هيجز بوزون.. جسيم الرب! الجزء الثالث

هيجز بوزون.. جسيم الرب! الجزء الثالث

في الرابع من تموز (يوليو) 2012، أكد فريقُ ضخم من العلماء أنهم اكتشفوا دليلًا على «حقل هيجز» حيثُ إن تفاصيل التجارب المستخدمة لاكتشاف المجال رائعة ومغطاة جيدًا هنا وهنا.

لطالما كان الإبلاغ عن هذا الحدث مصدر إزعاج بين بعض مجموعات العلماء أطلق عليه اسم «جسيم الرب» ورُحِب به باعتباره الجسيم الذي يعطي كل المادة كتلتها، واحدة من هذه العبارات هي طعم النقرات الواضح، والأخرى خاطئة بشكل واضح، ويعتبر مجال هيجز مسؤولًا بشكل مباشر عن حوالي 1٪ من كتلة جسمك.[1]

هيجز بوزون

إنه «بوزون هيجز»، الكيان شبه الأسطوريّ الذي وضع فيزياء الجسيمات في دائرة الضوء العالميّة، والرجل الذي أعلن أنه مجرد شخص عاديّ لم يكن سوى المدير العام لـ CERN رولف هوير حيثُ تحدث في القاعة الرئيسيّة للمختبر في 4 يوليو 2012، بعد لحظات من إعلان تعاون CMS و ATLAS في مصادم الهادرون الكبير عن اكتشاف جسيم أوليّ جديد، والذي نعرفه الآن بوزون هيجز، وتردد صدى التصفيق في جنيف من أماكن بعيدة مثل ملبورن بأستراليا، حيثُ تم ربط مندوبي المؤتمر الدوليّ لفيزياء الطاقة العالية عبر الفيديو كونفرنس بقاعة مزدحمة في CERN تصغي إلى إعلان CMS و ATLAS.

ما الذي يميز هذا الجسيم بالضبط؟
«إنه الجسيم الأول والوحيد الأساسيّ الذي لاحظناه.» كما تقول ريبيكا غونزاليس سواريز التي شاركت بصفتها طالبة دكتوراه في البحث في نظام إدارة المحتوى عن بوزون هيجز.[2]

بيتر هيجز
بيتر هيجز

الأناقة والتناسق

على المستوى دون الذريّ، الكون عبارة عن تصميم رقص مُعقد للجسيمات الأوليّة التي تتفاعل مع بعضها البعض من خلال القوى الأساسيّة، والتي يمكن تفسيرها باستخدام مصطلح يلجأ إليه علماء الفيزياء من جميع المعتقدات: الأناقة .

«في الستينيات، كان علماء الفيزياء النظرية يعملون على طريقة أنيقة لوصف القوانين الأساسية للطبيعة من حيث نظرية المجال الكميّ» كما يقول بيير مونني من قسم الفيزياء النظرية في CERN.

وفي نظرية المجال الكمومي كل من جسيمات المادة (الفرميونات مثل الإلكترونات، أو الكواركات داخل البروتونات) وحاملات القوة (البوزونات مثل الفوتون، أو الغلوونات التي تربط الكواركات) هي مظاهر للحقول الكموميّة الأساسيّة الكامنة حيثُ نسمي اليوم هذا الوصف الأنيق النموذج القياسيّ لفيزياء الجسيمات. [2]

النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات ممثلة في معادلة واحدة

 

يعتمد النموذج القياسيّ على فكرة التناظر في الطبيعة، أيّ أن الخصائص الفيزيائيّة التي يصفونها تظل دون تغيير في ظل بعض التحولات، مثل الدوران في الفضاء باستخدام هذه الفكرة. ويمكن للفيزيائيين تقديم مجموعة موحدة من المعادلات لكل من الكهرومغناطيسية (الكهرباء والمغناطيسية والضوء) والقوة النوويّة الضعيفة (النشاط الإشعاعي)، ويُطلق على القوة الموحدة على هذا النحو اسم القوة الكهروضعيفة، ولكن هذه التناظرات ذاتها قدمت مشكلة صارخة : «فسرت التماثلات القوة الكهروضعيفة ولكن من أجل الحفاظ على التماثلات صحيحة ، فإنها تمنع الجسيمات الحاملة للقوة من التكتل.»

ويشرح فابيو سيروتي، الذي شارك في قيادة مجموعات هيجز في ATLAS في مناسبتين منفصلتين، ذلك: «الفوتون الذي يحمل الكهرومغناطيسية ، عرفنا أنه عديم الكتلة ؛ البوزونات W و Z ، حاملة القوة الضعيفة لا يمكن أن تكون.» و على الرغم من أن W و Z لم يتم ملاحظتهما بشكل مباشر في ذلك الوقت، فقد عرف الفيزيائيون أنه إذا لم يكن لديهم كتلة، فإن عمليات مثل تحلل بيتا كانت ستحدث بمعدلات لا نهائية – وهو استحالة فيزيائية – بينما سيكون للعمليات الأخرى احتمالات أكبر من واحد.

وفي عام 1964  زعمت ورقتان – الأولى بقلم روبرت بروت وفرانسوا إنجليرت، والأخرى بقلم بيتر هيجز – أن لديها حلًا عبارة عن آليّة جديدة من شأنها كسر التناظر الكهروضعيف، حيثُ قدمت آليّة (Brout-Englert-Higgs) حقلاً كميًا جديدًا نسميه اليوم مجال هيجز (Higgs)، والذي يكون مظهره الكمي هو بوزون هيجز (Higgs boson) ، فقط الجسيمات التي تتفاعل مع مجال هيجز تكتسب كتلة. و يضيف سيروتي: «هذه الآلية بالضبط هي التي تخلق كل التعقيدات في النموذج القياسيّ.» وتم تصميمه في الأصل لشرح كتل البوزونات W و Z فقط، وسرعان ما اكتشف العلماء أنه يمكنهم تمديد آلية (Brout-Englert-Higgs) لحساب كتلة كلّ الجسيمات الأوليّة الضخمة. «لاستيعاب كتلة بوزونات W و Z، لسنا بحاجة إلى نفس مجال (Higgs) لإعطاء كتلة لأي جسيمات أخرى مثل الإلكترونات أو الكواركات.» هكذا تشير كيرستين تاكمان أحد الداعمين المشاركين لمجموعة (Higgs) على (ATLAS) «لكنها طريقة مناسبة للقيام بذلك!.»

تم حلّ اللغز الرياضي منذ عقود، ولكن ما إذا كانت الرياضيات التي وصفت الواقع المادي لا تزال قيد الاختبار. [2]

شيء في لا شيء

مجال هيجز غريب من ناحيتين محددتين.

تخيل مساحة خالية من الفراغ، فراغ كامل، بدون أيّ مادة موجودة فيه، تخبرنا نظرية المجال الكميّ أن هذه المنطقة الافتراضية ليست فارغة حقًا: أزواج الجسيمات والجسيمات المضادة المرتبطة بمجالات كميّة مختلفة تنبثق إلى الوجود لفترة وجيزة قبل الفناء، وتحولها إلى طاقة. ومع ذلك، فإن «القيمة المتوقعة» لهذه الحقول في الفراغ هي صفر، مما يعني أنه في المتوسط ​​يمكننا توقع عدم وجود جسيمات في الفراغ التام. من ناحيةٍ أخرى يمتلك حقل هيجز قيمة توقع فراغ عالية حقًا، ويوضح تاكمان أن «قيمة توقع الفراغ غير الصفرية تعني أن مجال هيجز موجود في كل مكان.» إن وجوده في كل مكان يسمح لمجال هيجز بالتأثير على جميع الجسيمات الأوليّة الضخمة المعروفة في الكون بأسره. [2]

وعندما نشأ الكون للتوّ وكان شديد الحرارة، كانت كثافة طاقته أعلى من الطاقة المرتبطة بقيمة توقع الفراغ في مجال هيجز، و نتيجة لذلك، يمكن أن تصمد تناظرات النموذج القياسيّ، مما يسمح لجسيمات مثل W و Z بأن تكون عديمة الكتلة، فعندما بدأ الكون يبرد، انخفضت كثافة الطاقة، حتى – أجزاء من الثانية بعد الانفجار العظيم – انخفضت إلى أقل من حقل هيجز. أدى ذلك إلى كسر التناظرات واكتساب بعض الجسيمات كتلة. [2]

الخاصيّة الأخرى لمجال هيجز هي التي تجعل من المستحيل ملاحظتها مباشرة تأتي الحقول الكموميّة سواء الملحوظة أو المفترضة، بأشكال مختلفة، الحقول المتجهية مثل الريح: لها المقدار والاتجاه، وبالتالي تمتلك البوزونات المتجهة زخمًا زاويًا جوهريًا يسميه الفيزيائيون الدوران الكمي. الحقول العددية لها مقدار فقط وليس لها اتجاه، مثل درجة الحرارة، والبوزونات العددية ليس لها لف كميّ. وقبل عام 2012، كنا قد لاحظنا فقط الحقول المتجهة على المستوى الكميّ، مثل المجال الكهرومغناطيسي. [2]

يوضح مونّي قائلاً: «يمكنك مراقبة مجال من خلال مراقبة تفاعل الجسيم معه، مثل انحناء الإلكترونات في مجال مغناطيسيّ.» «أو يمكنك مراقبتها عن طريق إنتاج الجسيم الكمومي المرتبط بالمجال، مثل الفوتون.» لكن مجال هيجز، بقيمته الثابتة غير الصفرية، لا يمكن تشغيله أو إيقاف تشغيله مثل المجال الكهرومغناطيسيّ. كان لدى العلماء خيار واحد فقط لإثبات وجوده: إنشاء – ومراقبة – بوزون هيجز. [2]

مطاردة الصدمات في مصادم هادرون الكبير

مصادم الهادرونات الكبير
مصادم الهادرونات الكبير

تصادم الجسيمات عند طاقات عالية بما فيه الكفاية ضروريّة لإنتاج بوزون هيجز، ولكن لفترة طويلة كان الفيزيائيون يبحثون في الظلام! لم يعرفوا ما هو نطاق الطاقة هذا، لقد بحثوا عن علامات بوزون هيجز في حطام تصادم الجسيمات في مصادم الإلكترون والبوزترون الكبير (LEP)، الذي كان السلف المباشر لمصادم الهادرون الكبير. وفي تيفاترون (Fermilab’s) في الولايات المتحدة. كان لمصادم الهادرون الكبير القدرة على استكشاف نطاق الطاقة المتوقع بأكمله حيثُ يمكن أن يظهر بوزون هيجز، وكان الهدف من كاشفيّ الجسيمات للأغراض العامة في (LHC – ATLAS و CMS) تقديم إجابة نهائية عن وجوده.

وبالنسبة للبعض، مثل موني، كانت دعوة LHC لا تقاوم، مما دفعه إلى تبديل مهنته من هندسة الطيران إلى الفيزياء النظريّة، وكان زملاؤه وأصدقاؤه في (Gonzalez Suarez) في غرف التحكم (CMS و ATLAS) عندما شرع (LHC) في رحلته عاليّة الطاقة في 30 مارس 2010. كانت هي نفسها في مكتبها في الموقع الرئيسي لـ CERN في جنيف. «كنت أكتب أطروحة الدكتوراه الخاصة بي على شاشة واحدة وألقي نظرة على البث المباشر للتصادمات في ثانية، وأردت أن أعرف ما إذا كان الكود الذي كتبته لتحديد الجسيمات الناتجة في التصادمات قد نجح!» وعندما يصطدم بروتونان داخل مصادم الهادرونات الكبير، فإن الكواركات المكونة لهما والغلونات هي التي تتفاعل مع بعضها البعض.

ويمكن لهذه التفاعلات عالية الطاقة، من خلال التأثيرات الكموميّة المتوقعة جيدًا، إنتاج بوزون هيجز، والذي من شأنه أن يحول -أو «يتحلل»- على الفور إلى جسيمات أخف يمكن أن يلاحظها ATLAS وCMS. لذلك احتاج العلماء إلى بناء أدلة كافية تشير إلى أن الجسيمات التي يمكن أن تظهر من إنتاج وتحول هيجز كانت بالفعل نتيجة لمثل هذه العملية. ولاحظ (ATLAS (و CMS)) بوزون هيجز في التحولات إلى فوتونين من خلال جمع وتحليل الكثير من البيانات بمرور الوقت. [3]

يروي فيفيك شارما، الذي شارك في قيادة البحث في نظام إدارة المحتوى عندما بدأ المصادم LHC عملياته: «عندما بدأ برنامج (LHC)، كان الاعتقاد السائد أننا سنرى بوزون هيجز فقط بعد عدة سنوات من جمع البيانات.» قدم شارما وزملاؤه خطة إلى (CMS) في سبتمبر 2010 حول كيفية معالجة المشكلة بنصف تلك البيانات. ولم يتطلب الأمر فهمًا شاملًا لأجهزة الكاشف الخاصة بالفرد، ومدى وصولها وحدودها، بل تطلب أيضًا فريقًا لديه مجموعة متنوعة من الخبرات الفنية. «بحلول الوقت الذي ألقى فيه (ATLAS و CMS) حديثًا مشتركًا مع لجنة السياسة العلمية في (CERN) في مارس 2011.» ويتابع شارما: «كان هناك بناء للقوة بحيث يمكن اصطياد بوزون هيجز بمجموعات بيانات أصغر.» وأدت ندوة العام التي نظمتها (ATLAS و CMS) في ديسمبر 2011 إلى زيادة التحميل على خوادم البث الشبكي لـ (CERN)، حيث تابع الآلاف الاستماع إلى آخر التحديثات من عمليات التعاون.

وكانت الدلائل المبكرة لبوزون هيجز موجودة: فقد شهد كلا الكاشفين نتوءات في بياناتهما بدأت تبدو متميزة عن أيّ تقلبات إحصائيّة أو ضوضاء، لكن النتائج افتقرت إلى اليقين الإحصائي الضروري لادعاء الاكتشاف. وكان على العالم أن ينتظر ما يقرب من سبعة أشهر قبل أن يتمكن جو إنكانديلا من (CMS) وفابيولا جيانوتي من (ATLAS) من القيام بذلك في يوليو 2012. كان أداء التعاون أفضل مما كان متوقعًا لاكتشاف بوزون هيجز مع عامين فقط من البيانات من (LHC) في قاعة (CERN) مسح بيتر هيجز دموع الفرح، وأشاد فرانسوا إنجليرت بزميله الراحل ومعاونه روبرت بروت، الذي لم يعشْ ليرى دليلًا على الآليّة التي تحمل اسمه، واحتفلت غونزاليس سواريز بمشاعر مختلطة، أخذها بحثها بعد الدكتوراه بعيدًا عن أبحاث هيجز قبل الاكتشاف، وفي النهاية من (CMS) إلى تعاون (ATLAS)  «في النهاية نستطيع أن نقول كان اكتشاف بوزون هيجز حدثًا تاريخيًا، لكننا ما زلنا في البداية فقط في فهمنا لهذا الجسيم الجديد.»[4]

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي