نشأة الأدب في مصر القديمة

مصر-القديمة

أدب مصر القديمة||

ما هو الأدب؟ هل هو محض رواياتٍ حالمة هائمة يجدُ المراهقون بين دفتيها أحلامَهم اليقظَة تتحق في عالمٍ آخر؟
هل هو بعثراتُ حروفٍ ركيكة تفيضُ بها كلُّ من تاقت نفسُه لارتداء عباءة الأدب والأدباء؟
هل هو جلسةٌ مسائيةٌ بصحبةِ القهوة يهيم بها وجْدُ مدّعي الثقافة؛ دون إدراكٍ حقيقي لماهية تلك الطقوس؟
أم أن الأمرَ أكثر من هذا وذاك؟
من نحن ومن أين جئنا؟ من هم السابقون، كيف كانت حياتهم؟ كيف عرفنا عنهم؟ كيف وُجد ما يُدعى «التاريخ»؟
هل كان التدوين مجرد عملية آلية روتينية مملّة هدفها التذكار والخلود؟ أم أنه مزيجٌ ممتع بين التوثيق، والمحاكاة، والتجسيد والتعريف، والإبداع، يُضفي من الحِسّ والذوقِ والفن إلى مادية المُحتوى فيصيرُ خلقًا آخر يمتدُ عبَقُه دون أن يُطمَس حتى لو
لآلاف السنين.. حسنًا لنعود للبداية.

الأدب المصري القديم يُعد بوتقةٌ تضم العديد من النماذج القصصية والشعرية؛ بما في ذلك النقوش على جدران المقابر والمعابد والمسلاّت والأعمدة؛ قد تجد الكثير من الحكايا والأساطير والمُدوّنات الدينية بل والفلسفية؛ سيرٌ ذاتية وتأريخات؛ شعرٌ وترانيم؛ مقالات شخصية؛ تسجيلات للمحاكمات؛ على الرغم أن هذه النماذج لا تُعد أدبٌ بالشكل الدارج؛ إلا أنه قد تم تصنيفهم كذلك في الدراسات المصرية نظرًا لتميز تلك الكتابات بسماتٍ أدبيةٍ مصقولة خاصةً ابتداءً من عصر المملكة الوسطى (2040-1782 ق.م).

نقوش ترجع إلى القرن 14 قبل الميلاد

تظهر بداية تلك النماذج الأدبية منذ عصر الأسرات الأولى والتي كانت تتمثل في كتابة السيرة الذاتية على مقبرة المتوفي إلى جانب قائمة توضح للأحياء القرابين التي تستوفيها زيارة المتوفي بانتظام ؛ حيث كان يسود الاعتقاد بـ أن المتوفي يستمر في حياةٍ أخرى بعد الممات وبعد انسحاب الحياة من جسده؛ تلك القرابين كانت في منتهى الأهمية من منبع الاعتقاد أن المتوفى مازال يحتاج الطعام والشراب حتى لو لم يعد له أي وجودٍ مادي. نبعت من قائمة القرابين تلك فكرة ابتهالات القرابين؛ وهي الشكل الأدبي القياسي البديل لقائمة القرابين، وقد تطورت أيضًا من نصوص السيرة الذاتية على جدران المقابر فكرة النصوص المُدونة على جدران الأهرامات والتي كانت تتضمن سردًا أدبيًا عن فترة حكم الملك ورحلة نجاحه حتى الممات؛ حدثت تلك الطفرات التطورية خلال عهد المملكة القديمة (2613-2181 ق.م)

دُوِّنت تلك النصوص باللغة الهيروغليفية التي تتضمن (فونوجرامات) رموز صوتية؛ و(لوجوجرامات) رموز كتابية؛ و(إديوجرامات) رموز تعبيرية تجسد المعنى. كانت الكتابة الهيروغليفية شاقة ومُضنية لذلك ظهر نوعٌ آخر من الكتابة إلى جانب الهيروغليفية وهو الكتابة الهيراطيقية؛ والتي كانت أسرع في الكتابة وأسهل في الاستخدام. كانت الكتابة الهيراطيقية مشتقة ومعتمدة على أُسس الكتابة الهيروغليفية إلا أنها كانت أقل رسمية وإحكام. حيث كانت الكتابة الهيروغليفية تتضمن اهتمام خاص بالجانب الجمالي لتنظيم وتنسيق الرموز. بينما كانت الكتابة الهيراطيقية تُستخدم لنقل وتدوين المعلومات بشكل أكثر سرعة وسلاسة. في حوالي عام 700 قبل الميلاد تم استبدال الكتابة الهيراطيقية بالديموطيقية (كتابة أكثر رواجًا وشعبيةً) والتي استمر استخدامها حتى ظهور المسيحية في مصر وبداية استخدام الكتابة القبطية في حوالي القرن الرابع الميلادي.

دُوِّنت أغلب الأدبيات المصرية القديمة بالنصوص الهيروغليفية أو الهيراطيقية؛ حيث كانت الهيروغليفية تُستخدم في التدوين على جدران المعالم الأثرية مثل المعابد والمسلات والأعمدة؛ بينما استُخدمت النصوص الهيراطيقية في الكتابة على مخطوطات البردي والأوعية الخزفية. وعلى الرغم من أن استخدام الكتابة الهيراطيقية ثم الديموطيقية ويليها القبطية أصبحت أكثر رواجًا بين طبقة المثقفين والأدباء؛ إلا أنه استمر استخدام الكتابة الهيروغليفية للتدوينات الخاصة بالمعالم الأثرية حتى اضمحلت بالتدريج مع بداية عهد المسيحية في مصر.

وعلى الرغم من أن مفهوم الأدب المصري قد يضم نماذج متنوعة من الكتابة الأدبية؛ وقد يذهب أغلب الظن للنماذج الأدبية النمطية وفقًا للمقاييس الأدبية الحالية مثل؛ القصص والحكايا والمقالات التدوينية؛ إلا أن المفهوم قد يشتمل على نماذج إضافية على القدر ذاته من الصَقْل الأدبي الرفيع.

الأدب في المملكة القديمة

إن قائمات القرابين وتدوينات سيرة المتوفي على الرغم من أنه قد لا يتم تصنيفهم كـ نماذج أدبية؛ إلا أنهم كانوا أول النماذج الفعلية للنمط الكتابي التدويني المصري. إن قائمة القرابين هي قائمة متطلبات –والتي كانت تعرف لدى المصريين بمباركة الملك (hetep-di-nesw)- كانت تُدوَّن على المقبرة وتتضمن الطعام والشراب والمستلزمات الأخرى التي قد يحتاجها المتوفي. كما كانت تُدوَّن السيرة الذاتية للمتوفي بعد موته وكانت تُكتب بضمير المتكلم وكأن المتوفي هو الذي يتحدث.

كتبت الباحثة في علوم المصريات: (ميريام ليشتهايم- Miriam Lichtheim):

«إن الهدف الرئيسي من تدوينات السيرة الذاتية- البورتريه الشخصي الكتابي- يماثل تمامًا نظيره الفني في النحت والنحت النافر؛ وهو تجسيد السمات الشخصية الفردية لكل شخص من قبيل قيمته الشخصية الإيجابيه بينما هو مقبلٌ على الخلود»

تطورت تلك المُدوَّنات الخاصة بالوفيات بظهور نوعٍ من التدوين المُصوَّغ يُعرف بـ «كتالوج الفضائل» والذي ساعد على ظهوره «تطور مهارة القدرة على تجسيد التجارب الحياتية المُجرَّدة المتفاوتة من خلال الصيغ التدوينية الثابتة» (ليشتهايم،5)

يختص كتالوج الفضائل بـ إبراز العمل الخيِّر الذي قام به المتوفي في حياته وعلى أساسه مدى استحقاقه لإحياء ذكراه. تلفت ليشتهايم الانتباه إلى مدى أهمية تلك الفضائل في «انعكاس المستوى الأخلاقي للمجتمع». وفي الوقت نفسه تحديد مدى التزام المتوفي بتلك المعايير الأخلاقية.
بعض تلك السير الذاتية وقوائم الفضائل تُكتب باختصار وتُنقَش على بعض الأبواب التمويهية أو حول أعتاب المداخل؛ بينما تُكتب بعض السير الذاتية الأخرى بشيء من الإسهاب على ألواحٍ متراصة مثل التدوينة الذاتية الشهيرة لـ ويني “Autobiography of Weni”.
كانت تُدوَّن السير الذاتية نثرًا؛ بينما قوائم الفضائل شعرًا. ومن أبرز الأمثلة على ذلك النقوش التدوينية الخاصة بـ (نيفر سيشم رع) والذي يُدعى (شيشي) المنحدر من الأسرة السادسة من الممكلة القديمة:

«لقد أتيتُ من مدينتي

لقد انحدرتُ من سلالتي

لقد حققتُ العدالةَ اتقاءً للإله

لقد ابتغيتُ مرضاتَه

أقررتُ الحقيقةَ؛ وأحققتُ الحقَّ

لقد شهدتُ بـ إنصافٍ؛ وأكررُ بـ إنصاف

لقد أحسنتُ استغلالَ التوقيتاتِ المناسبة

حتى يتسنى لي التواجدُ بما أرتضيهِ لنفسي بين الناس

كنتُ إذ حكمتُ بين اثنينِ، أحكمُ بما يرتضياه

أنقذتُ الضعيفَ من الجائرِ بكلِّ ما أوتيتُ من قوة

لقد وهبتُ الطعامَ للجائعِ، والكِساءَ للمُشَرَد

لقد ساعدتُ التائهَ للعودةِ لديارِه

وقمتُ بدفنِ من لا ابن له يقومُ بذلك

صنعتُ قاربًا لمن يحتاجُ وسيلةَ نجاة

لقد وقّرتُ أبي، وراضيتُ أمي

وربيتُ إخوتي

هذا ما يجب أن يكون عليه كل من يُدعى شيشي»

(ليشتهايم،17)

كما أدت السير الذاتية وقوائم الفضائل إلى ظهور النصوص التدوينية للأهرامات لكلٍ من الأسرتين الخامسة والسادسة والتي كانت مُخصصة للسلالة الملكية وتتضمن قصة حياة الملك؛ فضائله؛ ورحلته الحياتية حتى ما بعد الموت؛ وهي محاولة لتوثيق الحياة الدنيوية للمتوفي إلى جانب رحلته للخلود إلى أرض الآلهة، وخلال قيامهم بذلك قاموا بتدوين المعتقدات الدينية البدائية. لقد تم التعرف على أساطير بدء الخلق عند القدماء المصريين –مثل أسطورة الإله آتوم بتجسيده واقفًا على قمة هضبة بدائية وسط ينابيع مائية عشوائية منهمكًا في عملية الخلق من العدم- من خلال النصوص المدوَّنة في الأهرامات. كما تضمنت تلك التدوينات إشارةً لقصة «أوزوريس»، ومقتله على يد أخيه «سِت»، وبعثه من الموت على يد زوجته «إيزيس» ورعايتها لابنهم «حورس» في مستنقعات الدلتا.

نموذج للنقوش التدوينية من تابوت الملكة (أنخنسنفيريبري- Ankhnesneferibre)

وباقتفاء إثر النصوص التدوينية على جدران الأهرامات؛ تم اكتشاف نموذج أدبي آخر يُعرف بـ «تعاليم الحكمة» تتضمن هذه النماذج بعض الأمثال والحِكَم القصيرة بمقتضاها يعيش الإنسان بشكل أكثر اتساقًا مع نصوص الكتاب المُقدس للحكم والأمثال. وتتضمن تلك التعاليم الكثير مما قد تحتويه الإرشادات الكنسية أو الأخلاقيات الدينية. إن أقدم تلك التعاليم هي المنسوبة للملك (هاردجيدف-Hardjedef ) والتي دُونت خلال وقت ما من عصر الأسرة الخامسة وجاء فيها:

«قم بتطهير نفسك على مرأى من ناظريْك
لئلا يقوم لك غيرك بذلك
عندما تنضج؛ وتؤسس سُكناك بنفسك
أحضر إليه زوجةً ودودةً وابنكَ الذي سيولد
إنه ذلك الولد الذي أسستَ سُكناكَ من أجلِه
في الوقتِ الذي كنت تؤسس مأوى لأجلِك» (ليشتهايم، 58)

كما جاء في التعاليم المنسوبة لـ (كاجمني-Kagemni) ما يلي:
«إن الشخصَ الخلوقَ ينجح
ليكُن الأكثر عرضةً للثناء هو الأكثر تواضعًا
يُفسَح المجال دائمًا لقليل الثرثرة
ودائمًا ما يتسعُ له المكان
لا تُكثر الثرثرة!..
وعندما تكون وسط الجموع
تجنب ما تشتهي من الطعام،
قد لا يستغرقُ كبحُ جماحِ شهيَّتِك سوى لحظة
فـ إن النَّهمَ صفةٌ وضيعةٌ مثيرةٌ للاستنكار.
كوبٌ من الماءِ يروي الظمأ،
وجرعةٌ من الأعشابِ تقوي القلب»

(ليشتهايم، 59-60)

إن عددًا لا بأس به من هذه النصوص قد دُوِّنت وفقًا لطراز أدب النارو –وهو أحد الأنواع الأدبية الشائعة لحضارة ما بين النهرين- والذي يتضمن إنساب أو تجسيد شخصية شهيرة. إن الملك (هاردجيدف) لم يكتُب التعاليم المنسوبة إليه؛ كما أن التعاليم المنسوبة إلى (كاجمني) هي لا تؤول إليه بالفعل. فـ كما هو الحال في أدب النارو؛ يتم الاستشهاد بـ شخصية معروفة لتكتسب النصوص ثِقلًا وقبول على أوسع نطاق. أدب الحكمة، النصوص المُدونة على الأهرامات، نقوش السيرة الذاتية، كلها نماذج أدبية تطورت خلال عصر المملكة القديمة وقد كانت ترسيخ لما سيليها من أدب عصر المملكة الوسطى.
نستكمل الأدب في عصر المملكة الوسطى في المقال القادم.

ترجمة: آلاء محمد مرزوق
المصدر

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي