تشارلز بوكوفسكي: الشاعر غزير الإنتاج

big-bukowski

تشارلز بوكوفسكي، الشاعر غزير الإنتاج|تشارلز بوكوفسكي، الشاعر غزير الإنتاج

لا يخفى على أحد بأن (تشارلز بوكوفسكي – Charles Bukowski) كان كاتبًا فريدًا من نوعه، زيرًا للنساء، يشرب الخمر حتى الثمالة، مشاكس في النوادي الليلة، يمكن أن نُطلق عليه النسخة الشعبية لـ شكسبير. الكثير من الاشاعات غير المستحبة التي نُسجت كالأساطير حول شخصيته، وباعتراف الجميع كانت بعضها من نسجه شخصيًا، بل وتعمّد نشرها.

فقد تعلّم أن إثارة الجدل من شأنها أن تزيد المبيعات، مستعينًا بصورة مقرّبة لوجهه -الذي عصفت به الأيام- على غلاف كتابه الذي حمل عنوانًا صادمًا: (انتصابات، قذف، عرض، وحكايات عامة من الجنون الاعتيادي – Erections, Ejaculations, Exhibitions and General Tales of Ordinary Madness)، مما يثبت أنه يحب إثارة ردود الفعل بقدر حبه لزيادة مبيعات كتبه.

وبالنسبة لكاتب مثير للجدل، والذي بدا دائمًا أنه منغمس في الملذات، فقد كان غزير الإنتاج بصورة لا تستطيع الكلمات وصفها. إذ أن كتابة خمسة آلاف قصيدة يجب أن تكون دليلًا كافيًا على هذا الأمر. ولكن كيف ومتى تمكن من كتابة كل هذه القصائد؟ ساعده في ذلك انضباطه وقدرته على التحمل، بينما لم يساعده إهماله.

تشارلز بوكوفسكي، الشاعر غزير الإنتاج
تشارلز بوكوفسكي

بعد بدايته المتعثرة إلى حد ما كشاعر في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، بدأ بوكوفسكي يرى نفسه شاعرًا حقيقيًا في الستينيات من القرن الماضي، حيث قدّم شعره لأي شخص وكل شخص. صُعق معظم محرري الصحافة المغمورة آنذاك: «من هذا الرجل؟ من أين يأتي هذا الصوت البديع؟».

لقد أحبوا إحساس بوكوفسكي بالتلقائية والقسوة، وكثيرًا ما طبعوا قصائده في مجلاتهم الصغيرة، وأعادوا إنتاجها كما هي، بالأخطاء المطبعية وكل شيء. وبحلول نهاية العقد، كان أكثر الشعراء الذين نُشر لهم قصائد في الصحافة المغمورة، وأشادوا به ملكًا للشعراء المغمورين. فكان إنجاز رائع بالنسبة لشخص كان يعمل بدوام كامل في مكتب البريد، وكان يشرب الخمر حتى الثمالة والغيبوبة يوميًا.

ولكن لم تساعده حالة عدم الاكتراث واللامبالاة كثيرًا؛ في أوائل الستينيات، بدأ يقدّم أعماله إلى الكثير من المجلات الصغيرة. فضاع كثير من القصائد في البريد، ولم يكن قد صنع نسخًا كربونية منها، فذكر حينها:

«إن أبقيت على نسخ كربونية، فكنت سأعتبر نفسي مجرد مدّعي آخر يبحث عن الأضواء الزائفة السهلة»

وبحلول عام 1967، ادّعى أنه فقد حوالي خمسمائة قصيدة بذات الطريقة. وكان صديقه حينها الأستاذ ويليام كورينجتون في أشد حالات الغضب، بسبب رفض بوكوفسكي العنيد لإنتاج نسخ كربونية، حتى أنه أطلق عليه «فوضوي لعين».

تغيرت الأمور عندما ظهر جون مارتن في المشهد. أقنعه مارتن، الذي أسس مطبعة (بلاك سبارو – Black Sparrow ) الأسطورية لينشر قصائد بوكوفسكي، بعمل نسخ كربونية لكل شيء يكتبه، وأطاعه بوكوفسكي بالفعل. عادةً ما كان يصنع نسختين، واحدةً لمارتن وواحدةً للمجلات الصغيرة، مع حفاظه على النسخة المطبوعة الأصلية على الآلة الكاتبة. وفي النهاية، باع بوكوفسكي أرشيفه إلى العديد من المكتبات.

كان مارتن مسؤولًا بالكامل عن اختيار وتحرير المواد التي ظهرت في مجموعات الشعر. وكما قال بنفسه في 2014:

«لم يتكبد بوكوفسكي، منذ كتابه الأول (في شارع الرعب وطريق العذاب – At Terror Street and Agony Way) في عام 1968، عناء اختيار ظهور أي من القصائد في كتبه. فقد كان يرسل لي كل ما كتب خلال الأسبوع، وكنت أحتفظ بمخطوطاته الكتابية في ملف،  ثم لمرة واحدة في العام كنت أتصفحها، واختار من بين مائتي أو ثلاثمائة صفحة من الشعر، أقوم بترتيبها، وبما يلزم لتحريرها، ثم أرسل له المخطوطة المقترحة، لم يغير أي شيء»

وهذا صحيح. كان يقرأها، ويعطيه الضوء الأخضر بالمضي قدمًا، ليطبع مارتن الكتب. ولكونه غزير الإنتاج، لم يكن لدى بوكوفسكي متسع من الوقت ليراجع كل هذا، ولم يلاحظ أو يمانع أي تعديلات بسيطة. فكما اعتاد أن يقول، كان كل ما يهمه هو السطر التالي، فقد كان يكتب القصائد، ثم سرعان ما ينساها.

ما لم يكن صحيحًا هو أن بوكوفسكي طلب من مارتن أن ينحي جانبًا بعضًا من أفضل قصائده لتُنشر بعد وفاته. فهذه واحدة من الأساطير التي ما زالت تحوم حول الرجل، خاصةً عبر الإنترنت. كل ما فعله بوكوفسكي كان تمييز قصائده المفضلة بعلامة النجمة (*) عند إرسال مجموعة جديدة إلى مارتن، لكنه لم يقل أبدًا: «يا جون، اطبع هذه في الكتاب التالي. أو يا جون، هذه قصيدة ممتازة، اطبعها بعد وفاتي».

لقد قام بتمييزهم فحسب، وذلك لفترة زمنية قصيرة جدًا في منتصف السبعينيات، وقام مارتن بكل عمليات التحرير. كان بوكوفسكي واثقًا من أن مارتن كان يقوم بعمله بأفضل صورة ممكنة. فقام مارتن بتحرير جميع القصائد المنشورة بعد وفاته كذلك، كما كان يفعل عندما كان بوكوفسكي على قيد الحياة. وعمومًا، كان بوكوفسكي راضيًا تمام الرضا عن تحرير مارتن، رغم أنه أعرب عن بعض الشكاوى البسيطة على مر السنين.

ففي منتصف ثمانينيات القرن الماضي، قال بوكوفسكي إن مارتن لم ينشر سوى سدس إنتاجه الفعلي، على أساس أن طباعة المزيد من الكتب من شأنه إغراق السوق. ليرد في خطابه إلى مارتن في عام 1986:

ما بدأت إدراكه هو أن مطبعة بلاك سبارو لا يمكنها إلا نشر ما تريد، فيبدو الأمر كما لو أنك تملك قردًا غريبًا في قفص لعرضه بناءً على طلبك. أنت تستمر في إيقافي بينما قرائي في حالة من الغضب العارم لتذوق المزيد، هذه جريمة. أنت تقتلنى، لم يُقيد أي شاعر من قبل كما تقيدني أنت.

قتل أم لا، فبعض تلك القصائد وردت لاحقًا في كتاب (عاصفة من أجل الأحياء والموتى – Storm for the Living and the Dead).

كما ادّعى بوكوفسكي أن مارتن لم يكن حريصًا على طباعة قصائده الجريئة، ملقيًا اللوم جزئيًا على معتقدات مارتن المسيحية. فهناك بعض القصائد في كتاب (عاصفة من أجل الأحياء والموتى) التي سيعتبرها البعض بالتأكيد جريئة، إن لم تكن فاحشة بكل ما في الكلمة من معنى. حيث تتنافس بعض القصائد، مثل (أغنية حب – love song)، (حظ سيء – tough luck)، (فقاعات الماء الدافئ – warm water bubbles) والكثير غيرها، على قيمتها الصادمة، والتي ربما لن تكون صادمة هذه الأيام بقدر ما كانت في سبعينيات القرن الماضي.

أخيرًا، كان بوكوفسكي يستاء بسبب رفض مارتن طباعة مجموعات كبيرة من القصائد في مجلات صغيرة مثل The New York Quarterly و Wormwood Review، خاصةً إذا كان من المفترض أن تُنشر ككتب قصصية قصيرة.

فقد شعر مارتن أن تلك الكتب القصصية يمكن أن تضر بمبيعات مطبعة بلاك سبارو. فكان بوكوفسكي غاضبًا بصورة واضحة، إذ أنه لم يمتلك الوقت الكافي لإرسال دفعات أصغر من القصائد لعدد كبير من المجلات، فالعملية كانت مرهقة ومضيعة للوقت بالنسبة لشخص غزير الإنتاج مثله.

ففي بداية التسعينيات، ازداد إنتاجه بصورة كبيرة، بعد حصوله على جهاز كمبيوتر كهدية عيد الميلاد. فكان مثل طفل صغير حاز على لعبة جديدة، كتب القصائد بكل حماس كل يوم تقريبًا وحتى منتصف الليل. لم تتمكن المجلات الصغيرة من مواكبة إنتاجه الأدبي الهائل.

فكما كتب بوكوفسكي إلى مارتن في عام 1992:

«لقد انتهت المجلات التي يمكن أن أرسل لها أعمالي، حتى أن بعض مجلات الجامعة تنشرها الآن»

من المنطقي إذن أن يغضب بوكوفسكي أحيانًا من مارتن لأنه طلب منه التوقف عن تقديم تلك المجموعات الكبيرة من القصائد إلى المحررين الصحفيين الصغار.

وبرغم هذه الشكاوى، سارع بوكوفسكي إلى مدح علاقته بمارتن في شعره ومراسلاته، وقال إنه دائمًا ما كان فخورًا برحلتهما السحرية معًا في عام 1982. وبعد عشر سنوات، كانت مشاعره جليّةً لا لبس فيها، إذ قال:

«لقد عملنا بثقة ووئام تامّين، لا أتذكر جدالًا واحدًا حول أي شيء»

المصدر

ترجمة: محمد يوسف

شارك المقال:

فريق الإعداد

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي