من المعروف أن الأدوية النفسية المتاحة لعلاج اضطرابات القلق ناجحة إلى حدٍ مقبول في التقليل من الأعراض التي يعاني منها المصابون بشكلٍ يومي. إذًا، لم يبقَ المصابون بهذه الاضطرابات بعيدًا عن العلاج النفسي؟
ربما تمتلك صديقًا تم تشخيصه باضطراب القلق الاجتماعي، مع أعراضٍ تتراوح بين الخوف من الإحراج أمام العامة، إلى قلقٍ لا يحتمل إذا اضطر للتحدث أمام غرباء. أنت على تمام العلم بالمعاناة الرهيبة التي يختبرها هذا الشخص، والتداعيات السلبية التي يتعرض لها في العمل وفي التعامل اليومي مع العائلة والأصدقاء. لكنك مهما بذلت من جهدٍ لإقناعه بالذهاب إلى معالجٍ نفسي، فهو يصرّ دائمًا أن مشاكله ليست بهذا السوء.
طبقًا لبحثٍ جديد أجرته إليزابيث جويتير وزملاؤها العاملون بمستشفى ماستشوسيتس العام (MGH)، ليس من غير الشائع على الإطلاق أن يبقى المصابون باضطراب القلق الاجتماعي (social anxiety – SAD) واضطراب القلق العام (GAD – generalized anxiety disorder) بعيدًا عن العيادات النفسية، وبالتالي لا يستفيدون من الأدوية التي قد تحسن من حالتهم. فكما ينوّه الباحثون بـ (MGH)، بالرغم من الانتشار العالي لهذه الاضطرابات (ما يقارب 30% من البالغين في الولايات المتحدة) والأثر السلبي الذي تحدثه على جودة حياتهم، إلا أن ثلاثة أرباع المصابين لا يلجأون إلى خدمات الصحة العقلية. وعلى لسان الباحثين بجامعة بوسطن:
«قلة عدد مستخدمي هذه الخدمات الصحية تثير القلق، خاصةً مع توافر مثل هذه الأدوية والعلاجات النفسية الآمنة والفعالة والناجحة لمرضى القلق الاجتماعي والقلق العام. وما يثير المزيد من القلق، أن ترك هؤلاء المصابون بدون علاج يعرّضهم لتبعاتٍ خطيرة، مثل: إدمان المخدرات، والمشاكل الصحية، والفشل الإجتماعي، والميول الانتحارية».
ولسخرية القدر، لاحظت جويتير وزملاؤها أن هذه الأعراض التي تميز اضطرابات القلق -خاصةً الاجتماعية- هي بحد ذاتها العائق الأكبر الذي يمنع المصابين بهذه الأمراض من طلب العلاج. فالعلاج بالنسبة لهم ليس إلا مصدرًا جديدًا للإحراج. وعليه فإن رفض صديقك للتدخل الطبي يرجع بشكلٍ كبير إلى قلقه عمّا سيفكر به الناس. ومهما بذلت من الجهد لتطمئنه بفاعلية العلاج، وقبوله مجتمعيًا، فإنه لن ينفك يقلق من أن يُرى بين الناس كمختل عقلي.
سعى فريق البحث العلمي بمستشفى ماستشوسيتس العام لاكتشاف العوائق التي تُبقي صاحبك -وغيره من المصابين بالأشكال الأكثر عمومية من هذا الاضطراب- عن العلاج. تشمل هذه العوائق العوامل الديموجرافية، مثل: السلالة والأصل العِرقي والجنس والحالة الاجتماعية ومستوى الدخل والتعليم، ووجود تشخيصات مرضية أخرى، مثل: الاكتئاب الشديد والفوبيا والوسواس القهري. ويشير الباحثون إلى أنه بالرغم من كون الخوف من الإحراج يميز المصابين باضطراب القلق الاجتماعي، فإنه من غير المعلوم لمَ يرفض المصابون باضطراب القلق العام كذلك الخضوع للعلاج.
تراوح عمر المشاركين في دراسة جويتير والبقية -عددهم 229- بين الـ18 والـ65 عامًا بمتوسط عمر 28 عامًا، معظمهم إناث بنسبة 78% من المصابين باضطراب القلق العام، و 57% من المصابين باضطراب القلق الاجتماعي. أغلبهم كان أبيض البشرة، أعزبًا، من طلبة السنين النهائية وما فوقها. قام أعضاء فريق البحث العلمي بمقابلات تشخيصية للمشاركين، وقيّموا كلًا منهم بناءً على معايير طبية ليقدروا شدة أعراض كلا الاضطرابين. وباستخدام إجراءات إضافية تم تقييم الأعراض الاكتئابية، والرضا الذاتي عن الحياة، ومدى الخلل الوظيفي الذي يعاني منه كل فرد.
باستخدام استبيان حول عوائق العلاج (Barriers to Treatment Questionnaire – BTQ)، حدد المشاركون الأسباب التي منعتهم من طلب التداوي. تألف الاستبيان من 23 عنصرًا تطلب من المشاركين أن يقيموا إلى أي مدى تجنبوا أو أخروا العلاج في الاثني عشر شهرًا الأخيرة، بطريقةٍ متعلقة بوصمة العار التي يشعرون بها، مثل: «شعرتُ بالإحراج من مشاكلي» و«كنتُ قلقًا من أن ينقدني أصدقائي إذا طلبت العلاج». وبالأخذ في الاعتبار عوامل السلالة والأصل العرقي، سألت عناصر متعددة عمّا إذا شعر المشاركون بوجود هذه العوائق الثقافية بينهم وبين متخصص العلاج النفسي، مثل: «كنتُ خائفًا من أن يتم علاجي بشكل سيء بسبب سلالتي أو عِرقي». بينما تحققت العناصر الأخرى المتعلقة باللوجيستية والأعمال المالية، مما إذا ظن المشاركون أنهم لا يملكون وقتًا للعلاج أو أن التأمين الصحي لن يتكفل بالمصاريف.
على مقياس الاستبيان المكون من 92 نقطة، كان متوسط نقاط الاضطرابين 22، وتراوح أغلبهم بين 8 و38. مال المشاركون إلى التصديق على العناصر المتعلقة بالعار والخجل، وأعلن أكثر من 80% منهم رغبتهم بأن «يتولوا أمورهم بأنفسهم».
احتلت عناصر المشاكل المالية واللوجستية المرتبة الثانية بنسبة 60% موافقة من المشاركين. المفاجىء في الأمر، أن الكبار في السن أظهروا عددًا أقل من العوائق، بالرغم من أن الشباب -الذين نتوقع منهم قابلية أكبر للعلاج- كانوا العكس. كانت نسبة الرفض عالية كذلك بين الأفراد ذوي أصول عرقية تمثل أقلية في المجتمع، والعُزّاب وذوي الدخل المنخفض -من يقعون تحت خط الفقر-. لكن لم يكن هناك أي علاقة بين الجنس ومستوى التعليم ونتيجة الاستبيان.
لعبت شدة الأعراض دورًا كذلك في التنبؤ بعدد العوائق، لكن ليس بالشكل الذي تتوقعه. فقد أظهر ذوو الأعراض الأقل حدة أسبابًا أكثر لرفضهم العلاج، وليس العكس. علّق الباحثون على ذلك:
«هذه النتائج مقلقة، لأنها تقترح أن ذوي الأعراض الأشد والذين قد يحققوا أكبر إفادة من العلاج، هم بالتحديد من يواجهون عوائق كثيرة ويفشلون في إدراك حاجتهم إلى العلاج».
مما يثير القلق كذلك، الدرجة التي أشار فيها المشاركون إلى المشاكل اللوجيستية كعائق عن العلاج، بالرغم من أن الدراسة تم إجراؤها في منطقة حضارية كبيرة مع وفرة من عيادات الصحة العقلية.
وكما استنتج الباحثون، فإن هذه النتائج توفر ملاحظات مهمة حول دور معرفة التكلفة والمنافع الخاصة بالعلاج. بالإضافة إلى تعليم العامة حول فوائد العلاج، وإمكانية تقديمه بطريقة غير تقليدية وأكثر راحة، مثل: العلاج الافتراضي، والعلاج عن طريق مساعدة الذات. تؤكد النتائج إلى ضرورة الأهلّية الثقافية للعاملين في قطاع الطب النفسي والمنظمات التابعة له.
بالعودة إلى قضية صاحبك ذي القلق الاجتماعي، تقترح نتائج بحث جويتير وزملائها أن تناقش معه مباشرةً مشكلة وصمة العار والاعتقاد المصاحب لها أن الناس يمكنهم معالجة أعراضهم بأنفسهم. وبالرغم من أن هذا الحث لم يناقش العلاقة بين المقاييس الثانوية للاستبيان، إلا أنه من المنطقي التوقع أن الأشخاص الذين يرون في المشاكل اللوجيتسة والمالية عائقًا للعلاج، يخافون أيضًا من العار والإحراج والعوائق الثقافية المحتملة.
خلاصة الأمر أن حقيقة وجود علاجات فعّالة لاضطرابات القلق لا تضمن انتفاع الناس بها. تثقيف الآخرين، ونفسك أيضًا، ربما تكون الطريقة المثلى لمنح العلاج فرصة للعمل.