جون لوك وفلسفته

جون لوك وفلسفته

جون لوك هو أحد كبار النزعة التجريبية الإنجليزية، جاء بعد توماس هوبز وفرانسيس بيكون، غير أنّه كان أبعد منهما عمقًا وأثرًا في توضيح المذهب الحسي والدفاع عنه. ولد جون لوك بالقرب من بريستول في نفس العام الذي ولد فيه سبينوزا 1632، وكان أبوه يعمل بالمحاماة وخاض غمار الحرب الأهلية دفاعًا عن البرلمان، فنشأ الابن محبًا للحرية، فهو ينحدر من أصل بيورتاني وهي طائفة بروتستانتية ظهرت بإنجلترا في القرن السادس عشر والسابع عشر وطالبت بتبسيط طقوس العبادة والتمسك بأهداب الفضيلة، وقادوا ثورة البرلمان ضد الملك شارل الأول إبان الحرب الأهلية.

واكتسب جون لوك أفضل سمات هذه الطائفة مثل: الفطنة والشفقة وحب الحرية والإخلاص والجد والاعتماد على النفس وما إلى ذلك.

في بادئ الأمر دخل جون لوك مدرسة ويستمنستر ومكث بها ست سنوات وتعلم خلالها اللغات القديمة، فأُرهق باللاتينية واليونانية والعبرية والعربية. ولما بلغ العشرين من عمره التحق بأكسفورد وقضى بها ست سنوات أيضًا يتلقى فيها دراسات كهنوتية، وبها درس مصوغات أرسطو في قوالب سكولائية باللاتينية، كما درس مزيدًا من اليونانية، وبعض الهندسة والبلاغة، وكثيرًا من المنطق وعلم الأخلاق ورأى أنّ الوجهة الأخلاقية للدين أهم وأعظم من الوجهة العقائدية. بيد أنّه لفظ معظم هذه الدراسات فيما بعد، لأنّها عتيقة قديمة مهجورة غير مستساغة ولا مقبولة شكلاً ولا موضوعًا.

وبعد حصوله على درجة الماجيستير بقى بالكلية باحثًا يدرس ويحاضر. ثم درس الطب فيما بعد غير أنّه لم يحصل على درجة فيه إلا عام 1674م. وأنقذ لوك الطبيب حياة شافتسبري حيث أجرى له عملية جراحية بارعة استأصل فيها ورم خبيث، وسهر جون لوك على زوجة ابن شافتسبري أثناء الوضع وأشرف على تعليم حفيده. لذلك كان يرعاه “لورد شافتسبري”، وحين سقط سنة 1683م هرب لوك معه إلى هولندا وبقي هنالك حتى الثورة، وبعد الثورة كرس حياته للعمل الأدبي وللمجالات العديدة التي آثارها في كتبه.

كان لجون لوك تأثيرًا عظيمًا، فمنه انحدرت الحركة الليبرالية بأسرها. وانتقلت آراء لوك من إنجلترا في القرن الثامن عشر إلى فرنسا مع فولتير، واعتنقها كذلك مونتسكيو عند زيارته لإنجلترا. وكانت لأفكاره صدى أيضًا عند روسو وغيره قبل الثورة الفرنسية وفي أثنائها، وبرزت تلك الأفكار بأجلى معانيها في إعلان “حقوق الإنسان” الذي أصدرته الجمعية التأسيسية عام 1789م. ويقول “ول ديورانت” إنّ تأثير لوك على الفكر السياسي ظل مسيطرًا حتى ظهور كارل ماركس. وأهم مؤلفات جون لوك هي:” مقالات في الحكومة المدنية ” و”آراء في التربية” و”خطابات في التسامح”، بيد أنّ أشهر مؤلفاته هي “مقالة في العقل البشري”.

نظرية المعرفة عند جون لوك

بداية إذا ما سألنا وقلنا ما هي طبيعة المعرفة؟
ما هو المصدر الذي يستقي منه الإنسان معرفته؟
هل في مستطاع الإنسان أنْ يتناول بمعرفته كل شيء بغير تحديد أم أنّ لمعرفته حدود؟
لقد تعددت إجابات الفلاسفة عن هذه الأسئلة، وتطور أمرها حتى تحولت إلى اتجاهات شديدة الاختلاف والتباين، فنظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا موضوع مركزي في الفلسفة، فكل فلسفة بمعنى من المعاني ترجع بنا إلى السؤال. ما الذي نستطيع أن نعرفه؟ وكيف نعرفه ؟
كان البحث حول إجابة هذا السؤال عن طبيعة المعرفة وأصلها، أدى إلى ظهور اتجاهات فلسفية منها:

1. المذهب العقلي: ويرتبط هذا المذهب في معظمه ارتباطًا وثيقًا بفلاسفة القرن السابع عشر (ديكارت- سبينوزا- ليبتنز). وكانوا يرون أننا نستمد أفكارنا من العقل، فالمعرفة الواضحة هي المعرفة العقلية، وهذا النوع من التفكير لا يعتمد على الخبرة أو الحواس، فالحواس خداعة والملاحظة المباشرة للطبيعة مشكوك فيها. وهناك أفكار كامنة فينا، أو هي فطرية تولد مع العقل البشري.

2. المذهب التجريبي: كان جون لوك هو واضع الخطوط العريضة لنظرية المعرفة عند التجريبيين. وذلك أنه رأى أنّ العقل البشري عبارة عن صفحة بيضاء خالية من أية أفكار، وأنّ ما يمد الذهن بالأفكار إنّما هو التجربة أو الخبرة، غير أنّ التجربة عنده تختلف عن التجربة لدى هوبز وكوندياك الذي أرجع المعرفة إلى الحواس فقط، فهي عنده نتيجة مصدرين: الحواس، والعقل. وهذا يعني أنّ لوك لا ينفي أثر التفكير في تكوين المعرفة بالكلية. إنّ المعرفة عنده تعتمد على التجربة الحسية وعلى الإحساس. فالانطباعات الحسية تقدم إلى العقل الذي هو صحفة بيضاء، وعلى التجربة الداخلية والتي تعتمد على التفكير وتقوم على ربط إحساسات الحواس فيما بينها.

رفض لوك للأفكار الفطرية

هاجم لوك نظرية الأفكار الفطرية في أول كتاب له “مقالة في العقل البشري”؛ لأنّه كان هنالك مفكرون محافظون بإنجلترا كانوا قد أحيوا التصور الرواقي القديم الخاص بالأفكار الفطرية مفترضين أنّها تولد مع العقل البشري وتقبلها جميع الأجناس البشرية قبولاً عامًا.

لكن ما الذي حفز جون لوك إلى كتابة “مقالة في العقل البشري” وهاجم فيه نظرية الأفكار الفطرية؟ هنا يجيب “ول ديورانت” في قصة الحضارة بأنّ الذي حفز لوك هو الخلاف الذي نشب بين الأفلاطونيين في كامبريدج من الذين حذوا حذو الفلاسفة الإسكولائيين الذين يرون أننا نستمد أفكارنا من لله ومن المثل الأخلاقية العليا، لا من التجربة والخبرة، بل من الاستبطان. وأنّ هذه الأفكار فطرية أصيلة فينا، وجزء من جهازنا العقلي مهما كنا غير واعين عند الولادة. وهذه الفكرة لا بيانات ديكارت الثانوية عن “الأفكار الفطرية ” هي التي أدت بلوك إلى النظر في مسألة هل هناك أية أفكار لم تكن وليدة تأثيرات العالم الخارجي؟ خلص لوك إلى القول بأنّ كل المعرفة بما في ذلك أفكارنا عن الله وعن الصواب والخطأ مستمدة من الخبرة، وليست جزءًا من التركيب الفطري للعقل. كان الدافع للقائلين بالأفكار الفطرية هو العثور على تأكيد أكثر يقينًا لحقائق الأخلاق والدين الثابتة. وكان لوك يعرف أنّه في محاولته للبرهنة على هذه النظرية التجريبية قد يسيء إلى كثير من معاصريه الذين أحسوا بأنّ الأخلاق تتطلب مساندة الدين لها، وأنّ الأخلاق والدين كلاهما ينهار ويضعف إذا نبعت أفكارهما الأساسية من منبع أقل شرفًا من الله.

كان جون لوك يُعرف العقل بأنّه “قوة الإدراك الحسي”؛ ولكنه يستخدم الإدراك الحسي ليشمل إدراك الأفكار في عقولنا، وإدراك معاني الألفاظ، وإدراك التوافق أو التنافر بين الأفكار. ولكن ما هي الفكرة؟ هنا يستخدم لوك هذا المصطلح ليعني تأثير الأشياء الخارجية على حواسنا (وهو ما يجب أنْ نسميه الإحساس)، والوعي الداخلي بهذا التأثير (وهو ما يجب أنْ نسميه الإدراك الحسي) أو صورة الفكرة أو الذكرى المتصلة بها (وهو ما يجب أنْ نسميه الفكرة). وما دُمنا لا نستطيع أنْ نفكر إلا بواسطة أفكار، وما دامت كل الأفكار تأتي من التجربة، فمن الواضح أنّه لا شيء من معرفتنا يمكن أنْ يسبق التجربة. فالإدراك هو (الخطوة الأولى والدرجة الأولى نحو المعرفة والمدخل إلى جميع خاماتها).

كان جون لوك يُصر على أنّ المُدافع عن الأفكار الفطرية لا يقول أنّ بعض الأفكار فطرية، بمعنى أنّ الناس لديهم ميل فطري لاكتسابها حالما يجربون ويتعلمون استخدام عقولهم؛ لأنه بهذا المعنى تكون كل الأفكار فطرية. ديكارت مثلاً قد ذهب إلى أنّ فكرة الله فطرية أو أصيلة فينا. غير أنّ لوك قد أنكر هذا الرأي فقال إنّ بعض القبائل وُجدت وليس لديها فكرة عن العدالة أو عن الله، كما أنّ بعض القبائل التي تعتنق هذه الأفكار تتباين المفاهيم لديها عن الآلهة إلى حد يكون معه من الحكمة أنْ نرفض فكرة “نشوئها بالفطرة أو بالسليقة”، وأنْ نبلي إيماننا بالله من خلال الآيات البينات على كمال حكمته وقدرته، ويعني ذلك الخبرة. وبالمثل لا يوجد هناك مفاهيم فطرية عما هو صواب وما هو خطأ، فالتاريخ يبين مجموعة متباينة ومتناقضة أحيانًا عن الأحكام الخلقية من مكان إلى آخر.

لكن ما هو أصل الأفكار إذا لم يكن هناك أفكار فطرية؟

بعد أنْ تخلى لوك عن “الأفكار الفطرية” جاء يسأل: كيف تولد أو تنشأ الأفكار؟ فلنفترض أنّ العقل عند الولادة كما يمكن أنْ يقال صفحة بيضاء خالية من أي رسم أو نقش، ومن أية أفكار، فكيف يتأتى تزويده؟ يجيب لوك بكلمة واحدة الخبرة (التجربة). والتجربة عند لوك ذات شعبتين فهي تجربة إما تستمد بالإحساس، وإما بالتأمل الباطني. غير أنه يقول إنّ الحواس تعمل أولاً؛ فتقدم إلى العقل طائفة من الأحاسيس، ثم يعقب ذلك عملية التأمل وما ينشأ عنه من أفكار (هذان وحدهما- على ما أعلم- هما النافذتان الوحيدتان اللتان ينفذ منهما الضوء إلى هذه الغرفة المظلمة. وأقول المظلمة لأنني أظن أنّ العقل شبيهًا بقاعة مغلقة لا ينفذ إليها الضوء).

كان جون لوك يقول أنّ الأفكار كلها تقع في مجموعتين:

1. أفكار بسيطة: وهي ما تأتي إلى العقل من الخارج، وقد تأتي عن طريق حاسة واحدة كاللون عن طريق البصر، والصوت عن طريق السمع. أو قد تكون آتية عن طريق عدة حواس مشتركة كالامتداد والشكل والحركة. أو قد تأتي من التفكير وحده دون الحواس كالشك والعقيدة والإرادة. أو قد تأتي عن طريق التفكير والحواس معًا كالسرور والألم.

2. أفكار مركبة: وتنقسم عند لوك إلى ثلاثة أقسام: أعراض وجواهر وعلاقات. أما الأعراض فهي أفكار مركبة لا نفرض أنها موجودة بذاتها من حيث إنها أشياء مستقلة أو موضوعات مستقلة بذاتها. أو بتعريف آخر فالأعراض هي (الأفكار المركبة التي تُؤلفها عقولنا من الأحاسيس كما تُؤلف الجمل من الكلمات فهي لا تطابق بعد تكوينها شيئًا من الحقيقة الواقعة في الخارج). ويعنى جون لوك بذلك أنّ هذه الأفكار ليس لها وجود مستقل عن الأذهان. وإلى هذا القسم من الأفكار تنتمي كل الإدراكات الكلية أو بعبارة أخرى (الكليات). وهنا يتخذ جون لوك موقفًا اسميا متطرفًا في موضوع الكليات. فجميع الأشياء التي توجد جزئيات. وهنا يقول جون لوك إنّ كثيرًا من أخطائنا راجع إلى أننا ننسى أنّ اللغة تدل على مدركات عامة تكونت داخل العقل ولا يقابلها أشياء في العالم الخارجي.

أما ماهية الجوهر؟ اعترف لوك بأننا لا نعرف مِنْ هذا الجوهر الخفي الغامض شيئًا إلا صفاته، فإذا انتُزعت هذه الصفات فإنّ الجوهر- أي الأساس الضمني أو المفهوم ضمنًا لهذه الصفات يفقد كل معنى له-. أو بمعنى آخر هو “حامل غير معروف ” تلازمه صفات أخرى، وبدون هذا الحامل لا يمكن أنْ توجد هذه الصفات الأخرى.

أما النوع الثالث من الأفكار المركبة فهو فكرة العلاقات التي تحدث في الذهن بين فكرة وفكرة.
كان لوك يميز بين الصفات الأولية والصفات الثانوية للأشياء المدركة. أما الصفات الأولية وهي التي لا يمكن فصلها عن الجسم إطلاقًا مثل الصلابة، والامتداد، والشكل، والعدد، والحركة، والسكون. أما الصفات الثانوية “فليست شيئًا في الأشياء نفسها؛ بل مجرد قوى تُحدث فينا إحساسات متعددة بصفاتها الأولية”، فالألوان والأصوات والأطعمة والروائح صفات ثانوية تحدث فينا بكتلة هذه الأشياء وشكلها وجسمها ونسيجها وحركتها. أما الأشياء نفسها فليس لها لون ولا وزن ولا طعم ولا رائحة ولا صوت.

أنواع المعرفة عند جون لوك

1. المعرفة الحدسية: وهي أكثر أنواع المعرفة يقينًا. وهي إدراك العقل لما بين الفكرتين من موافقة أو مفارقة إدراكًا مباشرًا دون أنْ يستعين في ذلك بفكرة ثالثة. مثل أنْ نعرف أنّ الدائرة ليست مثلثًا، أو أنّ اللون الأبيض ليس هو الأسود، أو أنّ ثلاثة تساوي واحدًا مضافًا إليه اثنان.

2. المعرفة البرهانية: وهي إدراك العقل لاتفاق الفكرتين أو اختلافهما إدراكًا غير مباشر، وهي التي تحتاج إلى برهان لإثبات صحتها. مثل معرفتنا بوجود الله، فهذه معرفة برهانية لأنّها ينقصا البرهان، ولا يمكن إدراكها إدراكًا مباشرًا.

3. المعرفة الحسية: هي العلم بالعالم المادي عن طريق الحواس، ورغم أنّ هذا النوع من المعرفة لم يبلغ حد اليقين إلا أنه مرجح الصدق والصحة. هذه هي الأنواع الثلاثة من المعرفة، وما غير ذلك من أنواع، فلا يعدو دائرة الاحتمال بل الادعاء والجهل.

الأخلاق عند جون لوك

أول ما يسترعي النظر من آراءه هو إنكاره لحرية الإرادة بمعناها المعروف، فهو يرى أنّ الإرادة هي قوة توجيه الذات إلى الحركة أو السكون، والحركة عند لوك تعني التفكير، والسكون على العكس هو خمود الفكر. كل ما لدى الإنسان من حرية هو تصرفه العلمي بمقتضى فكره الخاص. ولدى الإنسان رغبات معينة، وفي اختياره لرغبة ورفضه لأخرى يسير تبعًا لما تبثه الرغبات من لذة وألم. واللذة عند لوك تعني الخير، والألم هو الشر، وهما الدافعان الأساسيان لسلوك الإنسان. ومقياس السلوك من حيث الكمال أو النقصان هو مطابقته للقانون الأخلاقي المقرر بإرادة الله. وهنا يناقض لوك نفسه لأنه يعتقد أنّ القواعد الأخلاقية ليست من وضع الجماعة السياسية، بل هي تهبط على البشر، وفي نفس الوقت ينكر أنْ تكون الأخلاق مفطورة في العقل البشري منذ ولادته، بل إنه يدركها بالتجربة مع أنّها قانون الله.

الفلسفة السياسية عند لوك

كتبتُ (رسالتين في الحكومة المدنية) كما يقول لوك في المقدمة لكي (ترسخ عرش ملكنا الحالي العظيم وليم، أي لكي تثبت حقه في رضا الشعب، ولأنه الحكومة الوحيدة من الحكومات الشرعية، فقد حاز على الرضى أكثر من أي أمير آخر في العالم المسيحي، ولكي نبرر للعالم موقف شعب إنجلترا الذي أنقذه حبه للحقوق العادلة والطبيعية مع تصميمه أنْ يحفظها- أنقذ الأمّة التي كانت على شفى العبودية-). أصدر جون لوك مقاليه عن “الحكم المدني” وهما حجر الزاوية في النظرية الديموقراطية في إنجلترا وأمريكا. وكان الهدف من المقالتين هو تزويد “الثورة الجليلة” بأساس فلسفي. وكان المقال الأول والأصغر ردًا على (دفاع عن السلطة الطبيعية للملك الذي كان سير روبرت فيلمر، وكان قد ألفه فيلمر تدعيمًا لحقول شارل الإلهية). صور فيلمر الحكومة بأنّها امتداد للأسرة، وأودع الله السيادة في الأسرة الإنسانية الأولى في آدم الذي انحدر منه الآباء، وعلى أولئك الذين “مثل خصوم فيلمر” يؤمنون بأنّ الكتاب المقدس منزل من عند الله، أنْ يسلموا بأنّ الأسرة الأبوية وسلطة الأب أقرهما الله وانتقلت هذه السيادة من الآباء إلى الملوك. وكان الملوك الأوائل آباء. وكان سلطانهم شكلاً من حكم الآباء ومشتقًا منه، فالملكية إذن ترجع إلى آدم، ومن ثم إلى الله. وسيادة الملوك إلا إذا أمروا بخرق صريح للقانون الإلهي.

وعلى نقيض النظرية التي تقول بأنّ الإنسان ولد حرًا، يقول فيلمر بأنّ الإنسان ولد خاضعًا لعادات الجماعة وقوانينها، وللحقوق الطبيعية والشرعية للوالدين على أولادهم. (إن الحرية الطبيعية) خرافة رومانسية، وإنها لخرافة أيضًا أنّ الحكومة قامت برضا أفراد الشعب واتفاقهم. و “الحكومة النيابية” خرافة أخرى. فالممثل لا يختاره إلا أقلية ضئيلة نشيطة في كل دائرة انتخابية، وكل حكومة هي من أغلبية عن طريق أقلية. ومن طبيعة الحكومة أنْ تكون فوق القانون. فللهيئة التشريعية- بمقتضى تعريفها- سلطة سن القوانين وتغييرها أو إلغائها. وإنا لنخدع أنفسنا إذا راودنا الأمل يومًا في أنْ يحكمنا سلطة غير استبدادية، وإذا كان للحكومة أنْ تعتمد على إرادة المحكومين، فسرعان ما ينتهي الأمر إلى عدم وجود حكومة البتة وتعم الفوضى أو حكم الرعاع، وليس هناك طغيان يمكن أنْ يقاس بطغيان الرعاع.

كان هذا هو مجمل آراء فيلمر في الحق الإلهي للملوك. وهنا أحس لوك أنّ مهمته الأولى وهي المدافع عن الثورة الجليلة قد حانت، فدحض حجج فيلمر، وقال (إنه لم يكن هناك يومًا مثل هذا الهراء المرتجل). فتصور لوك مثل هوبز أنّ تأسيس الدولة المدنية كان نتيجة عقد اجتماعي، وأنّ حالة الطبيعة التي تسبقها حالة مساواة وحرية كاملة. واستخدم هذه اللفظة (حالة الطبيعة) كما استخدمها جفرسون حين نسج على منواله، بمعنى أنه ليس لأحد بالطبيعة “حقوق” أكثر مما لسواه، وهو يبيح للإنسان في “الحالة الطبيعية” غرائز معينة بمثابة إعداد سيكولوجي للمجتمع. ورغم ذلك لا يعتقد لوك كما اعتقد هوبز من قبل أنّ حالة الطبيعة كانت حالة تسيب أو حرب الكل ضد الكل؛ وذلك لأنّ “سُنة أو قانون الطبيعة” أيّدت حقوقهم بوصفهم حيوانات عاقلة. وذهب لوك إلى أنه بمقتضى العقل توصل الناس إلى اتفاق أو “عقد اجتماعي” الواحد منهم مع الآخر تنازلوا فيه عن حقوقهم الفردية في القضاء والعقاب- لا لملك- بل للجماعة ككل. وعلى هذا تكون الجماعة هي السيد أو الحاكم الحقيقي، وهي تختار بأغلبية الأصوات رئيسًا أعلى ينفذ مشيئتها. ويمكن أنْ يسمى ملكًا غير أنه مثله مثل أي مواطن آخر ملتزم بطاعة القانون الذي يسنه المجموع.

يؤسس لوك أصل حقوق الملكية في استغلال الأرض لأول مرة وهو استغلال ممزوج بالعمل. ففي الحالات البدائية، عندما كانت هناك وفرة من الأرض، اكتسب الإنسان الذي يحيط قطعة أرض بسور و يزرعها حقًا أخلاقيًا فيها وفي انتاجها. فلقد كانت هناك شيوعية بدائية، ومع بدأ العمل انتهت حقبة الشيوعية؛ وذلك لأنّ الإنسان أخذ لنفسه ملكًا خاصًا به، أي شيء ذا قيمة أضفاها عليه جهده هو. فالعمل إذن هو مصدر 99% من كل القيم المادية وهنا (قدم لوك للاشتراكية الحديثة على غير قصد منه أحد مبادئها الأساسية). إنّ المدينة تنمو عن طريق العمل، ومن ثمّ عن طريق نظم الملكية بوصفها نتاج العمل. غير أنّ لوك يلاحظ أنه باختراع النقود قد أصبح الناس قادرين على تجميع الثروة التي لم يكونوا في حاجة استهلاكها بصورة مباشرة. لقد كان لوك من رواد علم الاقتصاد السياسي، وكتب رسالة عن ناتج تخفيض الربح ورفع قيمة المال.

الدين والتسامح عند لوك

في منفاه كتب لوك “رسالة في التسامح” -ترجمها من اللاتينية إلى العربية د/عبد الرحمن بدوي، كما ترجمها منى أبو سنة ضمن المشروع القومي للترجمة- بتحريض من صديقه شافتسبري، وحررها باللاتينية ونشرها خلوًا من اسمه. وكان يقصد بالتسامح الديني أنه (ليس من حق أحد أنْ يقتحم باسم الدين الحقوق المدنية والأمور الدنيوية)، ولهذا (فإنّ فن الحكم ينبغي ألا يحمل بين طياته أية معرفة عن الدين الحق). ومعنى ذلك أنّ التسامح الديني يستلزم ألا يكون للدولة دين. فخلاص النفوس من شأن الله وحده. وبسبب هذه الأفكار هُوجم لوك فألف رسالة ثانية في التسامح 1690م، ورسالة ثالثة 1692م. ولم يحقق قانون التسامح الذي صدر في 1689م من مقترحات لوك إلا قليلاً، فاستبعد القانون الكاثوليك والتوحيديين واليهود والوثنيين. رفض لوك التطرف بكل ما أوتي من قوة، ورأى أنّ السلوك القويم والحق الكريم يتطلبان من الكنسية المسيحية دعمًا شاملاً. كان أول هم جون لوك أنْ (يضع المقاييس والحدود بين العقيدة والعقل) وعمد إلى تحقيق ذلك. (إني أجد كل شيعة تحاول جهدها بقدر ما يسعفها العقل أنْ تفيد منه عن طيب خاطر وحيثما يخفق العقل تصرخ وتصيح بأعلى صوت: ذلك مسألة إيمان وعقيدة فوق العقل، إنّ كل ما أوحى به الله حق على وجه اليقين). يخلص لوك إلى القول: “ليس هناك شيء يناقض أوامر العقل الواضحة البديهية أو لا يلتئم معها، يحق له أنْ يشجع أو يؤكد على أنه مسألة عقيدة لا دخل للعقل فيها”. و” ثمة أمارة لا تخطيء” على حب الحق “ألا نهلل ونرحب بأية قضية في توكيد أكبر مما تجيزه الأدلة التي تقوم عليها القضية”. و”ينبغي أنْ يكون العقل أو حكم ومرشد لنا في كل شيء..”. ولذلك نشر جون لوك “معقولية المسيحية كما تنقلها الأسفار المقدسة” وأعاد قراءة العهد الجديد كما يمكن أنْ يقرأ الإنسان كتابًا جديدًا طارحًا كل التعاليم والتعليقات جانبًا كما قال. وإذا كان ثمة شيء يمكن أنْ يكون رسالة إلهية؛ فإنّ هذه القصص وذاك المذهب كلها تبدو وكأنهما من عند الله، ورأى لوك أنْ نتقبلها جميعًا على أنّها مقدسة؛ بل نقرها أيضًا باعتبارها متفقة مع العقل.

ألح لوك على أنْ تتمتع بالحرية الكاملة كل المذاهب بإنجلترا، فيما خلا الكثلكة، وكان لوك لم يتسامح أيضًا مع الملحدين، حيث رأى أنهم غير أهل للثقة ما داموا لا يخشون إلهًا ولا ديانة توقع عذابًا ماديًا. ولم يتسامح مع أي مذهب يطلب الولاء لسلطة أجنبية. بيد أنّ لوك دعا صراحة إلى التسامح مع المشيخيين والمستقلين وأنصار تجديد العماد والأرمينيين والكويكرز. ولكنه لم يتجاسر على القول بالتسامح مع التوحيديين.

كان لوك يقول بأنّ القانون ينبغي فقط أنْ يهتم بالمحافظة على النظام الاجتماعي؛ فإن للقانون الحق في القضاء على كل ما من شأنه العمل على تخريب الدولة. لكنه ليس له ولاية أو سلطان على نفوس الناس كما قلنا. وليس لأي كنيسة أي سلطة لإرغام الناس على نمط معين. فما أصعب أنْ يعاقب الناس في الدنمارك لأنهم غير لوثريين، أو في جينيف لأنهم لا يتبعون كالفن. لاحظ لوك أنّ معظم الأديان تنادي بالتسامح فقط في أيام ضعفها، وتأباه في أيام قوتها. واصل لوك حملته من أجل التسامح حتى غربت شمس حياته. وكان منهكًا في كتابة رسالة رابعة في نفس الموضوع حين وافته المنية عام 1704م.

وقبل وفاته كان قد وصل في مجال الفلسفة إلى ماكنة لم يسم عليها إلا نيوتن في ميدان العلوم. وتحدث عنه بالفعل بأنه “الفليسوف” بألف ولا التعريف. وعلى حين ختم حياته على تقوى قوية، فإنّ كتبه التي لم تكن تتغير مع الزمن، انتقلت عن طريق الترجمات إلى العديد من أرجاء أوروبا المثقفة، وقال شبنجلر: ( إنّ الاستنارة الغربية من أصل إنجليزي زنبعت كلتا عقلانية القارة من لوك” وليست كلها بطبيعة الحال. ولكن فيمن يمكن للمرء الآن أنْ يغامر بمثل هذه المبالغة أو الإغراق؟ هكذا ختم ول ديورانت فصل جون لوك في “قصة الحضارة”.

شارك المقال:
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي