«لم أفكر يومًا في كتابة المُذكّرات؛ فأنا أفتقر إلى الموهبة الأدبية، وكنت طوال عمري مشغولة بإصدار مؤلّفات الراحل زوجي، فلا وقت عندي لأمورٍ أخرى، إلا أن صحّتي تدهورت في عام ١٩١٠ وعهدت إلى آخرين بمتابعة طبع مؤلفاته، وانزويت بعيدًا عن العاصمة بطرسبورغ، وكان لا بُد أن أملأ فراغ أوقاتي وإلا فلن يطول بي العمر، أعدت قراءة يوميّات زوجي ويومياتي، فوجدت فيها تفاصيل هامة تستحق أن يطّلع عليها الناس، ثم أمضيت خمس سنوات (١٩١١-١٩١٦) في إعداد هذه المذكّرات.»
تُقدِّم آنا غريغوريفنا في مُذكِّراتها فكرةً وافية عن دوستويفسكي الإنسان، وكيف عاشا حياة صعبة مليئة بالأحداث والصعوبات، ورغم ذلك، عاشا حياةً مليئة بالمشاعر النبيلة والعميقة. كما تتحدث عن مشاريع دوستويفسكي الروائية، وأسفاره خارج روسيا، وتعرض علاقاته بأدباء عصره ونُقّاده، وصولًا إلى اللحظات الأخيرة في حياته، الآن سنُبحِر مع آنا في حياةٍ عُبِّئت بالتناقضات، ما بين أعلى قمة للمجد والشهرة، وصولًا لأسفلِ قاعٍ للبؤس والخيبة، وبين هذا وذاك… دربٌ… وعُمرٌ يشاء القدر ألا نعرف عنه من صاحبه، وإنما ترويه لنا آنا، بعد انتهائه…
جوهرةٌ، أم حَجَر؟
تحكي آنا بداية تعارفها بكاتبنا حين التحقت بمعهد التربية ولم تكمل الدراسة فيه، فقرر والدها أن تلتحق بدورة الاختزال «والدي الذي ربّما كان عرّافًا يقرأ الغيب، ويدري أني سألقى سعادتي بفضل هذه المهنة»، حين أخبرها أستاذها في الدورة أن الكاتب دوستويفسكي يبحث عن شخص يجيد الاختزال ليُملي عليه روايته الجديدة «المقامر»، ورشّحها أستاذها لهذه المهمّة.
خفق قلبها، ليس لأكثر من أنها كانت تنشد الاستقلال وتبحث عن عمل يُقرّبها من غايتها، لا سيما وأن تلك الفرصة سوف تسمح لها برؤية واحدٍ من كتّابها المفضّلين الذي تبكي وهي تقرأ رواياته، لكن المفاجأة كانت حين رأته، واكتشفت أنه ليس شيخًا عبوسًا بعمر والدها كما تصوّرته، تصف آنا ذلك المشهد، فتقول:
«وعندما رأيته لأول مرّة خُيّل إليّ أنه عجوزٌ بالفعل، ولكن ما إن تحدّث معي حتى تضاءلت سنّه، وبدا لي في الخامسة والثلاثين. كان متوسط البنية معتدل القامة، شعره كستنائي فاتح أقرب إلى الأشقر، مدهون ومصفوف بأناقة. وجهه شاحب كوجوه المرضى، يرتدي سترة من الجوخ الأزرق تكاد تكون بالية، إلا أن قميصه ناصع البياض بياقة منشأة وردنين بارزين، ولكن ما أدهشني فيه هو عيناه، لاختلافهما الواضح. إحداهما بنيّة، وفي الآخرى بؤبؤ مُتّسع يحتل فضاء العين، مما يجعل نظرته لغزًا من الألغاز!»
كان أول حديث بينهما من نصيب حكايته مع حُكم الإعدام الذي صدر له بتهمة التآمر على النظام حين قام أحد أعضاء الحلقة الثورية التي كان يتردد عليها دوستويفسكي لمناقشة الأوضاع السياسية بالوشاية عنه هو وأقرانه، وبعد تنفيذ كل الترتيبات وهم ينظرون إليهم بأعين ملأها الرعب مرتدين قمصان الموت -جاءت الأحداث المذكورة بالتفصيل في رواية «الأبله»- وحتى جاء دوره وحتى اللحظة الأخيرة وقبل إطلاق الرصاص بثوانٍ أُعلِن وقف التنفيذ، وخُفِّف الحُكم حتى أصبح أربع سنين من الأشغال الشاقّة، وظلّ دوستويفسكي يصف لها فرحته بحياةٍ وُهِبَت له من جديد.
اقشعرَّ بدن آنا من حديثه، وأدهشتها صراحته؛ فهذا الرجل الذي تبدو عليه مظاهر الانطوائية القاتمة يُحدّثها عن تفاصيل حياته بصدق كأنه يعرفها منذ زمنٍ بعيد، لكن حيرة آنا لم تتبدَّد إلا بعد أن اطلعت على أوضاعه العائلية وأدركت سبب بحثه عن أناسٍ يضع ثقته فيهم ويُفضي إليهم بما يعتمل في نفسِه؛ فقد كان يشعر بوحدة قاتلة بعد وفاة زوجته الأولى ماريا وشقيقه الأكبر ميخائيل، ويعيش مُحاصرًا من قِبَل الخصوم والحُسّاد والدائنين.
وبينما كانا يواصلان العمل على إتمام رواية «المقامر»، وبدا على دوستويفسكي الابتهاج كما لم تعهده آنا، وحين سألته عن سبب ذلك أجابها أنه قد رأى منامًا، وطلب منها ألا تسخر منه، ولكنه يُصدّق الأحلام، بل أن أحلامه تتحقق دومًا؛ فعندما يرى المرحوم شقيقه ميخائيل أو يحضره طيف والده مثلًا فلا بد أن تحل به مصيبة، لكنّه هذه المرة رأى جوهرة برّاقة بين مخطوطاته، فكان ردّها أن قالت له أن الأحلام عادةً ما تُفسَّر بالمقلوب، فسألها: «تعتقدين أني لن أجد السعادة أبدًا وأن ذلك مُجرد أمل واهٍ؟» فأسفت لما قالت ثم أردفت: «ولكنّي لا أصدق الأحلام»، وسرعان ما تبدّل مزاجه وأخبرها أنه لا يجد خاتمة مناسبة للرواية؛ ففي الرواية فتاة، وهو غير مُلِم بارتعاشات نفوس الفتيات، فسألها مُرتبكًا:
-ما رأيك؟ هل تستطيع فتاة شابّة أن تُحب فنانًا عجوزًا مريضًا مُثقلًا بالديون؟.. لنفترض أن الفنان هو أنا، البطلة أنتِ، فما رأيك؟
=لو كان الأمر كذلك فعلًا لأجبتك: أحبّك، وسأظلّ على حبّي مدى العمر…
-إذن، وجدتُ الجوهرة أخيرًا؟
=عسى ألا تكون حجرًا!
افتضحَ سريعًا سِرّ خِطبة دوستويفسكي وآنا؛ فقد أفضى به دستويفسكي في لحظة ابتهاج إلى أحد رفاقه الذي بدوره أبلغ الخادمة التي نقلته في الحال إلى «بافل» ابنه بالتبنّي والذي سرعان ما جنَّ جنونه، فكيف له أن يبدأ حياةً جديدة دون استشارة ابنه؟ لكنه مع ذلك لم يستمر غضبه طويلًا، بل أنه صار أكثر مرونة بمرور الزمن.
سألته آنا مّرة: «لِمَ لَمْ تتقدَّم إليّ بخُطبة عاديّة كما يفعل الجميع، وجئت بمقدمات طويلة عريضة بشكل رواية مُختلقة؟ وأجاب: «في الحقيقة كنت يائسًا، وكنت أعتبر الزواج منكِ تهوُّرًا وجنونًا. فالتفاوت بيننا رهيب وفارق السن بيننا ربع قرن. أنا مريض كئيب سريع الانفعال، وأنتِ مُفعَمة بالحيوية والمرح. أنا إنسان مُستهلَك، أكلت عمري وتجرّعت المصائب والأهوال. وأنتِ تعيشين حياة هانئة والمستقبل كله أمامك. ثم أني فقير ومُكبَّل بالديون. فماذا أنتظر؟ فجاء ردّها: «إنك تُبالغ يا عزيزي. فالتفاوت بيننا ليس فيما تقول. التفاوت الحقيقي أنك اخترت فتاة مُتخلّفة لن تقترب شبرًا من مستواك الثقافي في يومٍ من الأيام.»
«كنتُ مُترددًا مُتهيّبًا في الخِطبة. أكثر ما أخشاه أن أغدو مثارًا للسخرية فيما لو رفضتِ. كنت أتوقّع أن تردّي عليّ بأنكِ تُحبّين شخصًا آخر. ولو جاء جوابكِ على هذا النحو لكان ضربة قاسية لي؛ فأنا أُعاني من وحدة خانقة وكنت أريد الاحتفاظ بصداقتكِ على الأقل؛ ولذا أردت رأيكِ في البداية من خلال مُخطط رواية وهمية. كان أسهل عليّ عندئذ أن أتحمّل رفضك. إذ سيكون موجهًا ضد بطل الرواية وليس ضدي شخصيًا. وعلى أيةِ حال أرى أن تلك الرواية المُختلقة أفضل رواياتي على الإطلاق؛ فقد عادت عليّ بالثمارِ رأسًا.»
مُجرَّدًا حتى من معطف الفرو!
لم يترك الفقر له فسحة يتنفس فيها، أو يعيش فيها بارتياح هو وعائلته. ولم تنحل من حول رقبته الديون طيلة حياته. تكالبت عليه أسوأ الظروف والكوابيس: الفقر، غلبة الديون، ابتلاؤه بمرض الصرع، وفاة ابنته الكبرى وهي طفلة، وفاة ابنه المحبوب أليوشا وهو صغير، حقارة ووضاعة أقربائه، انعدام أخلاق زملائه الأدباء، ازدراء الدولة له.
وفي مواجهة هذا السيل الجارف من الكوابيس، وفي مواجهة هذا العالم الردىء اللاأخلاقي، لم يكن يملك دوستويفسكي غير قلمه وبضعة أوراق، ونيةً طيبة كانت لتودي بحياته ذات مرة حين بلغت به أن يضحي بمعطفه الشتوي الوحيد حين جاءه أحد أقربائه يستعطفه ويذرف دموع التماسيح بين يديه كي يعطيه مبلغًا من المال؛ ولأن دوستويفسكي لم يكن يملك من المال شيئًا، فقد قرر أن يضحي بكل طيب خاطر ويرهن معطفه كي يعطي قريبه المال الذي طلبه. مما أدى إلى إصابة دوستويفسكي بالحمّى وبنوبة صرع في نفس اليوم، نتيجة البرد الشديد، وعدم وجود أي ملابس ثقيلة يتدفأ بها بعد أن رهن المعطف الوحيد الذي كان يملكه.
جاءني في إحدى ليالي الشتاء القارصة يرتجف من البرد بمعطف خريفي، فأسرعت إليه بالشاي السّاخن، وسألته مُتعجّبة: «أين معطف الفرو؟» فأجابني مُترددًا: «ولكني أعتقد… أعتقد أن الجو دافئ!»
آلمتني ظروف الحياة القاسية التي عاشها دوستويفسكي، والتي كان تحت وطأتها ينتج للبشرية إبداعاته التي ما زلنا نقرأها ونتلذذ بها حتى الآن. تقول آنا أن دوستويفسكي كان في أغلب الأحيان حزينًا على رواياته وغير راضٍ عنها، لأنه كان يكتب أجزاء كبيرة منها تحت وطأة الديون الثقيلة وهموم تسديدها. فكان حين ينتهي من كتابة جزء من رواية ما، يرسله على الفور إلى دار النشر كي تبعث له بدورها مبلغًا من المال يسدد به بعض ديونه، ثم حين يشرع في كتابة الأجزاء الأخرى من الرواية يكتشف خطأً ما في تسلسل الأحداث، فتصيبه الكآبة لأنه لن يستطيع التعديل على الجزء الأول الذي قد صار مطبوعًا ومنشورًا في المجلات والصحف.
لحظات شعرت فيها بالأسف على مرّاتٍ عديدة لم أُكمِل فيها قراءة أعمال دوستويفسكي لتشتُّتها الواضح والمُتكرِّر في معظم أعماله دون إيجاد سبب واضح لذلك حينذاك، حتى قرأت لـ آنا تقول: «أنه لو قُدّر للعظيم دوستويفسكي أن تكون ظروفه المادية أفضل، لكانت أعماله أكثر تشذيبًا وجمالًا وروعة مما هي عليه».
«كنت بالنسبة إليه مِحرارًا أو مكشافًا يعكس مدى نجاحه في التأليف؛ فأنا قارئته الأولى، وهو يعتز برأيي ويؤكد أنه تيّقن مرارًا من صحة انطباعاتي بعد اطلاعه على آراء القرّاء والنقّاد.»
وأعتقد أن نفس السبب الذي قد يجعلك تنفر من روايات دوستويفسكي هو نفس السبب الذي قد يجذبك إليها، وذلك في رأيي بسبب أنه كتبها تحت وطأة ظروف مادية ونفسية قاسية، فخرجت لنا صادقة نقيّة وبريئة. ليس فيها كبرياء الأغنياء، ولا تشذيب المترفين الذين يعيشون في قصورٍ عاجية غير آبهين بمعاناة باقي البشر. دوستويفسكي كان إنسانًا، واختبر المشاعر والأحاسيس الإنسانية، وعاش حياةً حقيقية فيها الحُلو الهادئ وفيها المرّ القاسي، حتى وإن غلبَ عليها المرّ والقسوة. هذه الحياة التي عاشها انعكست على أعماله فكانت هي الأخرى تعكس الحقيقة البشرية والإنسانية كأنها بدون (ماكياج). لذلك أحبّها القرّاء في زمنه، ويحبّها القرّاء الآن، وسيحبّونها في المستقبل وإلى الأبد. لأنها خرجت من قلب إنسان حقيقي.
٢٥ كانون الثاني ١٨٨١
استيقظ دوستويفسكي في اليوم التالي كعادته ظهرًا وأخبرني أن نزيفًا طفيفًا حدث له في الليل. تدحرجت المحبرة تحت خزانة الكتب فاضطر أن يزحزحها من مكانها فنزف الدم من فمه. ولقلة ما نزف من دم لم يقلق كثيرًا ولم يوقظني ساعتها. وفي النهار كان هادئًا يمزح مع طفليه، إلا أن الدم سال من جديد شريطًا رفيعًا على لحيته في حوالي الخامسة. فصرخت في هلعٍ رهيب. وعندما وصل الطبيب بعد ذلك وفحصه وصار الدم يسيل بغزارة وأغمي على دوستويفسكي، غير أن الدكتور أكد أن لا خطر على حياته وقال أن الدم سيتخثر في الشريان الرئوي المنفجر ويسد الثغرة، لا سيما وأن ما نزف منه في المرات الثلاث لا يتجاوز قدحين.
توقف النزيف فعلًا نهار ٢٦ كانون الثاني ومع ذلك لم يغمض لدوستويفسكي جفن خلال الليل، طلب مني أن أحضر الإنجيل وأشعل شمعة وقال: “سأموت اليوم”. فتح لي الإنجيل على صفحات اختارها عشوائيًا وأعطاني إياه فقرأت فيه: «وإذا السموات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيًا عليه» كرّر دوستويفسكي مما قرأت «وإذا السموات قد انفتحت له» وأضاف: «ألم أقل لكِ يا حبيبتي أنني سأموت اليوم؟»
وفي التاسعة من صباح ٢٧ غفا بهدوءٍ ويداي في يده. إلا أن النزيف أيقظه في الحادية عشرة. والمنزل يغص بالحاضرين في انتظار عودة الطبيب الذي وصل في حوالي السابعة مساءً. آنذاك انتفض دوستويفسكي فجأة دون سبب واضح، ورفع رأسه، فشحب الدم على وجهه من جديد. ولم تسعفه مكعبات الجليد. أغمي عليه وشعرت أن النبض يكاد يضيع…
يُقال أن العظماء يشعرون دائمًا بالموت حين يحين موعده. يُحسون به حين يقترب ليأخذهم إلى العالم الآخر -العالم الأفضل-. أحسّ دوستويفسكي بالموت، وأخبر حبيبته ورفيقته بهذا كي لا تفزع. استقبل الموت بابتسامته المعتادة مُطمْئنًا زوجته ومداعبًا أطفاله، وحين حانت اللحظة أمسك بيد زوجته وأخذت هي بيدها الأخرى تمررها برفق على جبينه وكأنها تهدهده لكي ينام. هو بالتأكيد يعلم أن الموت سيُريحه من العالم الدنيويّ المادي الذي أذاقه المُر طويلًا، على الأقل لن يشعر بثقل الديون ولا بخبث المقربين منه ولا بنوبات الصرع المتوالية.
وفي الساعة الثامنة والدقيقة الثامنة والثلاثين… أسلَم دوستويفسكي الروح. رحَل عنّا بجسده، ولكنّ نبضات قلبه ما زالت تدق مع كل صفحة نقرأها منه وعنه… وإلى الأبد. ذلك لأن العظماء لا يموتون. بل أن الموت يتواضع في حضرتهم…
3 Responses
لا أملك سوي التوجه بالشكر للأستاذة المترجمة، و التوجه بالدعاء إلى روح هذا الأديب الإنسان
جميلة جدا جدا