يُفضِّل الفلاسفةُ في العادة عرضَ أعمالهم كما لو أن كلَّ مَن سبقهم كان مخطئًا، وفي بعض الأحيان، ينتهون بالحاجة إلى المزيدِ من التفلسف، وأن تجربتهم لم تكن كافيةً.
إذن، ماذا يحدث عندما يُدرك أحدهم أنه كان مخطئًا؟
أحيانًا، يخطئ الفلاسفة، ويمكن القول أن اعتراف المُفكِّر بأنه جانَبه الصواب في فترةٍ ما من حياته هو خطوةٌ مهمة في طريقه لكونه فيلسوفًا حقيقيًّا. فبينما يقوم معظم الفلاسفة بإجراء تعديلاتٍ طفيفةٍ في أطروحاتهم من أجل تصحيح عوار يشملها، يقوم بعضٌ آخر بإجراء تغييراتٍ جذريةٍ في نَسَقِ تفكيرهم.
وسوف نتناول في مقالنا ذلك أربعة فلاسفة تراجعوا عن أطروحاتهم في أعمالهم المبكرة بشكلٍ جذري.
روبيرت نوزيك
روبيرت نوزيك (Robert Nozick) هو فيلسوفٌ أمريكي. كَتَبَ في كلِّ الموضوعات التي طالتها يداه، ويُعتبر نوزيك من الفلاسفة ذائعي الصيت، بسبب مغامرته الفريدة في الفلسفة السياسية في كتابه الأناركية والدولة واليوتوبيا (ِAnarchy, State and Utopia)، في هذا الكتاب يُناقش نوزيك الحدَّ الأدنى من مفهوم الدولة بمعناه الماركسي الذي من خلاله لا يُمكن انتهاك الحريات الشخصية للأفراد.
في جزءٍ من كتابه، يذهب نوزيك إلى أن ضريبة الدخل التي تفرضها الدولة على الأفراد تتلامس مع فكرة العبودية، ويعود لشرح ذلك بأنك كعاملٍ يتقاضى الأجرَ ويذهب جزءٌ منه للدولة رغمًا عنك ولا يمكنك أن تفعل أي شيء حيال ذلك، هذا يُمكن أن ندعوه عبودية. فلقد كانت الدولة في شكلها المثالي عند نوزيك خاليةً من فكرة الضرائب.
في كتابه اللاحق الحياة المفحوصة (Examined life)، ناقش نوزيك موضوعاتٍ عِدَّة، كالجنس والموت والسياسة. فلقد عارض نوزيك كتابه السابق وأوضح ذلك قائلًا:
الموقف الليبرالي الذي اقترحته مسبقًا يبدو لي الآن غير مكتمل، وذلك، جزئيًا، بسبب أنه لم يراعي تماسك الاعتبارات البشرية والأنشطة التعاونية المشتركة بين أفراد المجتمع، وذلك أفسح مجالًا لمزيد من تقدم وتطوّر الأفكار.
تعديلاته على مواقفه المبكرة كانت غيرَ مُباشرةٍ وغيرَ مُعلَنةٍ بشكلٍ صريحٍ ولكن ملحوظة، فهو لم يَقُم بتغيير موقفه بشكلٍ جذري، لكنه اعترف أن هناك عوار بنسقه الفكري. لقد أيَّد فكرة أن الدولة تستطيع أن تمنع التمييز ضد مجموعات معينة من الأفراد، ويُقرُّ أنه من أجل تحقيق الحريات الشخصية للأفراد سيتطلَّب هذا وضعَ بعضِ الأعباء في إطار المجموعات، وأن العائدات التي يتم تحصيلها من الضرائب أو التبرعات وتذهب في الأعمال الخيريَّة تضمن استمرار المجتمع في أداء وظائفه.
في المقابلات الصحفية التي أُجرِيَت معه لاحقًا يُعلن نوزيك لقُرَّائه أنه لم يتراجع عن موقفه الليبرالي، لكنه حاول الحدَّ من وجهات نظره المتطرِّفة بشأن أفكاره المُبكِّرة، وهذا ما أدركه مع مرور الزمن.
لودفيج فيتجنشتاين
ربما يعود التغيير الجذري الأكبر في قائمتنا إلى لودفيج فيتجنشتاين (Ludwig Wittgenstein). هو فيلسوفٌ نمساوي من القرن العشرين، نشر كتابًا وحيدًا في حياته، هو التراكتاتوس (Tractatus) أو رسالة منطقية فلسفية.
في التراكتاتوس، يناقش فيتجنشتاين أنه عندما نتواصل مع شخصٍ آخر، نستخدم الكلمات لوضع صورٍ في عقله. على سبيل المثال: عندما أكتب (في كوب الليموناضة توجد قطعتان من مكعبات الثلج)، فإنه بإمكانك تخيُّل المعنى بمنتهى الوضوح لأنني استخدمت الكلمات الصحيحة. يؤيد الكتاب أيضًا مذهبَ الوضعية المنطقية، وقام بمعالجة بعض مشكلاتها.
كان فيتجنشتاين فخورًا بكتابه، وكان مقتنعًا أنه حلَّ كل مشكلات الفلسفة بإرجاعها إلى الدلالات اللغوية، وتقاعد عن الكتابة لبضع سنواتٍ لاعتقاده أن: «لا وجود للمزيد من الفلسفة للقيام بها»! لكنه غيَّر رأيه بشأن هذا الأمر لاحقًا.
بعد وفاته، نُشِر كتابه الآخر، تحقيقاتٌ فلسفية (Philosophical investigations)، الكتاب الذي يعبر فيه عن أفكاره التي تكوَّنت في الجزء الآخر من حياته، التي كانت تتعارض مباشرةً مع عمله الأول، حتى إنه كتب في كتابه الثاني: «كاتب التراكتاتوس كان مخطئًا»، كمؤشرٍ واضحٍ لتحركه الكبير من موقفه الأصلي.
في التحقيقات، يقول فيتجنشتاين إن اللغة هي عبارة عن سلسلة من الألعاب، نحن عندما نتكلم مع شخص نستخدم كلماتٍ معينة لنقل معنى محدد، الأمل الوحيد في أن يفهمنا هذا الشخص هو أنه يجب عليه فهم القواعد التي نلعب بها، ويفهم تحديدًا استخدامات تلك الكلمات وعلاقتها مع تلك القواعد.
على سبيل المثال، عندما أكتب «هذا الشخص ثرثارٌ حقًا»، يمكن أن أقصد التكلُّم بسخرية، أو أعني ما أقوله حرفيًّا، أو أكذب، أو أبالغ قليلًا، يجب على المُتلقّي أن يعرف نوع اللعبة التي نلعبها حتى يصل للمعنى الذي أقصده، وهذا كان ابتعادًا كبيرًا عن نظرية الصور التي وردت ف كتابه الأول التراكتاتوس، واستنكاره لعمله الأول كان سببًا في فقدان بعض أجزاء الوضعية المنطقية لمصداقيتها.
جان بول سارتر
جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre) كان واحدًا من العقول الرائدة للوجودية في القرن العشرين، وكتب العديد والعديد من الكتب والمقالات والمسرحيات.
في أعماله الأولى، يُقدِّم سارتر لنا أفكاره عن الحرية المطلقة، مع اعترافه بأننا مُقيَّدين ببعض القيود الطبيعية والظروف الاجتماعية، وهذا ما دفعه إلى أن يضع علينا المسؤولية كاملةً في اختياراتنا، ويعلن لنا بأننا: «مُدانون بأن نكون أحرار».
هذا النوع من الحريّة الجذريّة تتمثل في إنسانٍ يفهم أن أولئك الذين يكونون بمفردهم عليهم أن يتحملوا مسؤولية اختياراتهم بشكلٍ كامل، ويعرف أيضًا بالضرورة أنهم غير مقيدين إلَّا بقيودٍ قليلةٍ في اختيارِ أفعالهم.
بناءً على اعترافه الدائم أن الحدود الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية تؤثِّر على حريتنا الموجودة، أصبحت الحدود التي اعترف بها أكثر عددًا وتقييدًا بمرور الوقت، هذا كان بسبب -جزئيًّا- تأثير شريكة حياته (سيمون دي بڨوار-Simon du Beauvoir)، وبسبب أيضًا انخراطه في التيار اليساري الفرنسي.
تغييره هذا لم يكن جذريًا بقدر كونه تطورًا لتفكيره وفهمه للجانب العملي من أفكاره. وبناءً على فهمه بقدر الحدود الاجتماعية والاقتصادية وتأثيرها على حريتنا، بدأ في التوقف عن تعريف نفسه كوجوديٍّ محض، وقام بإعلان نفسه أنه لطالما كان أناركيًّا.
جان ميلييه
جان ميلييه (Jean Meslier)، هو كاهنٌ كاثوليكي فرنسي عاش في القرن السابع عشر. عُرِفَ عنه طباعه الهادئة وتحمله المسؤولية وعدم سعيه للشهرة وابتعاده عن الأضواء. فيُذكر أن ميلييه خَدَمَ أبرشيته لأكثر من أربعين عامًا دون شكوى أو امتعاض.
بعد موته، وُجِدَ في غرفته كتابٌ يحتوي على أكثر من 600 ورقة يحاجج فيها أفكاره الإلحادية ويدافع عنها. وقد نُشِرَ الكتاب لاحقًا كنوعٍ من الشهادة أو الاعتراف.
فقد تميَّز القسيس جان ميلييه بأنه أول فيلسوف ملحد كتب نصًّا يدافع فيه عن أفكاره وموقفه، وفي كتابه يصف ميلييه الدين ككل بأنه: «قصرٌ مُشيَّدٌ في الهواء»، ويصف علم اللاهوت بقوله:
الجهل بالأسباب الطبيعية وراء حدوث الظواهر قد اِنصهر في شكل نسقٍ فكريٍّ، وأصبح هو علم اللاهوت.
وجد ميلييه أن معضلة الشر هي مشكلة ليس لها حل في العالم، وقد أنكر أيضًا وجود حرية الإرادة وأنكر وجود الروح، وذكر أن النبلاء ورجال الدين يستحقون الذبح بسبب طمسهم المتعمد لمفاهيم الحقيقة والعدالة.
وقد ناقش ميلييه الديانة المسيحية وقام بتفنيدها على النحو التالي: أن المسيحية بشكلها في الوقت الراهن هي مجرد أداة لضمان استسلام وسلبية الطبقات الدنيا من المجتمع تجاه الظلم الواقع عليهم، والذي يُحتِّم عليهم الثورة ضده. فلقد دعى إلى الشيوعية بصفتها الحل لغياب العدالة الاجتماعية.
في حين أن السؤال عن سبب مقدار هذا التحول يبقى غير معروفٍ، يعترف ميلييه في كتابه أنه التحق بكلية اللاهوت من أجل إرضاء والديه. إن نظرنا نظرةً مُتفحِّصة لهذا الموقف فإنه يبدو غريبًا إذا وضعنا بجانبه الأربعين سنةً التي قضاها ميلييه في الوعظ والتبشير بالديانة المسيحية.
في النهاية، يتضح لنا أنه لا يوجد أحدٌ في مقالنا هذا تراجع عن أربعين سنةً من العمل في كتاب واحد، وكان رفضه لأفكاره التي عاش يتظاهر بالإيمان بها طيلة عمره جاء مُعبِّرًا عنه بقوةٍ شديدة رغم أسلوبه المترنِّح في الكتابة.
المصدر:
https://bigthink.com/scotty-hendricks/four-philosophers-who-realized-they-were-completely-wrong
ترجمة: مايكل ماهر
مراجعة: محمد فتحي
تدقيق: Mohamed Sayed Elgohary