يشعر بقلق متزايد من طموح لين، وبدأ الزَّعيم الصيني يخشى من احتمال انقلاب لين بياو عليه.

لين بياو

ظهرت هذه التَّوتُّرات لأوَّل مرَّة في العلن في جلسةٍ للحزب في صيف عام 1970. وبعد ذلك بوقت قصير، بدأ ماو في إرسال تحذيرات ضمنيَّة في خُطَبه إلى لين بياو؛ إلَّا أنَّ وزير الدِّفاع الواثق في قوَّته لم يبالي، أو لم يفهم تلك الإشارات. في سبتمبر 1971 أعلنت الحكومة الصينية عن انتحار لين بياو، وذلك بعد تورُّطه في محاولة انقلاب فاشلة على ماو. وبدأ ماو على الفور بعمليَّة تطهير كاملة للقيادة العسكريَّة الصينية العليا في الأسابيع التي أعقبت وفاة لين.

كان لمقتل لين تأثيراً مخيِّباً للآمال على العديد من الأشخاص في صفوف الشَّعب الذين دعموا ماو خلال الثورة الثقافية؛ إذ كان يُنظَر إلى لين بياو على أنَّه رئيس كهنةِ طائفة ماو، وقد خاض الملايينُ صراعاتٍ شاقَّة لرفع هذا الخليفة المُختَار إلى السُّلطة، والتَّخلُّص من منافسيه، و قاموا في هذا المسعى بمهاجمة، وتعذيب، وقتل الآلاف من الأبرياء. لقد أزاح سقوط لين بياو الغمامة عن أعين الكثيرين داخل وخارج الحزب، وبدأت أعداد كبيرة من الشعب الصيني تشعر أنَّه قد تمَّ التَّلاعبُ بهم لأغراض سياسيَّة شخصيَّة.

السنوات الأخيرة  (1972-1976)

كان المُستفِيد الأوَّل من سقوط لين بياو هو رئيس الوزراء (تشو إنلاي). من نهايات عام 1971 حتى منتصف عام 1973، حاول تشو إعادة الاستقرار إلى الصين؛ فشجَّع على إحياء النِّظام التَّعليميّ، وأعاد عددًا من الأشخاص الذين طُرِدوا إلى مناصبهم. بدأت الصين مرَّةً أخرى تزيد علاقاتها التِّجاريَّة وغيرها من العلاقات مع العالم الخارجيّ، وبدأ الاقتصاد الصيني المُرهَق يتعافى ببطء. وافق ماو شخصيًّا على هذه التَّحرُّكات العامَّة، لكنَّه ظلَّ حذِرًا؛ خشية أن تُثير تلك النَّجاحات المحدودة التَّساؤلات حول الغاية التي قامت من أجلها الثَّورة الثّقافيّة في المقام الأول.

خلال عام 1972، عانى ماو من سكتة دماغيَّة خطيرة، وعلم تشو أنَّه مصاب بورمٍ خبيث قاتل. سلَّطت هذه الأحداث الضُّوء على استمرار عدم اليقين بشأن من سيخلف ماو في الحكم. وهكذا وفي أوائل عام 1973، أعاد تشو وماو بعض قيادات الحزب الذين استُبعِدوا خلال الثَّورة الثَّقافيَّة إلى السُّلطة، حيث كان تشو يأمل في تهيئة أحدهم -وهو دينج شياو- ليكون خليفة ماو؛ إلَّا أنَّ تلك الخطوة أشعلت الصِّراع داخل صفوف مساعدي ماو على مَنْ يخلف الزَّعيم في السلطة. تركَّز الصِّراع  بين طرفين، وهما: الفصيل المتعصِّب الذي يدعو إلى استمرار الثورة الثقافية ومعاداة الدُّول الأجنبيَّة، وفصيلٍ آخر يرى إنهاء الثَّورة، والتَّركيز على النُّموِّ الاقتصاديّ، والاستقرار وتحقيق سياسة خارجيَّة براغماتيَّة. حاول ماو -دون جدوى- الحفاظ على التَّوازن بين هاتين القوَّتين المتصارعتين داخل صفوف الحكم، بينما كان يكافح للعثور على خليفة يحظى بقبول الطَّرفين.

بحلول عام 1976، بدأت تظهر بوادر صراعٍ عنيفٍ جديد، وبدأ ما هو في مسعى تجنُّب الفوضى يميلُ تجاه التَّيار المتعصِّب، وهو ما كان يعني استمرار الثورة الثقافية. لكنَّ القدرَ لم يُمهل ماو الذي توفِّي في سبتمبر 1976، ليتولَّى الحكم بعده الإصلاحيّ دينج شياو، والذي قرَّر إنهاء كافَّة مظاهر الثورة الثقافية.

خاتمة

لا يوجد تقدير دقيق لأعداد الضَّحايا، فالنِّظام الصِّينيّ -وهو الأكثر قدرة على تقديم أرقام دقيقة وموثَّقة لما جرى- يرفض حتى هذه اللحظة تقديم تحليل محايد لهذه الفترة، أو فتح الأرشيف الخاصّ بها أمام المؤرِّخين. وتعود البادرة الوحيدة التي تقدَّمت بها القيادة الصينية إلى عام 1977، حين ناقش الحزب الشيوعي في مؤتمره الـ 11 هذه القضيَّة، وتبنَّى قرارًا يعتبر الثورة الثقافية «فترة من الاضطِّراب الدَّاخلي، بدأت بشكل خاطئ من قبل الزعيم (ماو)، وتمَّ التَّلاعُب بها من قبل جماعات مناهضة للثَّورة».

وتتباين المصادر المختلفة بشدَّة فيما يخصّ رقم القتلى، بين من يقول إنَّه في حدود 400 ألف، ومَنْ يرفعه ليصل إلى 36 مليوناً (كان عدد سكان الصين عام 1968 أكثر من 774 مليوناً)؛ الأمر الذي يعكس الغموض الكبير الذي يلفُّ تلك الحقبة، والأهواء المختلفة التي تقف خلف التَّقديرات المتعدِّدة لعدد الضَّحايا.

على الرَّغم من أنَّ الثورة الثقافية كانت قد تركَّزت في المدن إلى حدِّ كبير، ولم يعاني من آثارها الغالبيَّة العظمى من الشَّعب الصيني -الذي كان أغلبه يعيش في المناطق الرِّيفيَّة، ولم يتعافوا بَعْد من آثار خطَّة القفزة العظيمة إلى الأمام- ؛ إلَّا أنَّ ذلك كان له عواقب وخيمة على الصين ككلّ.

فعلى المدى القصير أدَّى عدم الاستقرار السِّياسي والفوضى المُستمرَّة في السِّياسة الاقتصاديَّة إلى نموّّ اقتصادي أبطأ، وتراجُع في قدرة الحكومة على تقديم السّلع والخدمات. كذلك أدَّى تطهير مؤسَّسات الدَّولة ممَّن اعتبرهم النِّظام غير موالين للثَّورة إلى ضَرْب كفاءة الجهاز الإداريّ للدَّولة؛ نتيجة إفراغه من الكفاءات والخبرات التي أدارته لعقود سابقة.

وقد اتُّخِذت إجراءات جريئة في أواخر السَّبعينيَّات لمواجهة هذه المشاكل العاجلة، لكنَّ الثورة الثقافية ستظلُّ تترك إرثًا مستمرًّا في الصين.

كانت هناك أيضاً فجوة حادَّة بين الأجيال؛ فالأفراد الذين عانوا من الثورة الثقافية وهم في سنِّ المراهقة وأوائل العشرينات قد حُرِموا من التًّعليم، ولم يتعلَّموا أيَّة مهارات يمكن أن تعينهم في اتِّخاذ مهنةٍ فيما بعد. وهكذا عندما جاءت الإصلاحات بعد وفاة ماو، لم تترك مجالًا كبيرًا لهؤلاء الملايين من النَّاس للحصول على وظائف مُنتِجة، كما استغرق إصلاح الضَّرر الكبير الذي أصاب جميع جوانب النظام التَّعليميّ نفسه عدَّة عقود.

كانت هناك أيضًا مشكلة خطيرة أخرى، وهي الفساد داخل الحزب والحكومة؛ حيث تسبَّب افتقار الكفاءات داخل الحكومة، وندرة السّلع إلى إجبار النَّاس على اللجوء إلى الرَّشاوى كوسيلةٍ لتحقيق مصالحهم باعتبارها الوسيلة الأساسيَّة، وما زالت الصين إلى اليوم تعاني من هذه المشكلة.

ربَّما لم يحدث من قبل في تاريخ البشريَّة أن تسبَّب زعيم واحد في كلِّ هذ القدر من الضَّرر، مثلما فعل ماو بفكرتي القفزة العظيمة إلى الأمام والثورة الثقافية؛ فكان الضَّرر النَّاجم عن ذلك النِّظام عميقًا، وظلَّت تلك الأهداف التي سعى ماو لتحقيقها مجرَّد حلمٍ بعيد المنال.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي