أما أنبادقليس فهو أحد الطبيعيين المتأخرين، فبعد بارمنيدس أصبح شغل الفلاسفة الشاغل هو محاولة التوفيق، من جهة بين «الثبات» الذي برهن على ضرورته بارمنيدس و«الحركة» التي يرونها في حياتهم اليومية، وهي تلك الحركة التي اهتم بها هيراقليطس. ومن جهة أخرى بين «الواحدية» التي أكد عليها مذهبه، و«التعدد» الذي اهتم به الفيثاغوريون، والذي تشهد به التجربة، وقد تعددت محاولات التوفيق، ومنها خرجت فلسفات أنبادقليس أنكساجوراس والذريون.
امتدت حياة أنبادقليس فيما بين حوالي عام (492 ق.م)، فيكون قد لمع اسمه في منتصف القرن الخامس تقريبًا، وكان قد ترك كتابين، أحدهما «في الطبيعة» والثاني «في التطهير»، والكتاب الثاني يبين تأثره بالفيثاغوريين وبآراءهم الدينية، أما الأول فيوضح تأثره ببارمنيدس، وإنْ كان تأثره بهيراقليطس أبعد أثرًا من بارمنيدس. ونظريته حول المادة كانت من البساطة والإقناع بمكان جعل الجميع يؤمنون بالعديد من جوانبها حتى عصر النهضة. والحق أنّ تبني أرسطو لها قد ساعد كثيرًا على انتشارها بعد إدخال عدة تعديلات عليها، وفي ظل الدعم الأرسطي لها بقيت هي السائدة من بين أعمال التراث اليوناني القديم حتى القرن الثامن عشر، حتى خضعت لنقد بناء على يد علماء الكيمياء من أمثال «بويل». وتقوم هذه النظرية على أنّ جميع الأشياء تتكون من أربعة عناصر- رغم أنّه لم يكن هو الذي استخدم كلمة عنصر- هي: التراب، الهواء، النار، الماء. وليس لأي منها أفضلية على الآخر، لكنها تتحدد بكميات مختلفة بالأشياء المختلفة.
يتفق أنبادقليس مع بارمنيدس في فكرة عدم خلق الأشياء أو فنائها، ولكنه صاغها بطريقة أفضل منه فقال: “إنّ جميع الأشياء الهالكة لا تولد ولا تفنى بالموت، بل بخلط الأشياء وتبديلها، والإنسان هو من أطلق اسم الميلاد”. ويعتبر هذا حلاً وسطًا بين بارمنيدس والمنطق السليم، فأنبادقليس على أتم الاستعداد “للالتزام بالعرف” والحديث عن الميلاد والموت، فما دمنا نتحدث في إطار فكرته عن أنّ الميلاد أو النشوء هو عملية تكوين شيء من خلال خلط المواد الموجودة سابقًا، وما الموت أو الفناء إلا عملية تفكيك هذه المواد أو العناصر وإعادة تكوينها لتصبح شيئًا آخر. لذلك فهو متفق مع بارمنيدس إلى حد ما. ويتفق معه أيضًا في أنّه ليس في الوجود مفهوم الفراغ أو الخلاء، بيد أنّه تجاهل من مذهبه استحالة الحركة أو أنّه ليس هناك إلا شيئًا واحدًا، والشيء نفسه فعله مع مفارقات زينون الداعمة لهذه الأمور. ولا تشير العناصر الأربعة لدى أنبادقليس من تراب وهواء ونار وماء، إلى ما نعنيه اليوم بهذه الكلمات، فالهواء تشكلت منه جميع الغازات، والماء تشكل منه جميع السوائل، وذلك لأنّه يذوب ويتحد مع عناصر أخرى، والحب هو الذي يصل هذه العناصر ويجمعها ببعض، والبغضاء هي الصراع التي تفصله وينفرها عن بعضها البعض، وتضع هذه الحرب أوزارها في صورة العالم المتغير الذي نراه. ويرى أنبادقليس أنّ الحب ساد العالم كله في وقت من الأوقات واجتمعت كل العناصر في شكل إلهي واحد، لكن شوكة الصراع بدأت تقوى وأخذت تفرق بين هذه العناصر، بَيْدَ أنّه يومًا ما، سيكتب الانتصار “للصراع أو البغضاء” لكن ليس للأبد، وتعود جميع الأشياء إلى سيرتها الأولى ذرات من عناصر، ولكن الحب سيشنُ هجومًا مضادًا رهيبًا ويجمع العناصر كلها في شكل آخر ضخم لتبدأ المعركة بينهما من جديد. ويشبه الأمر إلى حدٍ ما في علم الكونيات «cosmolgy» المعاصر، حديثنا عن عملية «الانفجار الكبير big bang» و«الانسحاق الكبير big crunch»، فما يقوله علماء اليوم من أنّ المادة والطاقة كانتا مضغوطتين بشكلٍ كلي في مكان واحد ثم انفجرتا وتبعثرتا في «انفجار عظي». وإذا كان الحال كذلك فلا مناص من عملية عكسية في المستقبل البعيد تعرف بعملية «الانسحاق الشديد» ويلتصق بعضها في البعض في نقطة واحدة بفعل قوة الجاذبية، وهذه الفكرة تعادل عند أنبادقليس فكرة انتصار الحب. لذلك يمكننا اعتبار تفسير الكون لديه خليطًا من فيزياء ستيفن هوكينج وروايات باربرا كارتلاند الرومانسية.
قدم أنبادقليس تفسيرات أكثر تقدمًا بخصوص الكائنات الحية، فمثلاً لاحظ أّنّ الصفات المتباينة بشكلٍ واضح للكائنات الحية يمكن أنْ تكون لها الوظيفة نفسها وأنْ تؤدي أعمالاً متشابهة، وهذا هو أحد المبادئ الأساسية في علم الأحياء. أما أكثر تفسيراته البيولوجية تفصيلاً عن البقاء هو تفسيره لعمليات التنفس عند الإنسان والحيوان، إذ يرى أنّ انتظام حركة التنفس يترتب على انتظام حركة الدم في ثقوب صغيرة موجودة في الأنابيب حاملة الدم في مؤخرة فتحات الأنف، وهذه الحركة تمتص الهواء لداخل الأنف. ثم يستفيض في شرح هذا المبدأ الميكانيكي استفاضة تنم عن حذاقة ومهارة وذكاء. ثم اقترب أنبادقليس من لب القضية الجوهرية في علم الأحياء، حيث قال إنّ جميع المخلوقات تدين بالفضل فيما تحمله من صفات مفيدة ونافعة إلى حقيقة أنّه كان ثمة العديد من أنواع المخلوقات، وأنّ الكائنات الغريبة والمشوهة فشلت في البقاء لأنّها لم تكن لائقة لذلك، ولم يتبق سوى المخلوقات التي كانت جديرة بذلك لتتكيف وتملأ العالم بالتكاثر، بَيْدَ أنّ تفسيراته لهذه العملية انطوت على تفسيرات أقرب إلى الأساطير منها إلى التفسير العلمي فكتب يقول: كانت في هذه المرحلة العديد من الأوجه بلا رقاب، وكانت الأذرع تهيم بلا أكتاف، وكانت العيون تضرب في الأرض وحيدة بحثًا عن حياة. بَيْدَ أنّ هذا لا يمنعه أنْ اكتشف شيئًا من عمل الانتخاب الطبيعي قبل أنْ يقدم دارون ووالاس أدلة ملموسة على نظرية التطور بـ (2300عام).
صورة أنبادقليس في العالم الإسلامي
يذكر القفطي أن أنبادقليس كان حكيمًا من كبار من حكماء يونان، وأنّه أول الحكماء الخمسة المعروفين بأساطين الحكمة، ومن أقدمهم زمانًا، أما هؤلاء الحكماء عند القفطي فهم: أنبادقليس ثم فيثاغورس ثم سقراط، ثم أفلاطون ثم أرسطوطاليس. ويرى القفطي أنّ أنبادقليس كان معاصرًا للنبي داوود وأنّه أخذ الحكمة عن لقمان الحكيم بالشام، ثم توجه إلى اليونان، فتكلم بخلق العالم بأشياء تنكر المعاد، ويذكر أنّه قرأ كتابًا له في هذا في مكتبة الشيخ أبي نصر المقدسي وردود أرسطوطاليس عليه، ويقرر صاعد والقفطي أنّ من الباطنية من يقول برأي أنبادقليس وينتمي إلى مذهبه ويزعمون أنّ له رموزًا من الصعوبة الوقوف عليها ومعرفة المراد منها، وأنّه لا يكشفها غيرهم.
وقد ذهب صاعد الأندلسي وتابعه القفطي إلى أنّ محمد بن عبدالله الجبلي الباطني القرطبي المعروف بابن مسرة المتوفى عام (319هـ)، اشتهر بالانتماء إلى أنبادقليس وأنّه كان «كلفًا بفلسفته ملازمًا لدراستهًا، ثم فر من المغرب لاتهامه بالزندقة، لإكثاره من النظر في فلسفة أنبادقليس وإعلانه ذلك». وحاول صاعد أنْ ينسب إلى أنبادقليس مذهبًا في الجمع بين صفات الله، وأنّها كلها تؤدي إلى شيء واحد. وقد أورد كل من القفطي وابن أبي أصيبعة نفس الآراء عن أنبادقليس وأشار إلى أنّ مصدره في هذا هو صاعد، وقد ذكر ابن أبي أصيبعة أنّ لأنبادقليس كتابين هما، كتاب «فيما بعد الطبيعة»، وكتاب «الميامر»، ولعل الأول هو كتابه المنظوم في الطبيعة والثاني في التطهير، والميامر جمع «ميمر» وهي كلمة سريانية وتعني قسم أو فصل.
وكان لأنبادقليس ذكر ومقام لدى الإشراقيين، حيث يعتبر واحدًا من كبار الأنبياء والأصفياء والأولياء، ونرى شيخ المذهب الإشراقي السهروردي يقرر أنّ الحكمة الإشراقية هي التي قررها وأخبر عنها جملة من الحكماء الأوائل وأنّ هؤلاء الحكماء هم: أغاثا ديمون وهرمس وأنبادقليس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون. بَيْدَ أنّ الثابت قطعًا أنّ أنبادقليس لم يكن إشراقيًا، وإنما وضعه الإشراقيون في نسق حكمائهم الأوائل، لأنّه وصل إليهم في صورة مخالفة لما هي عليه حقيقته.
أما مذهبه كما صوره الشهرستاني: «فأنبادقليس يرى أنّ الله لم يزل هوية فقط، وهو العلم المحض، وهو الإرادة المحضة، وهو الجود والعز والقدرة والعدل والخير والحق، وليس معنى هذا أنّ هناك قوة مسماة بهذه الأسماء، بل هي هو _وهو هي كلها، فقط مبدع، لا إنّه أبدع من شيء ولا أنّ شيء كان معه ..”.