لو كان أرسطو شخصية خرافية لكانت محاولة اختراعه محض عبث، وما كان أحد ليصدق بوجود مثل هذا الرجل، فقد قيل أن مجموع ما كتبه قد جاوز المليون ونصف المليون كلمة، بل هناك ما يحمل على الاعتقاد بأن هذا لم يجاوز إلا ربع ما كتبه، فكثيرا من كتبه التي أُعدت للنشر قد فُقدت.
ومؤلفات أرسطو عديدة ومتنوعة بحيث تعتبر دائرة معارف عصره، ولقد ذكر لنا «بطليموس» عناوين82 منها تتألف من 550 مقالة. غير أن قسما كبيرا منها قد ضاع ولم يصل إلينا كما سبق وقلنا. لكن لحسن الحظ أن الذي بقى هو الجانب الأهم؛ وذلك لأن مؤلفاته تقسم عادة إلى قسمين: (كتب منشورة) ويقصد بها عامة الجمهور، و(كتب مستورة) ويقصد بها خاصة تلامذته والمختصين أو الباحثين، وفيها العرض الشامل لمذهبه.
وتنقسم كتب أرسطو من حيث الموضوع إلى الأنواع التالية:
- الكتب المنطقية.
- الكتب الطبيعية.
- الكتب الميتافيزيقية.
- الكتب الأخلاقية.
- الكتب الشعرية.
إن معظم ما ضاع من مؤلفاته ينتسب إلى القسم الأول (الكتب المنشورة) . وأما من حيث الأسلوب فالنوع الأول أجمل ، فروعيت فيه مقتضيات البلاغة؛ ولهذا قال عنها «شيشرون» إنها “نهر ذهبي يفيض بالبلاغة”. ومع ذلك، فإن ما تركه جدير بأن يضعه في مكانة لا ينازعه فيها أحد، وأي محاولة للتعبير عن جليل أثره لن تضاهي قدره، و رغم كل ذلك، قد يكون أرسطو مصدر إعجاب لنا فقط، غير أنه كان بالنسبة للمتعلمين في العصور الوسطى بمثابة الماء الذي يشربونه، والهواء الذي يتنفسونه، فقد ظل التعليم العالي على مدار قرون ينهل من آراء أرسطو والتعليق عليها، وعندما استخدم «دانتي أليجيري» عبارة”المعلم الأول” في الكوميديا الإلهية، لم يكن ثمة حاجة لديه إلى الإشارة إلى أرسطو بالاسم. وبعد ذلك بأكثر من 300عام كتب «ديكارت»: كم كان هذا الرجل محظوظا، فكل ما كتبه، سواء أمعن فيه فكره أو لم يُمعنه، ينظر إليه الناس وكأنه وحي نزل من السماء. وفي هذا الصدد يقول «برتراند راسل»: كان نفوذه قد أوشك أن يبلغ ما للكنيسة من سلطان لا يقبل الجدل.
ويمكن التعرف على مدى تأثيره على قاعات الفلسفة المدرسية شبه المعتمة، بمعرفة أنّ النقد الموجه له لعدة قرون كان يقع همسا في مؤخرة فصول الدراسة، بينما كانت آراؤه يتغنى بها المحاضرون. وتجسيدا لهذا المعنى؛ كتب «رينيه ديكارت» إلى أحد أصدقائه سرا بعد أن أرسل له جزءا من أعماله الجديدة:”دعني أقل لك إنّ هذه التأملات الستة تحتوي على كل أُسس الفيزياء التي وضعتها، ولكن أرجوك لا تخبر أحدا بذلك، فإن هذا من شأنه أن يؤلب عليّ أنصار أرسطو فلا يقبلونها، فكلي أمل أن يعتاد القراء تدريجيا على آرائي ومبادئي ويدركوا ما فيها من حقائق قبل أن يلاحظوا أنها تقوض آراء أرسطو”.
كانت ردة الفعل العلمية على أرسطو في ذلك الوقت قاسية جدا، واكتنفتها المغالاة في بعض الأحيان إذ كتب الشاعر «جون دايدن» في العام الذي انتخب فيه عضوا بالجمعية الملكية، وهي من أولى المؤسسات الأوروبية التي عملت على التخلص من الفكر المدرسي الأرسطي ونشر المعرفة الجديدة:
لم نعهد طغيانا طال كهذا،
طغيان خان فيه الآباء عقولهم،
عقولهم الحرة لصالح هذا الإستياجيري-نسبة إلى موطنه ستاجيرا-، أرسطو،
وجعلوا من شعلته نورا لهم. فقد بات في العلم وفي الفلسفة على السواء عقبة كؤودا في سبيل التقدم، فمنذ بداية القرن السابع عشر ترى كل خطوة تقريبا من خطوات التقدم العقلي مضطرة أن تبدأ بالهجوم على رأي من الآراء الأرسطية.
بين أفلاطون وأرسطو
ولد أرسطو، والذي كثيرا ما يسمى بـ”الفيلسوف” بألف ولام التعريف، على الأرجح عام 384 ق. م. في ستاجيرا، وكان أبوه قد ورث منصب طبيب الأسرة، وعند نحو الثامنة عشرة من عمره، قدم أرسطو إلى أثينا حيث أصبح تلميذا لأفلاطون، ولبث يدرس على يديه في الأكاديمية ما يقرب من عشرين عاما، وكان أكثر تلاميذه نقاشا وجدالا، وكان لا يوافق على كثير من أراء أستاذه، ونقد نظرية المُثل في كتابه الميتافيزيقا لأنها مفارقة وصوفية.
كان أرسطو تلميذا لامعا تحت إرشاد أستاذ لا يضاهى، وكان كلاهما عبقريا،غير أن التفاهم بين العباقرة أمر صعب كتفاهم النار والديناميت، فلقد فصل بين أفلاطون وأرسطو خمسون سنة تقريبا، وكان من الصعب سدّ الفجوة التي أحدثتها كل هذه الأعوام.
يقال أنّ خلافا حقيقيا وقع بينهما في أواخر سني أفلاطون، وأنّ أرسطو بدأ يعاني عقدة ضد معلمه وبدأ يشير إلى أن (الفلسفة سوف لن تموت بموت أفلاطون)، وشبهه أفلاطون بمُهرٍ يرفس أمه الفرس بعد استنزافها وتجفيفها. ويؤثُر عن أرسطو أنه قال:” أحب أفلاطون، وأحب الحق، وأوثر الحق على أفلاطون”، ولربما قيلت هذه المقولة على لسان أرسطو لتعليل النقد الدائم الذي يوجهه التلميذ لأراء أستاذه، ولعل هذا النقد المتواصل هو السبب الحقيقي الذي يفسر لنا امتناع أفلاطون لأن يخلفه أرسطو في رئاسة الأكاديمية، فربما كانت رغبة أفلاطون هي أن يخلفه شخص لا يخالف مضمون فلسفته، بل يتمسك بها و يحافظ على جوهر الفلسفة الأفلاطونية لتُئول في نهاية المطاف إلى «سبوسيبوس» ابن أخي أفلاطون. وبعد ذلك غادر أرسطو أثينا ومكث بعيدا لأثنى عشر عاما، ثم حصل على وظيفة المعلم الخاص للاسكندر الأكبر..
ميتافيزيقا أرسطو أو”ما بعد الطبيعة”
هذا الاسم، وهو”ما بعد الطبيعة”، لم يضعه أرسطو ولم يعرفه، وإنما كان أرسطو يسمي هذا الموضوع “الفلسفة الأولى”، وذلك يعني عند أرسطو أنّ هذا النوع من العلم هو المبادئ الأساسية العامة للعالم، واسم “ما بعد الطبيعة” لم يُطلق إلا عندما نشر «أندرونيقوس الرودسي» -عاش في القرن الأول قبل الميلاد- كتب أرسطو، ففي أثناء نشره، وضع البحث الخاص بـ”الفلسفة الأولى” بعد البحث في”الطبيعة” فسمى هذا البحث بـ”ما بعد الطبيعة”، ويعني بذلك ما ورد ذكره بعد الكلام في”الطبيعة” وهذا هو معنى”ميتافيزيقا”. وكان «ييجر» يعتقد بأن كتاب “ما بعد الطبيعة” ليس كتابا واحدا قصد أرسطو تأليفه، بل هو مجموع كتابات خطها في ظروف مختلفة وأطوار متباينة.
نشأ بحث أرسطو فيما بعد الطبيعة من تحليله ونقده لنظرية المُثُل الأفلاطونية وبيان ما فيها من أخطاء، وقد رد على هذه النظرية بجملة ردود منها :
أن نظرية أفلاطون لا توضح مشكلة كيف نشأ هذا العالم رغم أنّ هذه أهم مشكلة من وجهة نظر الفلسفة، وإذا سلمنا بأن هناك”مثالا” للبياض مثلا، فكيف نشأت عنه الأشياء البيضاء؟ لا يمكننا فهم هذا من كلام أفلاطون، ولا يمكننا أن نفهم العلاقة بين”المثال” وأشيائه. يقول إن هذه الأشياء صورة للمثال، وأنّ المثال”يشاركها في الوجود”، بيد أنّ هذه العبارة كما يقول أرسطو عبارة شعرية لا توضح العلاقة، ولا تبين أساس الوجود… كان أرسطو يقول ويعتقد بثمة”وجود” لجميع الأشياء المادية مثل الأشجار والصخور والحيوانات، ويعتقد بأن جميع أنواع الوجود الأخرى تُعد وجودا ثانويا على الأشياء المادية، فعند الحديث مثلا عن”كبير” أو”جميل” أو” أحمر” أو”الحجم” لا يمكن ادعاؤه إلا إذا كان هناك شيء معين يحمل هذه الصفات، فلا يمكن لهذه الصفات أن تقوم بذاتها..
ويرى أفلاطون أنّ “المُثُل” ثابتة لا تتغير وساكنة غير متحركة. بينما يرى أرسطو إن كانت المثل كذلك، فيجب أن تكون”صورها” أو الأشياء مثلها ثابتة ساكنة، غير أننا نرى العالم متغيرا متحركا، فلمَ تتغير الصورة مع أن”مُثلها” ثابتة ؟
فند أرسطو نظرية “المُثُل” بما سماه “الإنسان الثالث”، ذلك أن المثال يشرح القدر المشترك بين الأشياء، فكلما كان هناك قدرا مشتركا، كان هناك مثالا، فهناك قدرا مشتركا بين الناس جميعا، لذلك كان لهم مثال هو الإنسان، ولما كان هناك شيء مشترك بين الجزء أو الفرد من الناس وبين المثال الكلي أو الإنسان، فيجب أن يكون لذلك مثالا يشرحه وهو”الإنسان الثالث”، وهناك قدر مشترك بين الإنسان الثالث وبين والفرد من الناس فيجب أن يكون له كذلك أيضا مثال وهكذا إلى ما لا نهاية. وهذا محال.
من اعتراضات أرسطو أيضا على نظرية المُثل الأفلاطونية
أنّ المُثل عند أفلاطون هي “ماهية” الأشياء. و”ماهية” الأشياء عند أرسطو ما به يكون الشيء نفسه، يجب أن تكون فيها غير خارجة عنها أو مفارقة لها، فـ”ماهيتك” هي “ما أنت عليه بحكم طبيعتك نفسها” ، فلنا أن نقول إنها المجموعة من صفاتك التي لا يمكن أن تفقد هويتك معها..
ثم انتقل أرسطو بعد ذلك إلى بيان أنّ الحقائق الكلية أو الكليات كالعدل أو الحرارة أو البرودة وحقيقة الإنسان وما إلى ذلك، ليس لها وجود خارجي، بمعنى : أن الموجود في الخارج هو المفردات فقط كالشيء الحار، والإنسان أو أفراد الجنس البشري، والشيء البارد وهكذا. أما الحقائق الكلية فليس لها وجود إلا في أذهاننا فقط، فمثلا، حقيقة الإنسان هو القدر المشترك بين الناس كلهم، وهذا الشيء المشترك هو ما نسميه بالإنسانية، والإنسانية لا توجد مستقلة وحدها، إنما توجد في الأفراد، وهذه الإنسانية لابد أن توجد للأفراد ليتحقق وجودها. وبطبيعة الحال الحرارة في الحار، والبرودة في البارد.
النقطة الثانية في ميتافيزيقا أرسطو هي التفرقة بين “الصورة” و”المادة”
إذ يرى أرسطو أن هناك ثمة أربعة أمور رئيسية يجب أن يشغل المرء نفسه بها حيال أي شيء، أولها : ما المادة التي صُنع منها الشيء ؟ ما صورة الشيء”؟ أي تركيبه”.ما الغرض منه؟. ما الذي أخرجه للحياة أو أدى إلى تغييره ؟؟
عادة ما يُشار إلى هذه الأسئلة الأربعة مجتمعة بـ”علل أرسطو الأربع” وهي:
- العلة المادية: أي المادة التي يتكون منها الشيء كالخشب بالنسبة إلى النافذة.
- العلة الصورية: عرفها أرسطو بروح الشيء، وما يكون به هو، وما تصبح به المادة أو الشيء شيئا محددا معينا، مثل ما به يكون التمثال تمثالا.
- العلة الغائية: الغرض أو الغاية التي أو المقصد الذي تتجه الحركة لإخراجه.
- العلة الفاعلة: أي القوة التي عملت على تغيير شيء من حالة إلى أخرى باتخاذه شكلا جديدا.
وإذا ما ضربنا مثلا على هذه العلل الأربع حسب نظرية أرسطو فقلنا “المنزل” ؛ فعلته المادية هنا هي مواد البناء مثل الطوب والرمل والأسمنت والمياه والأخشاب وما إلى ذلك، وعلته الصورية هي ترتيب هذه المواد أو المكونات لتناسب تصميما معينا، وعلته الغائية هي توفير مأوى للناس، وعلته الفاعلة هي عامل البناء. ويمكن -حسب أرسطو- تطبيق هذا المخطط الرباعي على كافة الظواهر الطبيعية.
كان أرسطو يرى أن كل الفلاسفة الأوائل قد اهتموا بالعلل المادية دون غيرها، فكلما حاولوا تفسير ظاهرة ما، يذكرون ببساطة مادتهم المفضلة فقط وحسب اختلافهم من ماء وهواء وتراب ونار، ثم لا يعرفون ما يتعين عليهم فعله بعد ذلك. وكان من مآخذه أيضا عليهم – لاسيما «ديموقريطس»- إغفالهم العلل الغائية، فقد أجاب «ديموقريطس» على جميع الأسئلة التي تتعلق بالمادية والصورية والفاعلة بالحديث عن ذرات متغايرة الشكل تتحرك في فراغ -والذي رفضه أرسطو- دون توضيح أي غاية، وهذا خطأ كبير من وجهة نظر أرسطو، إذ تجاهل الحديث عن الغاية أو العلة من وجود شيء ما أو وظيفته يعني الإخفاق في تفسير كثير مما يتعلق به. غير أنّ أفلاطون لم يتجاهل العلل الغائية، فقد أكد على أهمية الدور الذي يلعبه “الغرض” في الطبيعة لدرجة جعلته يقول إن صانعا ماهرا هو الذي ينظم الظواهر كلها. بيد أن أرسطو يرى أن كلام أفلاطون عن العلل الصورية مشوه ومضطرب وغير واضح، فأفلاطون كان يرى أن صورة شيء ما -كصورة منضدة- مثلا، هي كيان غير مادي لا يرتبط حتما بمنضدة معينة. أما أرسطو فقد جنح به تفكيره الواقعي إلى إنكار مثل هذا الكلام حيث قال: إن التسليم بوجود هذه المُثُل أو الأشياء المطلقة حديث مجرد لا فائدة منه، إذ لا يفسر كل شيء. وقد قال أيضا إنه لا يجب النظر إلى شكل شيء ما على أنه شيء منفصل يتحد معه بطريقة ما؛ ذلك أن الشيء ما هو إلا سمة من سمات الشيء أو مظهر من مظاهره وليس شيئا مستقلا بذاته.
من هذه الفكرة الأخيرة انتقل أرسطو ليقدم نظرية جديدة تتحدث عن علاقة الجسد بالروح، فهو يقول بأن الروح صورة الجسد ، فهو لم يؤمن بأن الروح طيف يسكن الجسد مؤقتا كما كان شائعا في الديانة الأورفية والتي اعتقد بها أفلاطون، بل اعتقد أرسطو أن ترتيب الخصائص الجسدية هو المسئول عن حياة الإنسان وهو ما يساعده على عملية الفهم والإدراك، أي أنه لن يكون لك روح ما لم يكن لك جسد منظم يعمل بطريقة خاصة. فالروح في فلسفة أرسطو -كما يقول «برتراند راسل»- هي ما يجعل الجسد شيئا واحدا، له غرض واحد، وله الخصائص التي نفهمها من كلمة”كائن عضوي”.
خطوة أخرى خطاها أرسطو بتركيز هذه العلل الأربع في علتين سماهما “المادة والصورة”، وغالبا ما يُعبر عنهما في كتب الفلسفة -لاسيما الفلسفة العربية- بـ”الهيولي/المادة والصورة”. والذي دعاه إلى هذا أنه قد رأى أن العلة الصورية والغائية والفاعلة ترجع كلها إلى الصورية، وذلك أن العلة الصورية والغائية شيء واحد في النهاية، لأن الصورية هي ماهية الشيء وما به الشيء هوهو، أو حسب تعبير «برتراند راسل» أن الصورة هي التي تخلع الوحدة على جزء من المادة وأن هذه الوحدة عادة -إن لم تكن دائما- غائية. والعلة الغائية هي بروز الشيء المطلوب إلى الوجود؛ فظاهر من هذا اتحادهما. ثم العلة الفاعلة والغائية شيء واحد لأن العلة الفاعلة هي علة الصيرورة، والغائية هي النهاية التي تصل إليها هذه الصيرورة، وعليه عند أرسطو أن كل شيء يتحرك لغاية. هذه (الهيولي/المادة والصورة ) هما أساس فلسفة أرسطو الميتافيزيقية، وبهما شرح العالم، وقد رأى أن الهيولي والصورة لا ينفصلان، فلا هيولي دون صورة ولا صورة دون هيولي، وكل موجود في الخارج يتكون منهما، وهما ليستا منفصلتان إلا في الذهن، غير أن الهيولي في ذاتها ليس لها مظهر أو صورة، إنما الذي يحدد الهيولي ويجعل لها مظهر ويجعلها تُوصف هي الصورة. غير أنّ الهيولي عند أرسطو لا يعني ما نعبر عنه اليوم بالمادة أو العنصر، بل هو شيء أعمق من ذلك بكثير، فإذا ما قلنا مثلا أنّ “مادة الذهب تختلف عن مادة الفضة” ليس هذا ما يقصده أرسطو بالهيولي، فليس الذهب عنده يختلف عن الفضة من حيث الهيولي، بل إن الصورة هي من جعلت هناك اختلافا بينهما، أو بعبارة أوضح، الخلافات في الصفات فقط والهيولي عنده تُكوِن أي شيء حسب صفاتها، وتعبيره الشائع في الفلسفة هنا “ما هو موجود بالقوة وما هو موجود بالفعل”، فالهيولي عنده صالحة أن تكون أي شيء أو بعبارة أخرى هي أي شيء “بالقوة” ولكنها “بالفعل” شيء معين والذي منحها هذا التعيين هو الصورة.. فالوجود هو تحول ما هو موجود بالقوة إلى ما هو موجود بالفعل، وكل حركة وتغير ما هي إلا خطوات التحول من القوة إلى الفعل، أو من المادة إلى الصورة.
فكرة الألوهية عند أرسطو
موضوع هذا العلم هو “الجوهر”، فيقول أرسطو: يتعين علينا أن “نبين أنه يوجد بالضرورة جوهر دائم غير متحرك” فنقول أن “الجواهر أوائل الموجودات، فل كانت كلها فاسدة لكانت الموجودات كلها فاسدة”.
يقول أرسطو إن هناك ثمة أنواع ثلاث من الجواهر، فهنالك:
1- جواهر يدركها الحس وتتعرض للفناء، وتشمل النبات والحيوان.
2- جواهر يدركها الحس ولا تتعرض للفناء، وتشمل الأجرام السماوية والتي هي أعلى فلك القمر.
3- جواهر لا يدركها الحس ولا تتعرض للفساد أو الفناء، وهي النفس العاقلة، كما تشمل الله.
والحجة الأساسية التي يعتبرها دليلا على وجود الله هي حجة “العلة الأولى”، والعلة الأولى -والتي هي المبدأ الأول- لا توجد لها علة قبلها. إذ لا بد أن يكون ثمة شيء يخلق الحركة بعد أن لم تكن، ثم لابد أن يكون هذا الشيء نفسه غير ذي حركة، فهو المحرك الذي لا يتحرك، ولابد أن يكون أزليا: وأن يكون وجوده وجودا بالفعل-ليس بالقوة. وليست علاقة الله بالخلق عند أرسطو علاقة زمن، فالزمن عند أرسطو ليس شيئا حقيقيا، إنما هو مظهر فقط، فعلاقة الله بالعالم عند أرسطو هي علاقة علة بمعلول، والله متقدم على العالم ترتيب حال وليس ترتيب زمان، هو أول في الفكر لا في الزمن. وليس لله -عند أرسطو- من الصفات التي يتصف بها في الأديان، إذ أنه مما ينقص من كماله أن يفكر في شيء إلا ما هو كامل، أي نفسه هو أو الذات الإلهية. فيقول أرسطو أن الله فكرة، ولكنه فكرة لأي شيء؟ إنه صورة مجردة، فليس صورة للمادة، ولكن هو صورة الصورة، فهو فكرة الفكرة، فهو يفكر في نفسه بنفسه، هو المفكر والمفكر فيه. والله موجودا وجودا أزليا أبديا باعتباره فكرا خالصا وسعادة، والكائنات الحية كلها شاعرة بالله شعورا يتفاوت في الأفراد زيادة وقلة، وهى تندفع إلى العمل بدافع إعجابها بالله وحبها له، وعلى ذلك؛ فالله هو العلة الغائية لكل ضروب النشاط، وإذا كان هو العلة الغائية كان هو غاية الغايات. وصورة العالم عنده هو سلسلة ترقٍ للمادة من صورة إلى أخرى أرقى منها، فانطلاقا من فكرة التطور عن أرسطو؛ نجد نظام العالم عنده بناءًا طبقيا بحيث يتصاعد من أدنى حدوده -الهيولي المحضة- وصولا إلى الصورة المحضة حيث حده الأعلى. بناء على ذلك، يكون المبدأ الأعلى -الإلوهية- صورة محضة.