أثارت فترة حكم «أمنحوتب الرابع أو أخناتون» الجدلَ مثلما لم تفعل غيرها في التاريخ القديم؛ ربما نبع ذلك من محاولته لإحداثِ تغييرٍ كبيرٍ في التقاليد الدينية والسياسية والاجتماعية، مما أثَّر بشكلٍ واضحٍ على طبيعة الفن. [1]
كان «آتون» المُرمز إليه بقرص الشمس واحدًا من عشرات الآلهة المصرية، بينما مَثَّل لإخناتون الإله الوحيد. ومن هنا بدأ دعوته كأول داعٍ للتوحيد في التاريخ. ترتب على هذا بعض التغيرات الشاملة في الدولة المصرية في عصره؛ حيث نقل العاصمة من «طيبة» إلى «أخيتاتون» (أخت آتون) تل العمارنة حاليًا، وحاول محو أثر الآلهة الأخرى. [1]
لم تكن التغييرات التي فرضها أخناتون عبثيةً أو مجرد تمرد، بل كان يحمل منهاجًا جديدًا وتصورًا شاملًا عن الدولة والدين والحاكم والفن وشكل الحياة للمصري القديم. يُعتقد أن ما بدأه الموحد كان بمثابة هزة للتقاليد من أساسها. لقد قام هو وحده بتغيير النهج إلى الفكر والتعبير.
في ذات الحين، لم تكن المنطقة التي اختارها لتكون عاصمة ومقر لعقيدة آتون التوحيدية قد سميت قبل وصوله، فأطلق عليها اسم أخيتاتون وهو ما يعني بالمصرية القديمة «أفق الشمس». [2]
وقد كان لإزالة «آمن» من اسمه أثر في شن الحرب على السلطة الدينية المهيمنة في هذا الوقت، ولم يكتف أخناتون بإرسال وكلاء في جميع أنحاء البلاد لتفكيك صور الآلهة وعلى وجه الخصوص «آمون» المهيمن في طيبة والذي اتبعه أبوه. فرفع أسماؤهم من جميع الآثار، وغير كلمة الآلهة إلى كلمة «الله». [2]
أثرت الحركة الثورية التي قادها إخناتون بشكل واضح على الفنون؛ حيث نجد أن الوقائع والأحداث التاريخية لهذه الفترة وتسلسلها الزمني وأطروحة الدين الجديد ونقل العاصمة، كل ذلك أدخل تغيرات جديدة على الفن، فظهر ما يسمى ب«فن العمارنة» في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وقد اُعتبر فنًّا ثوريًّا، حيث أدحض هذا النوع من الفن «الجديد» التقاليدَ الفنية المصرية والاتجاه الكلاسيكي الذي كان خلال فترة حكم والد أخناتون. [3]
ومع ذلك، كان فن العمارنة والفن المعاصر لهذه الفترة في تسلسل سلس من الاستمرارية، مما مكّن المُشاهد من فهم المادة الجديدة، ولم يكن هذا الفن جماليًّا فقط، ولكن وظيفيًّا معبرًا عن المفاهيم والدين بشكلٍ فعَّالٍ وسحري، وقد استمر فن العمارنة في استخدام الأسلوب المصري المحدد مسبقًا لترميز المعنى: كالتمثيل التخطيطي للكائنات والأشكال، واستخدام الحجم كإشارة لأهمية النسبية (النطاق الهرمي). وبقيت المواضيع الأساسية على الرغم من تطويعها الديانة الجديدة.
فن ما قبل العمارنة
إن أول قبر لعصر الأسرة الثامنة عشر، والذي يمكن الاستشهاد به كطليعة أسلوبية لفن العمارنة هو قبر «ناخت» في غرب طيبة، ونُفِّذت اللوحات هناك عام 1425 قبل الميلاد. [1]
في خلال سعيه وراء الواقعية، حاول الفنان أن يصور الانطباعات العابرة للعلاقات العارضة؛ حيث صور مجموعة من الضيوف والراقصات يتواصلون بالإيماءات كذلك بتواصل فعلي، ومع أن الشرائط الخطية المتدرجة تقليدية، فإن التفاعلات بين الأشكال ليست كذلك. وإذا نظرت بشكل أقرب ستجد في أعلى يسار الصورة فتاة تمسح ذقن سيدتها ذات الملابس الأنيقة. رسمت السيدات الثلاث في الشكل بشكل متداخل في محاولة لخلق درجة من العمق، وكلهن بنفس الوضع الجامد. [1]
وفي الشكل الذي خلف الخادمة، تقدم سيدتان ثمارًا لبعضهما بعضًا، واحدةٌ تلمس ذراع الأخرى. من الواضح أن يدها اليسرى تظهر خلف القماشة الأمامية لملابسها. فقد قام الفنان باستخدام اللون بشكل خفيف جدًا، فقد جعل قطعة القماش شفافة بحيث تكون الذراع مرئية. سنرى هذه المعاملة للملابس مراتٍ عدة عندما صور فنانو العمارنة نفرتيتي. علاوة على ذلك -في فن العمارنة- تُستخدم شفافية الملابس في المنحوتات الحجرية بخطوط منقوشة بدقة.
تعتبر لفتة العرض هنا ليست فريدة في حد ذاتها بالنظر إلى لوحات المقابر الأخرى، ولكن التدرج المضاف للشخصية المعطاة لهذه الأشكال من خلال مؤثراتها الأخرى فريدة بالفعل. [1]
وإذا نظرنا إلى الأسفل، سنجد شكلًا فيه تتداخل الفتيات الثلاث الموسيقيات مع الفرقة الأفقية، ويتسم بالابتكار.
تم تفصيل النساء أنفسهن بما يمكن تسميته الواقعية الجديدة. هؤلاء الشابات فريداتٌ بشكلٍ مثيرٍ للإعجاب، فكل رأس مختلفة تمامًا عن الأخرى، نرى هنا بعض الميزات القياسية لفن ما قبل العمارنة فيما يتعلق بالانتقال المستوي. يظهر الوجه في شكل جانبي، مع رؤية العين الكاملة، وتُرى الأكتاف من منظورٍ أمامي. [1]
معالم فن العمارنة
يختلف الفن الذي تم إنتاجه في عهد أخناتون، ابتداءً من عام حكمه الرابع وما بعده عن ذلك الذي أُنتج في أي عصر آخر من تاريخ مصر، لقد كان خروجًا متعمدًا ومقصودًا عن الحياة الفنية وطريقة التصوير. وهناك أدلة على أن إخناتون نفسه لعب دورًا كبيرًا في ابتكار العمارنة كما هو الحال في تغييره اللاهوتي. [4]
أدى الانتقال إلى عاصمة جديدة -أخيتاتون/العمارنة- إلى تغييرات جوهرية في تصوير المرأة الملكية في صورهن الأنثوية؛ حيث ابتعد فنانو العمارنة عن الصور التقليدية البارزة للتأكيد على واقعية الفرد بطريقة غير مسبوقة في الفن المصري. ظهر ذلك من العلاقة الحميمة الاستثنائية التي تنبثق من التماثيل والنقوش فترة العمارنة. [5]
ربما يكون الأمر الأكثر تعقيدًا، هو التغيير في الهيئات الملكية خلال فترة العمارنة، على سبيل المثال: ما هو السبب وراء ترقيق وتطويل الوجه الملكي، والتركيز على الوركين والفخذين والأرداف، وإكمال الشفاه، وإدراج ثنيات الدهون وتضخم المعدة. الجنس والدهون والأجسام بشكل عام كل هذه المعاني المعقدة والمتنوعة. [4]
ينظر فن العمارنة إلى أخناتون وزوجته نفرتيتي وبناتهم الست في ترابط عاطفي حتى أثناء مشاركتهم في طقوس العبادة. ففي الشكل (3) يظهر الملك أخناتون في اليسار مع الملكة نفرتيتي وثلاثٌ من بناتهم تحت أشعة إله الشمس آتون.
نهاية فن العمارنة
تم تدمير العمارنة نفسها وكذلك جميع العروض الفنية لأخناتون، وزوجته نفرتيتي، وآتون، وتظاهر المصريون من أواخر الأسرة الثامنة عشرة أن أخناتون لم يكن موجودًا؛ فكانت رغبتهم الشديدة في محو تلك السنوات السبعة عشر من التاريخ، تقابلها حماسةٌ عسكرية متطرفة موجهة ضد الأموريين، والميتانيين (الذين استخدموا مرتزقة خابيرو)، والامبراطورية الحثية/السورية المشتركة. وكلها ارتفعت إلى التشكيك في الهيمنة الإمبريالية المصرية خلال حكم أخناتون. [1]
كان للتغيير الذي قام به أثرٌ لم يُمحَ حتى بالمحاولات العنيفة لمسح ذكرى أخناتون، ومسح دينه، وكل معتقداته عن الحياة والدين والفن، فقد بقت بعض ابتكارات العمارنة الأسلوبية، وقد زودت العالم ببعضٍ من أجمل الأعمال الفنية في كل العصور.
المصادر
[1] Gansz, C. D. (1982). Art under Akhenaten and Nefertiti. Germantown, New York. Introduction.
[2] Akhenaten and Monotheism, available at:
https://www.usu.edu/markdamen/1320Hist&Civ/chapters/10AKHEN.htm