بين جدرانِ السجنِ الباردة، وظلمتِه الحالكة يَخطُ الأدباء كلماتٍ تبقى شاهدةً على تجاربهم في الأسر، وفي بعض الأحيان تَروي قصّةَ آخرين غَيّرتهم أقبيةُ السجونِ، وقيودُ الاحتجاز. وكما ينقلُنا الأدبُ لحياةِ الآخرين، ويطرحُ تساؤلاتٍ، ويحكي تاريخَ الأماكن، فإنه يَروي أيضًا قصصًا من وراءِ القضبان عن آلامِ الوحدة، وتجاربِ فقدان الحرّية المريرة. وفي أدبِ السجون، قد يكون الأديب مسجونًا؛ فيأخُذُنا في رحلته الخاصة، أو راويًا ينقلُ خبراتَ الآخر، ومشاعره على الورق؛ كيّ يُحيلنا لتجربةٍ جديدة، نَفهمُ منها معنى الحرّية، ونستكشف معانٍ جديدة عن الحياة.
تعريف أدب السجون
أدب السجون أحدُ ألوانِ الأدب، حيث يُعرفُ بإن أعماله كُتِبت أثناء سجن الكاتب، ومن الممكن أن يكون هذا النوع من الأدب عن السجن، وتجربته أو يتصادف أن يُكتب أثناء وجود كاتبِه في السجن.
يُعد أدب السجون من الموضوعاتِ المعروفة، والتي تحظى بالإعجاب؛ كونها تحكي عن كيفيةِ تغييرِ تجربةِ السجن للشخصِ المسجون ونظرتِه للحياة. ويعتقدُ النقاد أن الضجرَ الذي يسيطرُ على المسجون في مَحْبَسِه، يجعلُه يلوذ إلى الكتابةِ أو يستخدم الأدب هروبًا من جدرانِ السجن التي تُحيطه. وكان لظهورِ أدب السجون، وانتشاره تأثيرٌ كبيرٌ على الحركةِ الأدبيةِ الغربية، بدايةً من بزوغِ الأسئلةِ الفلسفيّة المُنَاهَضَة للمَسيحيّة إلى جانبِ الكتبِ التي تتحدثُ عن الفساد.
ويُرجح عودةُ تاريخِ أدب السجون إلى الفيلسوفِ الأفلاطونيّ الرومانيّ الكلاسيكيّ، «بوثيوس» والذي كتب «عزاء الفلسفة» في عام 523 ميلاديًا أثناء إقامته في السجنِ بتهمةِ الخيانة. وكان «عزاء الفلسفة» بمثابةِ محادثةٍ بين برثيوس مع سيدةِ الفلسفة أثناء حبسه. وفيه عبّر عن أفكارِه الفسلفيّة مثل إنكارِ الجسد، وكَون الفكرِ العقليّ أعلى ما يُقدم للأرضِ الصالحة إلى جانبِ فكرةِ افتقار الشرِ للجوهر، والعناية الإلهيّة التي تعدُ سَببًا في خلقِ الإله للكون، وتفجرت كلّ هذه الأفكار من وحيّ سجنِ برثيوس و أثناء تعرضِه للتعذيب.
في الأدب الإنجليزيّ والأوروبيّ والأمريكيّ، يُوصف هذا النوعُ من الأدبِ باعتبارِه أيقونة للتنفيسِ عن القهرِ والتعبيرِ عن الحرية، وهو ما يُعرّفه الأديب والروائيّ المغربيّ بكونه: «الكتابةُ التي تلامسُ تجربةَ الاعتقال السياسيّ، وتتخذُ من الكتابةِ وسيلةً لتصفيةِ الحساب مع تجربةٍ إنسانيّة ووجوديّة ونفسيّة مَريرة، قد يكون المرءُ عاشها فعلًا أو سمع عن تفاصيلِها من أحدِ السجناء أو فقط عبارةٌ عن تجربةٍ مُتخيّلة لها ما يُدعمُها في الواقع.»
أدباء وراء القضبان
«كم من فتوةٍ، وقوةٍ مُعَطْلة دُفِنت وضاعت بين هذهِ الأسوار بلا فائدةٍ لأي أحد! لابد من القولِ :أن جميعَ هؤلاءِ الرجال ربما كانوا خيرَ أبناءِ شَعبِنا موهبةً وقوة، لكن هذه القوةِ الجبارةِ ضاعت إلى الأبد. مَنْ المُذنِبُ في ذلك؟»
ذكريات بيت الموتى، فيودور دوستويفسكي
وتعرض كثيرٌ من الأدباءِ لتجاربِ الأسر خلال فتراتٍ مُختلفة من حياتهم، البعضُ كان في بدايةِ حياته الأدبيّة، وآخرين في أوْجِ التجربة الأدبيّة. ومن تجاربهم القاسية، أخرجوا أدبًا مميزًا، وكتبوا عن أفكارِهم ومشاعرِهم خلال فترةِ اعتقالهم، ومن بين الأدباءِ الذين تعرضوا للسجن:
فيودور دوستويفسكي: في بداية حياة دوستويفسكي الأدبيّة وقبل بزوغ اسم الأديبِ الكبير في سماءِ الأدب الروسيّ والعالميّ، تعرض الأديبُ الروسيّ للاعتقالِ، وكان محكومًا عليه بالإعدام قبل أن يُخفف عقابُه إلى مدة أربعة أعوام من السجن في معتقلٍ بسيبيريا بتهمةِ توزيعِ منشورات ومقالات ضد الحكومة.
ميغيل دي ثيربانتس: كان دي ثيربانتس يعملُ كجامعٍ للضرائب، ومرّ بتجربةِ السجن مرتين في حياته؛ بسبب المُخالفات الماليّة. وبدأ الكاتب الأسبانيّ في كتابةِ رائعته «دون كيشوت» أثناء بقائِه للمرة الثانية داخل السجن، ونُشِر الجزء الأول منها في عام 1605.
دانييل ديفو: يُعرف ديفو برائعته الكلاسيكيّة «روبنسون كروزو» والتي نُشِرت في 1719. وسُجِن دانييل ديفو في سجنِ نيوجيت بلندن؛ بسبب تمريرِه لمنشوراتٍ حول موقفِه الحزبيّ في القضايا العامة.
صنع الله إبراهيم: تعرض الأديب المصريّ المُعاصر صنع الله إبراهيم لتجربةِ السجن مع انتمائه للحركة الديمقراطية للتحرر الوطنيّ، إذْ أمضى خمس سنوات في معتقلِ الواحات. وخلال فترةِ السجن، كتب بعضَ فصولٍ من روايات لم يُكتب لها النشر فيما بعد. وتركت تجربةُ الاعتقالِ والتعسف الذي لاقاه أثرًا وذكرياتٍ باح بشذراتٍ منها في رواية «شرف» التي تنتمي لأدبِ السجون.
روايات عالمية من أدب السجون
«البؤساءُ من اللصوصِ والمنبوذين الذين سُجِنوا هنا معي أسعدُ مني حظًا من نواحي عديدة. وذلك لأن الطريقَ الضيقَ الذي شاهدِ خطيئتَهم في المدينةِ القاتمة أو الحقلِ الأخضر ليس طويلًا. فهُم لا يحتاجون إلى الذهابِ أبعد مما يقطعه طائرٌ من وقتِ الشفق حتى طلوعِ الفجر؛ ليكونوا بين مَن لا يعرفون شيئًا عما فعلوه. أما بالنسبة إليَّ، فإن العالمَ قد انكمش إلى عرضِ الكف.»
من الأعماق، أوسكار وايلد.
في المكتبة العالمية، توجدُ الكثيرُ من الرواياتِ التي خاضت في موضوعِ السجنِ، وتقييدِ حرية الإنسان، والتجاربُ التي يكتسبها الإنسانُ في ظُلماتِ الحبس، هذا إلى جانبِ نظرتِه التي تختلفُ عن نفسِه وما حوله؛ نتيجةً لتلك التجربة. ونختارُ من بين تلك الروايات أربعةً من أشهرِ رواياتِ أدب السجون عالميًا:
ذكرياتٌ من منزلِ الأموات: استقى الأديبُ الروسيّ الكبير دوستويفسكي روايتَه «ذكرياتٌ من منزلِ الأموات» من تجربتِه الذاتيّة حيثُ قضى أربعةَ أعوامٍ مع الأشغالِ الشاقة في سجونِ سيبيريا الباردة، وكان حينئذ في فترةِ شبابه. وبُنيت الروايةُ على ملاحظاتٍ، والتي استطاع تهريبَها أثناء بقائه في السجن، حيث يشيرُ النقادُ لكوْنِ الرواية شيّدت الأُسس الرئيسيّة لأدبِ السجون الروسيّ في ذلك الوقت. وفي الرواية، يُصوِّر الأديبُ الروسيّ العقوباتَ الوحشيّة، والآثار النفسيّة للحبسِ. كما تظهرُ إلى جانبِ قسوة السجن لحظاتٌ مُضحكةٌ وأعمالٌ لطيفةٌ شهدها ديستوفيسكي بين زملائه في الحبسِ بسردِه المعروف بعمقِه وغوصِه في أعماقِ النفس البشريّة. ولجأ دوستويفسكي لحيلةٍ في وقتِ نشر ِالرواية؛ كي لا تتعرض للمنعِ، إذ حوّل السجينَ إلى سجينٍ جنائيّ بدلًأ من سياسيّ.
الغرفةُ الضخمة: سجّل الشاعرُ الأمريكيّ إدوارد إستالن كامينجز تجربةَ حَبسِه، التي استمرت أربعة أشهرٍ، في روايتِه «الغرفةُ الضخمة» والتي جمعت بين السردِ الروائيّ والسيرة الذاتيّة. وتميزت الروايةُ بامتلائها بالشخوصِ، والنثرِ المُمتع، وتقدمُ لنا نظرةً على بداياتِ الشاعر المبكرّة.
من الأعماق: خلال فترةِ سجن الكاتب الإيرالنديّ أوسكار وايلد، تحولت كتابتُه لتكونَ أكثر ذاتيّة وحزنًا، وكتب روايتَه التي كانت مكونةً من خطاباتِ إلى اللورد دوجلاس الذي أُلقيَ في السجنِ بسببه. في الرواية، يُظهِر الكاتب الإيرالنديّ عن طريقَ خطاباته، أسفَه للخطأ الأخلاقيّ الذي ارتكبه. كما يؤرخ في كتابتِه لرحلةِ الفداء والوفاء الروحيّ التي اختبرها وايلد أثناء حبسه.
يومٌ في حياةِ إيفان دينيسوفيتش: تَبِع الكاتب الروسيّ ألكسندر سولجنيتسين خُطى مواطنِه الأديب الكبير دوستويفسكي في روايتِه «يومٌ في حياةِ إيفان دينيسوفيتش» إذْ كتب عن السجنِ في بلاده -والتي كانت الاتحاد السوفيتيّ آنذاك- من خلالِ شخصيةٍ تتعرضُ للاعتقالِ زورًا لمدة عشرِ سنواتٍ بتهمةِ التجسس. وتسلطُ الروايةُ الضوءَ على أحوالِ السُجناءِ السيئة، والأساليبِ البَشعة المُستخدمة في الحبسِ في حكم النظام السوفيتيّ.
أدب السجون في الرواية العربية
«إن لأُرثي لكلِ هؤلاء البشر الذين يعيشون خارج قضبانِ السجن، ولم تتسنَّ لهم الفرصةُ ليعرفوا القيمةَ الحقيقيّة للحياة.»
السجينة- مليكة أوفقير.
قد لا نستطيعُ أن نضع يدينا بالتحديدِ على البدايةِ الأولى لأدبِ السجون في الأدب العربيّ، خاصةّ وأن عددًا من الشعراءِ العرب في العصور الماضية كتبوا أشعارًا وهم في غياهبِ السجن. فعلى سبيل المثال، نَظَم أبو فراس الحمدانيّ الشاعر الشهير كثيرًا من قصائدِه في السجنِ بين جدرانِه الصمّاء، وهي التي عُرِفت بالروميات نِسبةً إلى سجنِ الروميات الذي أُلقي به. ومما كتبه وهو في الأسرِ حين سمعَ حمامةً تنوحُ على شجرةٍ عالية بقربِه:
أَتَحمِلُ مَحزونَ الفُؤادِ قَوادِمٌ عَلى غُصُنٍ نائي المَسافَةِ عالِ؟
أَيا جارَتا ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا تَعالَي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالَي!
وفي المكتبة ِالعربية، توجدُ عددٌ من الرواياتِ التي تتمحورُ عن السجنِ وتجربته القاسية، سواءً كان كاتبُها مرّ بها أو تأثرَ مما سمعه، ورأه في غيره. ومن هذه الروايات:
القوقعة: تدورُ أحداثُ الروايةُ في فترةِ الثمانينيات، إذْ يروي الأديب السوريّ مصطفى خليفة قصةَ اعتقالِ بطله على يدِ السلطات في بلاده بعدما يُقرر العودةَ لها مؤمنًا أنها تحتاجه أكثر من أي وقت مضى. ومن ثم يختفي في ظلمةِ السجون ثلاثةَ عشر عامًا. ويوثقُ الكاتب في روايتِه الرعبَ والظلمَ الذي لاقه في محبسِه.
تزممارت الزنزانة رقم 10: في المغرب وعقب ما عُرف بفضيحةِ «تزممارت»، يُسجنُ أحمدُ المرزوقي لما يُجاورُ العقدين، يُعاني فيهم من الوحشةِ والآلم اللذين يسجلهما في كتابِه بأسلوبٍ متفرد. وترمزُ تزممارت إلى اسمِ السجن الذي ظلّ الكاتبُ قيدَ الاعتقالِ بداخله. ونُشِرت الرواية باللغة الفرنسيّة أولًا، ثم ترجمها المؤلفُ نفسُه إلى العربيّة.
تلك العتمةُ الباهرة: يروي الطاهرُ بن جالون في روايته المُفزِعة أحداثَ الأسر لعددٍ من المسجونين في سجنِ تزممارت عَقْب محاولةِ انقلابٍ على الملكِ حسن الثاني. واستوحى الكاتبُ الفرنسيّ المغربيّ روايته من شهادةِ لأحدِ السُجناء السابقين، وكان بطلُها عزيزَ بنبين المنتميّ للجيش المغربيّ، وهو الذي أقام الكاتبُ على شهادتِه أحداثَ الرواية. وتتسمُ الروايةُ بقتامتِها وسوداويتها الشديدة، إذ تجسدُ ما يعانيُ منه المعتقلون، والأفكار السيئة التي تبارحُهم من فترةٍ لأخرى. وحصدت الروايةُ بنسختِها الفرنسيّة جائزة إمباك الأدبيّة.
السجينة: في الرواية، تحكي المغربيّة مليكة أوفقير عن تجربتِها مع السجنِ الذي تعرضت له عائلةُ أوفقير؛ نتيجة محاولةِ الجنرال محمد أوفقير اغتيالِ الملك الحسن الثاني. وقاست العائلةُ بعد محاولةِ الانقلاب الفاشلة أنواعًا مُتعددة من العذابِ، والتعسفِ، والاحتجاز. وكانت مليكة سجينةً في القصر الملكيّ، وكأنها حُددت إقامتها في القصر دون خروجِ للعالم من حولها، وهو ما جعل تجربتَها مميزةً وغريبةً في آنٍ واحد. وكُتبِت الرواية بالفرنسيّة بقلمِ الروائيّة الفرنسيّة ميشيل فيتوسي.
أحلامٌ بالحرية: سردت الكاتبة الفلسطينيّة عائشة عودة تجربتِها عن الاعتقالِ في سجون الاحتلال الإسرائيليّ محاولةً الإبقاء على تجربةٍ الشعب الفلسطينيّ مع تعسفِ الاحتلال. وقضت الكاتبة عشرَ سنواتٍ وراء القضبانِ، وفي الرواية قصّت ذكرياتها عن الاعتقال كي تنقل الظلم الذي يتعرضُ له السجناء الفلسطينيون في سجونِ الاحتلال من خلالِ الرواية، إذ سردت تفاصيلاً عن التحقيقاتِ معها، وعن أيامها في الأسر.