كان أناكسجوراس (حوالي 500-428ق.م) هو أول من حمل الفلسفة الطبيعانية الأيونية إلى الأثينيين، ولد في مدينة كلازوميني في أيونيا، ثم انتقل إلى مدينة أثينا عام 460 ق.م، ويُقال أنّه انتقل بدعوة من بركليز، إذ كان معنيًا بتمدين أبناء المدينة فكان يجلب إليها الأدباء والعلماء ليجعل منها مركز اليونان في السياسة والثقافة على السواء، فبدخول أناكسجوراس إلى أثينا دخلت معه الفلسفة إليها للمرة الأولى. وكان سقراط في ذلك الحين لا يزال صبيًا ولم يكن أفلاطون قد ولد بعد، وقد تحمله سكان أثينا ما يقرب من ثلاثين عامًا، وأطلقوا عليه اسمًا لا يخلوا من تهكم إذ سموه «عقل»، وسرعان ما اتهموه بتهمة فرّ على إثرها نحو المشرق، وتمثلت جريمته المعلنة رسميًا في أنّه كان يعتقد بأنّ الأجرام السماوية ليست آلهة تستحق العبادة، بل أحجار ملتهبة، فما الشمس إلا صخر ملتهب، وما القمر إلا من تراب. بَيْدَ أنّ هناك بعض المؤرخين يكشفون سببًا آخر للاتهام فقالوا أنّ السبب الحقيقي لمقاضاته هو صداقته للقائد العظيم بركليز وقربه منه، ويبدو هذا التفسير معقولاً، لأنّ هناك أصدقاء لبركليز آخرين قد طالتهم تلك الاتهامات.
ورد ذكر اسم أناكسجوراس في محاورة أفلاطون عن محاكمة سقراط بتهمة الفسق، وذلك بعد ثلاثين عام، حيث توجه سقراط الى أحد مُتَّهميه وهو رجل يدعى ميليتوس، وسأله عما إذا كان الاتهام الموجه إليه هو:
«إنّي لا أؤمن بأنّ الشمس والقمر آلهة، في حين أنّ معظم الناس يؤمنون بذلك».
فأكد ميليتوس كلامه قائلاً:
«إنّه فعلاً لا يؤمن بذلك أيها السادة المحلفون، فهو يقول أنّ الشمس قطعة من الحجارة والقمر كتلة من التراب»
فما كان من سقراط إلا أنْ ردّ عليه بسخرية وتهكم وقال له:
«عزيزي ميليتوس! هل تتخيل أنّك تحاكم أناكسجوراس؟ ألهذا الحد تستهين بهؤلاء السادة حتى تظن أنّهم جهلاء فلا يعرفون أنّ كتابات أناكسجوراس مفعمة بنظريات مثل هذه؟».
كان أناكسجوراس مهتمًا بالفلك اهتماما بالغًا ولكن بصبغة أيونية، وقد قيل أنّه تنبأ بسقوط نيزك، وسقط فعلاً على مدينة إيجوسبوتامي في تراقيا عام 467ق.م، ورغم بعد هذه القصة عن المنطق إلا أنّها ربما قد تكون قد أكدت فكرة أناكسجوراس عن ماهية النجوم. وكان أناكسجوراس معارضًا للخرافات بشتى أشكالها وليست الخرافات المتعلقة بالنجوم فحسب، فقد روى بلوتارخ في كتابه «حياة بركليز» قصة إحضار رأس خروف بقرن واحد إلى بركليز وكان به نتوء في منتصف رأسه، فادعى أحد العرافين ويدعى «لامبون» أنّ وجود مثل هذا الشيء الغريب على أرض بركليز يعني أنّ بركليز سيصبح قائد أثينا (وهو ما حدث بالفعل)، بَيْدَ أنّ أناكسجوراس أمر بتشريح رأس الخروف، وأوضح أنّ قرن الخروف الوحيد نما على تلك الشاكلة؛ لأنّ مخ الخروف كان مشوهًا. وكان يعزو بلوتارخ أيضًا جُل ووقار بركليز روح الدعابة التي يتمتع بها لتعرضه لفلسفة أناكسجوراس، فهي سبب مهارة بركليز في الجدل والبلاغة. ومن نافلة القول أنْ نقول هنا أنّه رغم عظمة ما خلفته رؤية أناكسجوراس للعالم وما خلفته على بركليز، لم يكن سقراط ليأخذها كاملة عنه، فقد رأى أنّها عملية ضيقة الأفق تهتم كثيرًا بالأسباب الميكانيكية للأشياء وتهمل معناها وغرضها. ومن هنا رفض سقراط رؤية أناكسجوراس، كان ذلك الأمر بمثابة نقطة التحول الكبرى في تاريخ الفلسفة، ويقال أحيانًا أنّه بيت القصيد الذي تحول فيه الموضوع من دراسة تأملية في الطبيعة إلى دراسة معنوية جادة للإنسان، وهذا هو ما قاله «شيشرون» بعد قرابة ثلاثة قرون:
«منذ قديم الأزل وحتى عهد سقراط، تناولت الفلسفة الحركات والأرقام، وتساءلت عن الأشياء من أين أتت وهل عادت أم لا، كما بحثت الفلسفة بشغف في حجم النجوم والمسافات التي تفصلها ومساراتها وكل المظاهر السماوية الأخرى. أما سقراط فهو أول من أتى بالفلسفة من السماء ووضعها في ميادين الإنسان… وأكرهها على طرح أسئلة عن الحياة والأخلاقيات والخير والشر».
وفي هذا الحديث بعض الصحة وليس كله صحيحًا، إذ أنّ كثيرًا من الفلاسفة قبل سقراط كالفيثاغوريين وهيراقليطس طرحوا أسئلة حول الحياة والأخلاقيات والخير والشر.
نشأ تفسير أناكسجوراس للطبيعة في ظل فكر بارمنيدس، شأنه في ذلك شأن الذريين من بعده، فكان لازمًا عليه أنْ يجد سبيلاً لإعادة ترتيب العالم المتغير الذي هاجمه بارمنيدس. ولقد انطلق أناكسجوراس من النقطة نفسها التي انطلق منها أنبادقليس، لكنه انتهى في نقطة مخالفة تمامًا، فإذا كان أنبادقليس قد ضاعف «الحقيقة الواحدة» السرمدية غير القابلة للانهيار، فإنّ أناكسجوراس كان يطمح إلى مضاعفة ما وراء الطبيعة بطموح أكبر من ذلك، فقال:
«إنّ كل المواد خالدة وغير مخلوقة وغير قابلة للانهيار».
ويمكننا تبين هذه الفكرة عنده إذا ما نظرنا إلى التساؤل الغريب الذي اعتراه: كيف للشّعر أنْ ينشأ من غير الشّعر؟ فهنا تتمثل فكرة أناكسجوراس الجوهرية في أنّ كل مادة تحتوي على كميات صغيرة من المواد الأخرى، وتقدم هذه الفكرة حلاً لمشكلة تحول الشيء إلى شيء آخر، إذ أنّها تقول أنّ المادة الجديدة كانت موجودة في المادة القديمة طوال الوقت. وقد ذهب أناكسجوراس إلى أنّ كل شيء قابل للانقسام إلى مالا نهاية، وأنّ أصغر أجزاء المادة لا يخلو من أثار لشتى العناصر جميعًا، وإنما تبدو الأشياء على ماهي تبعًا للعنصر الغالب عليها.
ويختلف أناكسجوراس عن أسلافه في اعتباره العقل عنصرًا أصيلاً يدخل في تركيب الكائنات الحية كلها، وقد قال في ذلك:
«هناك بعض الأشياء -ويقصد بها الكائنات الحية- لديها عقل»
والفارق الوحيد بين الكائنات الحية وغير الحية، هو أنّ الكائنات الحية تستطيع أنْ تحرك نفسها بنفسها، ومن ذلك يُفترض أنّ أناكسجوراس استنتج أنّ العقل هو الذي يمكنها من ذلك «لربما تتمتع النباتات بعقول بدائية تمكنها من النمو». فالعقل هو مصدر الحركة كلها، فهو يسبب حركة دائرية تنتشر في أرجاء الكون كله، وتجعل أخف الأشياء تنزاح إلى الحافة وأثقلها يهوي تجاه المركز، والعقل متجانس.
ومن نافلة القول قبل أنْ نتحدث عن صورة أناكسجوراس في العالم الإسلامي أنْ نقول، أنّ من ضمن الأشياء التي تفكر فيها الطقس وبعض جوانب من علم الأحياء والإدراك، بالإضافة إلى الكون وعلم الفلك. ويبدو أنّه أدرك أنّ القمر يأتي بضوئه من الشمس، وأنّ ظل الأرض هو المتسبب في خسوف القمر.
صورة أناكسجوراس في العالم الإسلامي
ظهر اسم أناكسجوراس لدى مؤرخي الفكر اليوناني من المسلمين برسمه كما نعرفه، فيذكره القفطي تحت اسم «أنكساغوراس» وروى أنّه حكيم مشهور مذكور، وأنّه قبل أرسطو. ثم يخطئ فيقول أنّه كان معاصرًا لأرسطو. كذلك المبشر بن فاتك يدعوه «أنكساغوراس» ويذكره في مواضع معينة من كتابه، ثم ينقل بعض أقواله: «قال أنكساغوراس: كما أنّ الموت رديء لمن الحياة له جيدة، كذلك جيد لمن الحياة له رديئة، فليس ينبغي أنْ يقال إنّ الموت جيد ولا رديء، لكنّه بالإضافة إلى الشيء يكون جيدًا أو رديئًا». وعُرف في العالم الاسلامي أيضًا بإشارات مثل «إنّ كل شيء يكون في كل شيء» و«إنّ الشيء لا يكون إلا من مثله وشبيهه في الصورة».
أما الشهرستاني فيذكر أنّ أنكساغوراس يقول:
«إنّ أصل الأشياء جسم واحد، موضوع الكل لا نهاية له، ومنه يخرج جميع الأجسام والقوى الجسمانية والأنواع والأصناف».
ويذهب الشهرستاني أيضًا إلى أنّ أنكساغوراس أول من قال بالكمون والظهور، فقد اعتبر الأشياء كلها كامنة في الجسم الأول.
وقد ذهبت مجموعة من مؤرخي الفلسفة الاسلامية من الأقدمين أيضًا من أمثال الشيرازي في «الأسفار الأربعة»، وفخر الدين الرازي في «المباحث الشرقية»، والإيجي في «المواقف»، كلهم ذهبوا إلى أنّ نظرية أنكساغوراس في الكون أثرت في نظرية الكمون عند «النّظام» المعتزلي، فقد ذهب النّظام إلى أنّ في الجسم أجزاء لا نهاية لها بالفعل، وهو بعينه نظرية أنكساغوراس في الكمون. ويرى الأستاذ الدكتور أبو ريدة، أنّ ما ذهب إليه النّظام من أنّ العالم مكون من جواهر متضادة لا عدد لأجزائها يقهرها الله على ما يريد، أشبه برأي أنكساغوراس في أنّ العقل هو الذي يرتب وينظم كل شيء. ويذهب أيضًا «هورتن» إلى أنّ «النّظام» أنكساغوراسي النزعة أكثر منه رواقي في نظريته عن الكمون.