توماس هوبز: فيلسوف العقلانية

توماس-1

وُلد توماس هوبز في مالمبسري من عام (1588-1679) بانجلترا، وكان صديقًا لفرانسيس بيكون ويقال أنه كان سكرتيرًا له، وصديقًا أيضًا لـ بن جونسون وغيرهما من أعلام الفكر بانجلترا. تلقى دراسته في الرياضيات والعلوم الطبيعية في باريس، فتعرّف بجاسندي وديكارت. وكان هوبز من أشد المدافعين عن “الفلسفة الآلية” الجديدة التي كان ينشرها كبلر وجاليلو وغيرهم. أما أشهر مؤلفاته فرسالة بعنوان “في الطبيعة البشرية” و “Leviathan”، اللوتيان/اللوياثان أو التنين، وهي  كلمة عبرية تعني المُلتف أو الملتوي، وقد وردت هذه الكلمة كثيرًا في أسفار العهد القديم لاسيما سفر أيوب بمعنى (الحيوان المائي الضخم الذي يهاجم  ويلتهم جميع الحيوانات الأخرى)، ويقصد هوبز بذلك سيطرة  الدولة على جميع رعاياها حسبما سيأتي بيانه.

———————————–
◄ معارك هوبز الفكرية :

كان هوبز قد تعرّف على أعمال  وتلقى نسخة من كتابه “مقال عن المنهج” من السير كنلم ديجبي وذاك بعد نشر الكتاب بأشهر قليلة، وكان نزاعه مع ديكارت أول معاركه الفكرية، ويرجع هذا النزاع إلى سببين، أولهما مشكلة الكيفيات الثانوية التي اعتقد كل منهما أنه أول من توصل إليها. والثاني هو الاعتراضات التى قدمها هوبز حول كتاب “التأملات” لديكارت والذي كان أحد القلائل الذين اطلعوا عليه قبل أن يُنشَر. والقصة تبدأ مع وصول هوبز إلى باريس قبل نشر “تأملات” ديكارت والتي أرسلها الفيلسوف الفرنسي إلى الأب مرسن لكى يجمع من المفكرين الاعتراضات التي يُبدونها قبل نشر الكتاب بالفعل، وقد أعطاها مرسن بدوره إلى هوبز ليبدي اعتراضه كما يرى، وبالفعل كتب هوبز ستة عشر اعتراضًا هي المشهورة في تاريخ الفلسفة باسم “الاعتراضات الثالثة” على تأملات ديكارت. (وسُميّت بالاعتراضات الثالثة لأن ديكارت كان قد أرسل تأملاته رجل دين هولندي يدعى كاتروس، ثم أرسله إلى مرسن مع اعتراضات كاتروس، فسميت هذه المجموعة باسم الاعتراضات  الأولى، ثم جمع مرسن اعتراضات أخرى من مختلف اللاهوتيين وسميت تلك الاعتراضات بالاعتراضات الثانية، أما اعتراضات هوبز فهي الثالثة). ولم يذكر هوبز اسمه لكنه وقعها باسم (رجل انجليزي)، غير أنه أرسل مع اعتراضاته ورقة حول البصريات في كتاب مرسن عن البصريات، وهي ورقة في الأساس كانت نقدًا لكتاب ديكارت “عن انكسار الضوء”. بيد أن ديكارت اتهم “الرجل الإنجليزي” بانتحال أفكاره حول الكيفيات الثانوية كالصوت واللون وغيرهما باعتبارهما أفكارًا ذاتية ترجع إلى الذات المُدرِكة لا إلى الموضوع المُدرَك. والحق يُقال أن أول من توصل  لنظرية الكيفيات الثانوية هو جاليلو وعرضها بتفصيل شديد في كتابه “المحاورة”، وهناك أخرون يرون أن الكيميائي الانجليزي روبرت بويل  هو أول من ميّز بين العناصر والمركبات وبين الكيفيات الأولية والكيفيات الثانوية، مما يعني أنه لا هوبز ولا ديكارت أول من تحدث عن تلك النظرية!

كان هناك جانب أخر من معارك هوبز مع ديكارت الفكرية، لكن هذه المرة يقع الخلاف بينهما حول مسألة دينية. حيث كانت أراء ديكارت اللاهويتة هي الأراء التي لم يستطع هوبز أن يهضمها، ولم يستطع أن يغفرله ما كتبه دفاعًا عن “التناول” وتحوّل خبز القربان وخمره إلى جسد المسيح ودمه ليرضي اليسوعيين، وهي فكرة كان هوبز يعتقد بأن ديكارت نفسه غير مؤمن بها. فضلًا عن ذلك كان هوبز ماديًا فلم يكن يتصور الكون كله إلا مادة أو جسمًا يتحرك، وعلى ذلك لم يقبل ثنائية ديكارت بين الروح والمادة.

في باريس أيضًا كانت لفيلسوفنا هوبز معركة فكرية ثانية، غير أنها من نوعِ مختلف تمامًا هذه المرة، امتدت حتى بعد عودته إلى انجلترا وكانت مع الأسقف براهمال عن حرية الإرادة. كان الأسقف أرميني الأصل لاجئًا في فرنسا. وبدأ الحوار بينهما في بيت صديق مشترك لهما، فوجد الأسقف هوبز يتحدث عن حرية الإرادة، فلمح فيه خصمًا يتحدث بإنكار تلك الحرية فاحتدم النقاش بينهما لدرجة جعلت من صديقهما المشترك يطلب منهما تدوين أفكارهما في وريقات قليلة، فلخص هوبز رأيه شعرًا في سيرته الذاتية على النحو التالي:
كانت المشكلة ولا تزال،
أنختار بإرادتنا أم بإردة الله،
وكانت مشكلة ناتجة عما تقدم،
أما هو فقد اتبع المدارس، أما أنا فاستخدمت عقلي.

غير أن المتشاكسين قد اتفقا على عدم  نشر ما دوّنَاه من أفكار وأراء، غير أن صديقًا فرنسيًا لهوبز أراد أن يطّلع على ما كتب، فوافق هوبز ووافق أيضًا أن تًتَرجَم المخطوطة إلى الفرنسية، لكنّ المُترجِم احتفظ لنفسه بنسخة من الأصل الانجليزي ونشرها دون علم هوبز، وذلك بعد عودته إلى انجلترا. وهو ما أدّى في نهاية المطاف إلى غضب الأسقف واعتبر ما فيها هجومًا عليه لاسيما المُقدِمة الساخرة التي كتبها المُقدِم عنه، فقام الأسقف بكتابة ردٍ ليس فقط على المخطوطة التي تتحدث عن “حرية الإرادة”، بل هجوما عنيفا على كتابه “التنين”  بعنوان “اصطياد التنين”، وقام هوبز بالرد على “اصطياد التنين” بكتاب لم يُنشَر إلا بعد وفاته.

كانت معركة هوبز الفكرية الخاسرة معركة  صمم فيها عقله المتهور أو الطموح أن يستمر فيها لمدة تزيد عن عشرين عامًا، ألا وهي معركة “تربيع الدائرة”.

قام هوبز في عام 1654 بنشر مكتشفاته الرياضية، والحق أنه لم يكن له باع طويل بها، فهو مجرد ذكي وهاوٍ فقط ليس أكثر، ونشرها هوبز بكثيرِ من الزهو واستعراض البراعة وذلك في كتابه “في الجسم”، فانتهز “جون واليس” أستاذ الهندسة بأوكسفورد هذه الفرصة وكان بينهما نزاع قديم يرجع إلى هجوم هوبز المستمر على الجامعات ومناهجها الأرسطية التي تدرسها، فقام جون واليس بانتهاز الفرصة التي كان يتحينها منذ مدة ليست بالقليلة، فأعدّ ردًا هدم فيه براهين هوبز على “تربيع الدائرة” هدما قاتلًا، وهو ما أدى إلى المزيد من إشعال المعركة الفكرية بينهما، فقام بهذه المحاولة أربع مرات تقريبًا غير أنه فشل في جميعها. ولئن كان براترند راسل يُعلّق على هذه المعركة فيقول أن هوبز قد دخل بغاية الحماقة في جدال مع جون واليس؛ إلا أن إمام عبد الفتاح إمام يُعلّق على هذه المعركة في كتابه “هوبز” قائلًا: «لم تكن مشكلة تربيع  الدائرة من السخف على  نحو ما تبدو عليه الآن؛ فنفس المشكلة شغلت عقولًا عظيمة أخرى وعلماء رياضة ممتازين في نفس هذا القرن أمثال جون بل. ولم تُحسَم هذه المشكلة إلا في القرن الثامن عشر عندما ظهر أخيرًا استحالة مثل هذه المحاولة.»
———————————————
◄ مجال الفلسفة عند هوبز وتعريفها:
يعتبر هوبز أول فيلسوف، وربما أعظم مادي في العصور الحديثة، فالنسبة له أي ما كان الموجود فهو مادة، وأيا ما كان يتغير فهو حركة. ويُعرّف الفلسفة بأنها (فهم النتائج أو ظواهر الطبيعة بالرجوع إلى أسبابها، أو فهم هذه الأسباب نفسها بما نستنبطه من النتائج التي تقع تحت ملاحظتنا استنباطًا صحيحًا).

والفلسفة عنده تشمل كل ضروب المعرفة فيقول أن الحكمة ليست شيئًا أخر غير ما يأتي بالمعرفة التامة بحقيقة جميع الموضوعات أيا كان نوعها، ولا يمكن أن تكون  نتيجة لمعة ذهنية مفاجئة، بل من عمل عقل متزن تمامًا، وهذا ما نلخصه في كلمة واحدة ألا وهي الفلسفة. ولقد قسّم هوبز الفلسفة إلى ثلاثة أقسام على التوالي:

1- (في الجسم) .. ويشمل الطبيعة وما بعد الطبيعة والرياضيات
2- (في الإنسان) .. ويدرس فيه سيكولوجية الإنسان
3- (في المواطن) .. ويهتم فيه بما يسميه الفلسفة المدنية والسياسية والأخلاق
——————————
◄ سيكولوجية الإرادة والمعرفة عند هوبز …
• يكمن مصدر المعرفة البشرية بأسرها في الإحساسات، لأنه وحسب ما يخبرنا هوبز: «ليس هناك تصور في ذهن الإنسان، لم يكن في مبدئه كله أو جزء منه، قد تم الحصول عليه بواسطة  أعضاء الحس، وما تبقى من الأفكار فهو مشتق من هذا الأصل.» فالصور الحسية أو الخيالات كما يقول هوبز أحيانًا تنشأ من ضغط الأشياء الخارجية على حواسنا، سواء أحَدَثَ ذلك بصورة مباشرة كما يحدث في حالات التذوق واللمس، أو بصورة غير مباشرة  كحالة الرؤية أو السمع والشم. ويُثير هذا الضغط على أعضاء الحس حركة تصل إلى المخ أو القلب، فيستجيب أحدهما باللون أو بالصوت أو بالرائحة وما إلى ذلك؛ لذلك فلا بد أن نقول أن الإحساس هو نتاج المخ الذي ينتج من إثارة من خارج الجسم البشري. ويرى هوبز أيضا أن سلسلة التفكير في الإنسان أو ما يسميه الحديث الذهني، والتي يُطلق عليها مصطلح (تداعي الأفكار)، ترجع إلى حركات في مخ الإنسان، ولقد طبق هيوم فيما بعد تفسيرًا أليًا لهذه العلمية فذهب إلى أن الأفكار ذرات ذهنية ترتبط  حقًا بمبادئ التداعي بطريقة مشابهة لذرات نيوتن التي ينجذب بعضها لبعض بفعل الجاذبية. وينظر هوبز إلى كل العمليات الذهنية على أنها حركات للجزيئات الفزيائية في الجسم. وتداعي الأفكار عند هوبز ينقسم إلى نوعين: فكر غير مُوجَّه وبغير تخطيط (أي أنه يفتقر إلى فكرة مُسيطِرة تقود الأفكار التي تعقب بعضها بعضا)، أما النوع الثاني فهو التسلسل الذي تنظمه رغبة أو خطة.

  • الانفاعلات أو العواطف عند هوبز تنشأ من اللذة والألم، فإذا كانت نحو شيء فهي رغبة، وإن كانت بُعدًا عن شيء فهي نفور. فالحب مثيل للرغبة والكراهية مثيلة للنفور. وعمليات الشعور والإرادة حركات في الجسم، وثمة نوعان من الحركة خاصة بالناس والحيوانات وهما: حركة حيوية، وحركة إرادية مثل المشي و التحدث أو تحريك عضو من الأعضاء أو جريان الدم والهضم وما إلى ذلك.
    • أما عن الأحلام عند هوبز، فيتناولها أثناء كلامه عن السيكولوجيا بوصفها امتدادًا لظاهرة التخيّل. يرى هوبز أن الاحلام مسؤولة إلى حد كبير عن نشاة الإيمان بالخرافة وبالأشباح وما يتعلق بذلك من أفكار، كما أنه بسببها نشأ الجانب الأكبر من الدين. أما عن كيف تنشأ الأحلام؟ فيجيب هوبز بأن الأعضاء الضرورية للحس وهي المخ والأعصاب تكون شبه مشلولة أثناء النوم، وبالتالي لا تقوى على الحركة عندما تثيرها الموضوعات الخارجية، فلا تخيلات أثناء النوم، أما الأحلام فتنشأ من اهتزازات في الأعضاء الداخلية بجسم الإنسان وهي أعضاء تظل لارتباطها بالمخ مُحافظةَ على نفس حركتها فتظهر التخيلات التي كان المرء قد سبق أن أدركها على نحو ما كانت تظهر في اليقظة. أما عن علاقة الأحلام ودورها في نشأة الأديان فيرى هوبز أن جهل الإنسان أو عدم قدرته على التفرقة بين الأحلام والخيالات الأخرى القوية، لاسيما تلك التي أُطلق عليها اسم الأشباح وهي الأحلام الناتجة عن اضطرابات نفسية أو جسمية، فهذا الجهل هو السبب في نشأة الجانب الأكبر من الدين عند الوثنيين في الأزمان الغابرة، فقد عبد الوثنيون كثيرًا من الحيوانات الخرافية مثل الساتيرا والحوريات والظباء وما شابه ذلك. ويمكن أن ينطبق ذلك على ما يقول به السُذّج من الناس في أيامنا الراهنة، عندما يزعمون رؤيتهم لأشباح وعفاريت أو إيمانهم بامتلاك السحرة قوى خاصة.
    —————————————
    ◄ الأخلاق والفلسفة السياسية ..
    يرى هوبز أن كل إنسان في حالة الطبيعة، وهي تلك الحالة التي تسبق تكوين الدولة السياسية، كان يبحث عن بقاءه، وإشباع رغباته ولذاته الأنانية، ولكل واحد الحق في الحصول على ما يريد ومن ثم المحافظة عليه، وكل ذلك يحدث في ظل انعدام كامل للقانون أو الأخلاق. النتيجة الحتمية لذلك هي “حرب الكل ضد الكل”. لأن الناس إما أن يكونوا في حالة حرب فعلية، أو في خوف دائم من أن يُهاجِم بعضهم بعضًا، فالحرب لا تكمن فقط في القتال، بل من صورها أيضًا الخوف الدائم والاستعداد للصراع. ويرى هوبز أن هذه الحالة للمجتمعات كانت موجودة بالفعل وأنها حالة تاريخية. وفي حالة الطبيعة هذه، ليس هناك ثمة ملكية، وليس هناك عدالة أو لا عدالة، فهنالك فقط الحرب. والقوة والغدر هما الفضيلتان الأساسيتان أثناء الحرب.
    غير أن الناس يرغبون في السلم والأمن والطمأنينة بصورة طبيعية، فيقومون بالإتحاد في مجتمعات كل منها يخضع لسلطة مركزية ويحدث هذا بواسطة عقد اجتماعي، يوافق كل فرد بموجبه على إطاعة أوامر صاحب السيادة الذي يكون بدوره رجلا واحدا  وخلفاؤه، أي النظام الملكي الذي يؤثره هوبز عن أي شكل أخر لأنظمة الحكم. وسلطات الملك عند هوبز غير محدودة، فله الحق في الرقابة على كل تعبير عن الرأي. ومن المفترض ان همه الرئيسي هو الحفاظ على السلم الداخلي ، ومن المُسلَّم به أن الملك يمكن أن يكون مستبدًا، فأسوأ استبداد لهو أفضل من الفوضى، والحكومة الملكية التى على رأسها ملك واحد أفضل عند هوبز من تلك التي يرأسها مجلس، لأن من المسلم به عند هوبز أنّ مصلحة الملك لن تتعارض مع مصلحة الجمهور، وذلك على العكس من شأن المجلس الذي قد تتعارض مصالح أعضاءه مع بعضهم بعض، وقد يفوز أي فريق منهما بأغلبية الأراء في قضية ما، فينقسم المجلس على نفسه مما يؤدي في نهاية المطاف إلى حرب أهلية.

والأخلاق عند هوبز تقوم على سيكولوجية الأنانية ومبدأ اللذة الأناني، وغالبًا تتسق هذه الأخلاق والميتافيزيقا المادية، وإن كان هوبز قد توصل إليها عن طريق تحليل البواعث البشرية من خلال الملاحظات والإستبطان، لا عن طريق حركات المخ والقلب، غير أن هناك وجهة نظر أخرى في الأخلاقيات عند هوبز تقوم على (الواجب)، ورأي ثالث يراها  تقوم على (العقل).

———————————-

 

إعداد: عماد السعيد
مراجعة: Ahmed Abd Elkareem

تصميم : Bothaina Mahmoud

 

المصادر:

توماس هوبز فيلسوف العقلانية- إمام عبد الفتاح إمام.
أطلس الفلسفة- بيتر كونزمان ،فرانز بيتر بوركارد، فرانز فيدمان، اكسل فايس

قصة الفلسفة الحديثة- زكي نجيب محمود

تاريخ الفلسفة الحديثة- يوسف كرم
تاريخ الفلسفة الغربية- برتراند راسل
تاريخ الفلسفة الحديثة- وليم كلي رايت

 

شارك المقال:

فريق الإعداد

إعداد: عماد السعيد

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي