يتحدث بيير دوكاسّيه في كتابه «الفلسفات الكبرى»، عن وحدة القرون الوسطى، فعنده أنّ؛ «الإسلام والمسيحية لا ينفصل أحدهما عن الآخر في بوتقة العالم الوسيط». والحال أنّ هذا التداخل بينهما هو ما ترتّب على «الفتح الإسلامي لبلاد فارس وسورية، التي كانت، بالإضافة إلى كونها أرضًا للهلّينية، أرضًا للانتشار المسيحي». وكما عند الغربيين كذلك عند الشرقيين، «كانت الحاجة إلى الفهم والتعقل قد اخترقت الموروث الديني وتوافقت معه رغم كل الصراعات، بغية إعادة تأسيس العقيدة تأسيسًا عقلانيًا».(1) وعلى هذا النحو يبدو أننا موعودون مع قصة جميلة -بل هي الأجمل- عن علاقة الفلسفة بالدين في الجناح اللاتيني المسيحي، وعلاقة العقل بالنقل في الجناح العربي الإسلامي.
ولكن يثور سؤال هنا: هل وحدة المسار تعني في النهاية وحدة المصير؟ وبعبارة أخرى: هل عرفت إشكالية التوفيق نهاية واحدة متشابهة في كلا العالمين الشرقي والغربي، أم أنّ العقل قد آل هنا إلى غير -بل إلى نقيض- ما آل إليه هناك؟
إنّ دوكاسّيه إذ لا يطرح هذا السؤال، لا يجيب عنه. وباستثناء إعلانه في الفقرة المخصصة لتوما الأكويني عن أنّ العقل قد وصل مع هذا الفيلسوف اللاهوتي إلى الاكتفاء بذاته، فإنّ إشارة واحدة إلى مصير العقل في الإسلام لا ترد. ولن يكون من شغل لدينا الآن سوى محاولة الكشف عما تمخّض عن الوفاق بين العقل والنقل عند المسلمين.
لا يكاد يماري أحد -كلّ من موقعه- على اعتبار الفكر المعتزلي لحظة حاسمة في تاريخ الإبستمولوجيا الدينية. فلأول مرة، مع المعتزلة، يوضع النقل بما هو كذلك في محاكمة أمام العقل.
ولندع الكلام لواحد من أهم معتزلة القرن الثالث، يقول الإمام القاسم الرسّي (ت ٢٤٦ ه): «جاءت حجة العقل بمعرفة المعبود، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد، وجاءت حجة الرسول بمعرفة العبادة. والعقل أصل الحجتين الأخيرتين لأنهما عُرفا به، ولم يُعرف بهما».(2)
هكذا فإنّ النقل هو ما يتأخر والعقل هو ما يتقدم، وحجة الأول لا تقوم لها قائمة إلا بحجة الثاني. وبكلمة واحدة: حجة النقل هي الفرع، وحجة العقل هي الأصل.
بعد قرنين من الرسّي، تبوّأ الغزالي (ت ٥٠٥ ه) مشروعًا كلاميًا أسماه بنفسه، «الاقتصاد في الاعتقاد»، نادى فيه بالكف عن الإفراط في تصرف العقل محذّرًا من مصادمة «قواطع الشرع». وقد دعا في هذا السياق الفلاسفة وغلاة المعتزلة إلى ملازمة الاقتصاد والاعتماد على؛ العقل مع الشرع، بدل الاعتماد على محض العقل.
وعلى الرغم من ذلك، وبالمقارنة مع من سمّاهم الغزالي دعاة «الجمود مع التقليد»، فإنّ العقل لم يُلغَ لصالح النقل، بل جلّ ما هو مطلوب هو التوازن بين الأثر والخبر من جهة، ومناهج البحث والنظر من جهة أخرى. والغزالي على كل حال، لم يهاجم كل جمهور المعتزلة، بل الغلاة منهم حصرًا. وهو يعلن ويكرر بأن، «لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول».(3)
والحال أنّ مقلّدي الأثر والخبر الذين يقصدهم الغزالي ليسوا سوى أهل الحديث. وبالفعل، إنّ الخلاف بين أهل الكلام -الذين ينضوي الغزالي تحت لوائهم في نهاية المطاف- وأهل الحديث هو خلاف على ضرورة اشتغال العقل. فالمتكلمون -على مختلف شيعهم- يقرأون النص على ضوء العقل، بينما يقرأ المحدثون النص على ضوء الحديث. ويقول أحد أبرز المنتصرين لأهل الحديث وهو ابن السمعاني (ت ٤٨٩ ه): «اعلم أنّ فصْل ما بيننا وبيننا هو مسألة العقل، فإنهم أسسوا دينهم على المعقول وجعلوا الاتباع والمأثور تبعًا للمعقول. وأما أهل السنة قالوا: الأصل في الدين الاتباع والعقول تبع».(4)
أما في القرن الثامن، وبعد قرنين من تقرير ابن رشد لما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ساريًا في الاتجاه نفسه الذي سار به علم الكلام منذ المعتزلة، جاءت الضربة القاضية.
فمن وجهة نظر إشكالية التوفيق دومًا، نفّذ كبير معماريي الفكر الأصولي في الأندلس، الإمام الشاطبي، انقلابًا حاسمًا ونهائيًا. قال: «العقل ليس بشارع»، وقال: «العقل غير مستقل البتة»، وقال: «إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا، ويتأخر العقل فيكون تابعًا»، وقال: «لا بد للعقل من تنبيه من خارج، وهي فائدة بعث الرسل».(5)
عند هذه الشواهد نتوقف. فمع الشاطبي أصيب النقل بعمى اللاعقلانية، وفقدَ إمكانية الرؤية حتى من الكوة التي تركها له أهل الحديث مفتوحة الرأي.
وما اعتقدناها عند بدء المقالة أجمل قصة، ما لبثت أن تكشفت عن أنها أقبح قصة قُدّر لعقل أن يعيشها. ومنذ تلك الخاتمة المأساوية للعقلانية، انتهى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، وذُبح الفكر الديني من وريد العقل إلى وريد النقل، وخسرنا جميعاً إمكان نهضة دينية وكم بالأحرى نهضة عقلية.
المصادر:
(١) – Pierre Ducassé, Les grandes philosophies, presses universitaires de France, 1941, p 46 – 47.
وجدير بالذكر أنّ ترجمة جورج يونس لنص دوكاسّيه لا تخلو من اضطراب. فقد ترجم terres d’hellénisme ب”البلاد التي سبق واعتنقت المذاهب المتيوننة” (؟) وهي عبارة لا يمكن فهمها، لا ضمن سياق النص ولا خارج سياقه.
كما ترجم عبارة l’expansion chrétienne ب”التوسع المسيحي” فيما آثرنا ترجمتها بالانتشار المسيحي.
أنظر: بيير دوكاسه، الفلسفات الكبرى، ترجمة جورج يونس، وإشراف كمال يوسف الحاج، منشورات عويدات، الطبعة الثالثة، ١٩٨٤، ص٧٧.
(٢)- أنظر: رسائل العدل والتوحيد، تحقيق محمد عمارة، دار الشروق، الطبعة الثانية، ١٩٨٨، ج١، ص ١٢٤-١٢٥.(٣)- أبو حامد الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، دار ومكتبة الهلال، الطبعة الأولى، ١٩٩٣، ص ٢٧- ٢٨- ٢٩.
(٤)- ابن السمعاني، الانتصار لأهل الحديث، نقلاً عن: الإمام السيوطي، صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام، .دار النصر، ١٩٧٠، ج٢، ص ٢٣٥
(٥)- الإمام أبو إسحق الشاطبي، الاعتصام، مكتبة الرياض الحديثة، ج١، ص ٤٧، وج٢، ص٣٢١.
وأنظر كذلك كتاب الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام، دار إحياء الكتب العربية، ج١، ص ١٤ و ٥٣.
كتابة وإعداد: مايكل عطا الله
مراجعة: عصام أسامة
مراجعة لغويّة: حمزة مطالقة
تحرير: هاجرعبدالعزيز