فرضيات نشأة الحياة من وجهة نظر علم الأحياء.. وماذا بعد؟!

فرضيات نشأة الحياة من وجهة نظر علم الأحياء.. وماذا بعد؟!

مقدمة لا بد منها

مرحبًا بكم من جديد في الجزء الثاني من مقالات أصل الحياة من وجهة نظر علم البيولوجيا. لم تقرأ الجزء الأول بعد؟ لا يهُم، بإمكانك أن تقرأ الجزء الثاني ثم تعود للجزء الأول في وقت لاحق، وإليك ملخص سريع لما كان يحتويه الجزء الأول.

تلخيص لا بد منه

في المقال السابق تحدثنا عن فرضية عالم RNA  التي تفسر من أين نشأت الحياة  والأدلة التي تدعم كَوْن أن الحمض النووي الريبوزي (RNA) هو أول جزيء بدأت منه الحياة على سطح الأرض، وأنه كان يقوم بالوظيفتين الأساسيتين في كل الأحياء، وهما: تخزين المعلومات الوراثية والقيام بدور العامل الحفزي لكل التفاعلات البيوكيميائية التي كانت تتم آنذاك، وتساءلنا عما إذا كان هناك أيُّ فرضيات أخرى تواجه تلك الفرضية. وما المراحل التي تلت نشأة جزيء الـ RNA حتى ظهر أول كائن حي كما يقره علم الأحياء. وكيف يمكننا الاستفادة من تلك الفرضيات في التنبؤ بنشأة الحياة على الكواكب الأخرى. في هذا الجزء سنحاول أن نجيب عن هذه الأسئلة، فهيِّئ نفسك وكرّس تركيزك كله للقراءة.

السؤال الأول: ما الاعتراضات على هذه الفرضية؟

الـ RNA وحده غير كافٍ!

من ضمن الاعتراضات على فرضية (عالم RNA ) أن الـ RNA كان متأقلمًا مع درجة حرارة الأرض آنذاك، التي كانت تساوي مئة درجة سيلزية ليقوم بوظيفته الحفزية، لكن ماذا عندما بدأت الأرض تبرد؟ يوضح المعارضون أنه في هذه الحال لن يستطيع الـ RNA أن يتطور ليكمل القيام بوظائفه الحفزية كما كان يفعل.

من الأدلة القوية التي تدعم فرضية عالم RNA أيضًا، هو وجود ما يُعرف بالريبوزيمات (Ribozymes)، وهى إنزيمات حفزية تتكون من الـ RNA، ولكن قوبل هذا الدليل بالمعارضة، استشهادًا بأنه لا يوجد أيُّ دليل يؤكد وجود مثل تلك الجزيئات منذ مليارات السنين.

تُقرُّ فرضية عالم  RNA أن جزيء الـ RNA قد أخذ في نسخ نفسه حتى وصل إلى درجة من التعقيد أدّت إلى خلق ما يُعرف بالشيفرة الجينية منه، لاعبًا بذلك دور المادة الوراثية والمادة الحفازة للتفاعلات، ولكن يعتقد معارضو الفرضية شيئًا آخر، وهو أن الـ RNA وحده غير قادر على تكوين الشيفرات الجينية (genetic codes) التي يبلغ عددها 64 ويتكون كلٌّ منها من ثلاثة أحرف من النيوكليتيدات، وكل شيفرة تُترجم إلى واحد من العشرين نوعًا من الأحماض الأمينية في أثناء عملية ترجمة الحمض النووي إلى بروتين، فتكوين مثل هذه الشيفرات يأخذ وقتًا أطول من عمر الأرض ذاتها إذا كان الـ RNA هو الجزيء الأوحد المسؤول عن نشأتها ويحتاج إلى دقة أعلى من إمكانية الـ RNA وحده.

السؤال الثاني: ماذا حدث لتنتقل الحياة من البساطة إلى التعقيد؟

إن أقدم سلف مشترك للكائنات عرفه العلماء هو لوكا أو (LUCA- last universal common ancestor)، عاش هذا السلف منذ 3.6 مليار سنة وكان وحيد الخلية، وتوصل العلماء إلى أن جيناته -رغم عددها القليل- كانت معقدة، وقد امتلك هذا السلف البروتينات والأحماض النووية بنوعيها DNA وRNA  وامتلك الدهون ومكونات الخلايا الحية كما نعرفها اليوم وامتلك االقدرة على إتمام عمليات مضاعفة ونسخ وترجمة الحمض النووي والقيام ببعض عمليات الأيض التي احتاجت إلى الطاقة لكي تتم. ولكن ما علاقة هذا السلف بالبساطة التي كانت عليها بداية النشأة الحقيقية للحياة؟ ما الخطوات التي ربطت بين تكوُّن الأحماض الأمينية والبروتينات والمادة الوراثية من الـ RNA والبيبتيدات كما ذكرنا مسبقًا وبين ظهور هذا السلف المعقد في تركيبه؟

«إن ترجمة الشيفرة الوراثية هى الخطوة التي تحوِّل الكيمياء الماقبل الحيوية إلى أحياء»

جاءت هذه المقولة على لسان تشارلز كارتر وهو عالم في الكيمياء الحيوية القديمة ومن أكبر المعارضين لفرضية عالم  RNA هو وزميله ريتشارد ولفندن اللذين لم يكتفيا بالاعتراض فقط، بل بدءا في البحث عن الطريق المختصر  للطبيعة، الذي أدى إلى نشأة الشيفرات الجينية التي هي أساس كل الكائنات الحية، وتُخزِّن معلوماتهم الوراثية التي تترجم بعد ذلك إلى بروتينات لتكوِّن الخلايا الحية.

توَّصل معارضو فرضية RNA إلى فرضية جديدة وأسموها (عالم رن أ – بيبتيد) أو (RNA-Peptide world) بالإنجليزية في إشارة إلى أن جزيئات من البيبتيدات بسيطة التكوين كانت هى المساعد للـ RNA  الذي يقوم بالوظيفة الحفزية، في حين أن الـ RNA  يعمل مخزنًا للمعلومات الوراثية فقط.

كان أساس تلك الفرضية الحديثة هو أن ترتيب الذرات في كل الجزيئات الحيوية يتخذ نمطين، هما: اليميني واليساري، ويكون هذان النمطان مرآة لبعضهما بعضًا، ويُعرف ذلك في علم الكيمياء باليدوانية أو الكيرالية (Chirality)، هذا لأن اليد اليمنى واليسرى مرآة لبعضهما بعضًا، ولكن أغلبية الجزيئات تعتمد على نمط الترتيب اليميني، ومن هذا المنطلق فكَّر العلماء في لماذا لا يكون الـ RNA والسلاسل البيبتيدية مكملين لبعضهما بعضًا إذا كانت الذرات التي تكوِّن كلًّا منهما يمينية الترتيب، وكوَّنوا لهذا الفرض نموذجًا معقدًا ليبدو وكأن الـ RNA والسلاسل البيبتيدية قد خُلقا لبعضهم بعضًا وكأنهم يد وقفاز.

يعدُّ هذا النموذج أساسًا لفكرة الترميز أو الـ Coding أو بطريقة أخرى، تبادل المعلومات بين الحمض النووي والبروتين، التي تؤدي في النهاية لتكوين الرمز الجيني أو الشيفرة الجينية في شكلها المعقد الحالي.

هذا النموذج يتضمن تخليق مجموعتين من الإنزيمات معمليًا، تُسمى أرزيمات (Urzymes) التي تشابه الإنزيمات القديمة التي وُجدت عند نشأة الحياة. وجد العلماء أن المجموعتين حفَّزتا التفاعلات الكيميائية المسؤولة عن ترجمة الشيفرة الجينية إلى بروتينات بكفاءة كبيرة، ومن هنا اقترح العلماء الأحداث التي أدت إلى نشأة الحياة من المواد الكيميائية، وتتضمن الأحداث وجود عشرين جزيء من الجزيئات الناقلة، وهى: صانع مركب الحمض الأميني-الحمض النووي الرايبوسولي الناقل أو بالإنجليزية (aminoacyl-tRNA synthetases) التي تعدُّ الأرزيمات هى النواة الوظيفية لها.

وظيفة هذه الإنزيمات الحفزية كما نعرفها اليوم هي أنها تتعرف إلى الشيفرة الجينية على الـ m-RNA من طرف ثم تترجمها إلى الحمض الأميني المقابل من الطرف الآخر، فتسمح بارتباط الـ m-RNA مع الأحماض الأمينية المُترجمة من الشيفرة الجينية في أثناء عملية تصنيع البروتينات، وذلك من خلالها، في رأي صانعي هذا النموذج، تكوَّنت هذه الجزيئات العشرين الناقلة من نوعين فقط من الأحماض الأمينية، ثم تشكلت بطريقة مناسبة لتركيب الـ RNA لترتبط به في مكان معين، كما شبهناهم القفاز باليد، وأن هذه الجزيئات ارتبطت بالـ RNA في هذا المكان وأصبحت جزيئات ناقلة نشطة ترتبط بالحمض الأميني لتأتي به إلى هذا المكان المعين على الـ RNA وتحفز تكوين السلاسل البيبتيدية من الأحماض الأمينية، ومن هنا أصبح لكل حمض أميني مكان مميز مقابل له على الحمض النووي الـ RNA وهي الشيفرة الجينية البدائية التي سبقت الشيفرة الجينية المعقدة التي نعرفها اليوم، وبهذا يتضح كيف نشأت الحياة البسيطة من الـ RNA والبيبتيدات معًا.

TheRNApeptideWorld
TheRNApeptideWorld

السؤال الثالث: ما الذي نتوقعه من معرفتنا كيف نشأت الحياة على الأرض؟

هذا السؤال لك أنت عزيزي القارئ، انطلق بتفكيرك في دهاليز المعرفة واقتل هذا السؤال بحثًا.

هل يمكن تطبيق ما توصلنا إليه عن نشأة الحياة على سطح الأرض على نشأة الحياة على الكواكب الأخرى؟ هل يمكننا خلق حياة هناك بمعرفتنا هذه؟ أم أن الحياة هناك موجودة بالفعل؟ وإذا كانت موجودة، فأين ومتى وفي أيِّ مرحلة هي الآن؟

أسئلةٌ كثيرة تندرج تحت هذا السؤال، فكّر وتأمل، وابحث واستنتج، ولا تنتظر منّا الإجابة.

 

لقراءة جميع مقالات سلسلة #الأصل:

مغامرة الفلسفة الأولى.. بدايات التفلسف حول ظواهر الحياة وأصلها

أصل الحياة في الفلسفة اليونانية.. أمبادوقليس نموذجًا

الأصل.. الحساء الأول

الإنتروبيا وأصل الحياة

فرضيات نشأة الحياة من وجهة نظر علم الأحياء.. البيضة أولًا أم الدجاجة؟

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي