ديفيد هيوم وفلسفته

ديفيد هيوم وفلسفته

كان ديفيد هيوم ألمع نجوم حركة التنوير الاسكتلندية، ويروي لنا في ترجمته الذاتية البسيطة ذات الصفحات الست والذي كتبه قبل وفاته بفترة قصيرة، أنه وُلد في أدنبره في سنة 1711م لأسرة طيبة. ومات الأب في عام 1712م تاركًا ممتلكاته لشقيق ديفيد الأكبر جون هيوم، ولديفيد دخلاً يبلغ ثمانين جنيهًا في السنة- يكفي لمعيشة متقشفة. وأنه «إنسان ذو طبع لطيف، لديه القدرة على التحكم في مزاجه، ذو فكاهة صريحة واجتماعية مرحة، لديه القدرة على إقامة علاقات، لكن لديه استعداد قليلاً للعداوة والبغضاء، واعتدالاً كبيرًا في انفعالاته. وحتى حبي للشهرة الأدبية، وانفعالي الذي أتحكم فيه لم يعكر مزاجي على الإطلاق على الرغم من خيبة آمالي المتكررة.

لم يكن لدى أصدقائي أبدًا فرصة الدفاع عن أي واقعة في شخصيتي أو سلوكي، غير أنّ الغيورين كانوا سعداء عندما يخترعون أي قصة وينشرونها عما يضر بسمعتي، غير أنهم لم يستطيعوا أبدًا أن يعثروا على شيء مما يفكرون فيه يمكن أنْ يرتدي ثوب الاحتمال ».

ويقول مؤرخو سيرة هيوم أنه كانت لديه بدرجة مرموقة كل الفضائل التي كان يزعمها لنفسه، غير أنّ خطأه الأساسي الذي قيد وفرة انتاجه الفلسفي هو حرصه المفرط على الشهرة الأدبية.

أما أسرة ديفيد هيوم فقد كانت تدين كلها بالمذهب المشيخي- ينطبق اسم “المشيخي” إلى مجموعة متنوعة من الكنائس التي تلتزم في بعض درجة لتعاليم جون كالفن وجون نوكس وبقيادة شيوخ ممثل “الكهنة” من أتباعهم-، فقد أشربت الصبي المذهب الكلفاني إشرابًا قويًا تختلف في شكل الحتمية في فلسفة هيوم. وحين بلغ الثانية عشر من عمره دخل جامعة أدنبره، ثم تركها بعد ثلاث سنوات دون درجة، عازمًا على أنْ يفرغ بكليته للأدب والفلسفة. وحينما كان في سن السادسة عشر كان قد أتقن اللاتينية، وعرف قليلاً من اليونانية والفلسفة وقد أعجب طوال حياته بالأدب.

وحينما بلغ الثامنة عشر من عمره كان قد تبخر إيمانه الديني، وقال في فترة لاحقة أنه «لم يشعر بأي إيمان بالدين منذ بدأ قراءة لوك وكلارك». ثم عزم على كتابة رسالة في الفلسفة، غير أنّ أصدقاءه قد ألحوا عليه في أنّ الفلسفة وثمانين جنيهًا في العام كان نصيبه في تركة أبيه لن يتيحا له سوى عيش ضنك، وأنّ عليه أنْ يقنع بضرورة التكسب. فهل في مستطاعه أنْ يدرس القانون؟

يقول ديفيد هيوم أنه حاول ذلك طوال ثلاث سنوات مؤلمة وانهارت صحته وأوشكت روحه أيضًا أنْ تنهار، وفقد اهتمامه بالأفكار فترة. يقول هيوم: «رأيت دراسة القانون شيئًا يثير الغثيان» فطلقها وعاد إلى الفلسفة، فقبع في المنزل يستعير كتبًا من كلية اليسوعيين يقرأ الفلاسفة القدماء والمحدثين ورجال الأدب. وكانت هذه هي الفترة التي ألّف فيها هيوم أول جزأين من رائعته الشكوكية “رسالة في الطبيعة البشرية”، وذلك قبل أنْ يبلغ سن الخامسة والعشرين من عمره. وعندما نشر كتابه قوبل بمجموعة من الانتقادات البسيطة، وذلك لأنّ المؤلف غير معروف، وقد أصيب هيوم بخيبة أمل؛ لأنّ الكتاب لم يجعله مشهورًا، وخاب ظنه في الهجوم المتوقع عليه والذي كان قد أعد له الردود الرائعة. ثم عاد إلى انجلترا مثقلاً بمخطوطة الكتاب، بيد أنه قد لقى عَنَتًا مع الناشرين؛ فكتب إلى هنري هيوم يقول: «إنني الآن أجب كتابي، أي اقتطع منه أجزاؤه الممتازة، محاولاً أنْ أقلل ما استطعت من إيذائه لشعور الناس». وهنا يقول “ول ديورانت” أنّ أهم ما حذف منه “مناقشات حول المعجزات ” فنحاها لاستعمالها في أوقات أسلم.

كان هيوم قد اكتسب أصدقاء بين الباحثين الأكثر تحررًا، وكان له تأثير مفيد في الشباب. وكان من بين أصدقائه “آدم سميث” عالم الاقتصاد المشهور، والذي قال في حقه: «إنّ هيوم كان قد يكون بلغ في مقاربته الحكمة والفضل أقصى ما تستطيعه الطبيعة البشرية الضعيفة». وكان من بين أصدقائه أيضًا “ادوارد جيبون” المؤرخ العظيم، صاحب كتاب “اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها”.

الانطباعات والأفكار

ديفيد هيوم يأتي بعد جون لوك في إطار الاتجاه التجريبي في نظرية المعرفة، غير أنه كان أكثر دقة واحكامًا من لوك. فلقد ذهب بأفكار هذا الأخير إلى نتائجها المنطقية. فهو لا يقتصر على بيان طبيعة الأفكار القائمة في العقل كما قنع لوك بذلك، إنما كان يعنيه من دراسته للأفكار أنْ يتبين الانطباعات الحسية والفكرية التي صدرت هذه الأفكار منها. وكان نقده للأفكار لتحقق من مشروعيتها وموضوعيتها. إذن فما هو البناء الأساسي للمعرفة عند هيوم؟

لقد نظر ديفيد هيوم في مجمل إدراكاتنا «Perception» التي في الذهن فوجدها تنقسم إلى:
أولاً: الانطباعات أو الانفعالات، وهي تنقسم بدورها أيضًا إلى:
1. انطباعات الاحساس.
2. انطباعات التفكير.

ثانيًا: الأفكار أو المعاني، وهي تنقسم كذلك إلى:
1. أفكار الذاكرة.
2. أفكار الخيال.

كان المصطلح الأكثر عمومية عند هيوم بالنسبة لأي مضمون من مضامين الذهن هو “الإدراك”. ويقسم هيوم الإدراك إلى انطباعات وأفكار. والانطباع عنده يطلق على أي احساس أو عاطفة أو انفعال عندما يظهر لأول مرة في الذهن وهناك إما أحاسيس خارجية كالضوء والصوت والحرارة والضغط والروائح والذوق، وإما داخلية كالخدر والجوع واللذة والألم، والإدراك الحسي إحساس مفسر فـ “الضوضاء” إحساس، بيد أنّ “نقرة على الباب” إدراك حسي. والمولود أعمى ليس لديه “فكرة” عن الضوء والصوت؛ لأنه لم يكن لديه احساس بأحدهما. وفكرتا المكان والزمان عنده نابعتان من التجربة. أما الفكرة عنده فهي نسخة باهتة من الانطباع.

ولا تختلف الفكرة البسيطة عن الانطباع البسيط إلا في ظهورها المتأخر. وما دام الأمر كذلك؛ فلا يمكن أنْ تنشأ في العقول أفكار إلا إذا سبقتها آثار حسية، وعليه إذن فالأفكار الحسية هي المرجع الأخير الذي نقيس به صحة الأفكار وحقيقتها؛ فإذا استطعنا أنْ نرجع بالفكرة إلى أصلها الحسي كانت صادقة، وإلا فهي كاذبة؛ فليس لها أصل مما تلقته حواسنا من آثار، ولكن هناك أفكارًا مركبة لا تماثل الآثار الحسية، غير أننا لو حللنا تلك الأفكار المركبة لو جددناها تتكون من عدد من الأفكار البسيطة التي تنشأ من الحواس مباشرة، وعلى ذلك إذن تكون هذه الأفكار المركبة صحيحة.

يقول هيوم إنه إذا قام الدليل على أنّ الآثار الحسية تسبق الأفكار، وعلى استحالة هذه بغير تلك؛ فقد أُجيب على مشكلة الآراء الفطرية التي كثر حولها اللغط والجدل والنزاع؛ إذ ما دامت الأفكار تتبع آثار الحواس، وهذه الأثار الحسية لا تكون بدورها إلا في تجارب الحياة؛ إذن فليس هناك ثمّة أفكار فطرية مفطورة في عقل الإنسان منذ الولادة.

العلاقات بين الأفكار

كان هيوم ينظر إلى أفكاره فيراها دائمة الاتصال والانفصال بعضها ببعض، وقوة الخيال هي التي تقوم بربط هذه الفكرة بهذه أو تلك. يستحيل أنْ تكون المصادفة هي التي تعمل على ربط الأفكار المشتتة التي تصل إلى الذهن؛ بل لابد أنْ يكون هناك أساس لربط هذه الأفكار. فيقول هيوم إنّ لذلك التداعي بين الأفكار أسس ثلاثة:
1. التشابه بين الأفكار المتداعية. (يعرف في علم النفس بالتداعي عن طريق التشابه).
2. مبدأ اتصال الأفكار في الزمان والمكان.
3. ربط العلة بالمعلول.

أما مبدأ التشابه فهو أساس كل العلوم التي تعتمد على البرهان والبداهة، كالحساب والجبر والرياضة بشكل عام؛ لأنّ قضايا الرياضة يدركها العقل بمجرد الفكر دون أنْ يعتمد في ذلك على ما هو موجود في زمان أو مكان، فلو فرضنا مثلاً أنه ليس هناك في الطبيعة كلها لا مربع ولا دائرة. فلا يمنع ذلك الحقائق العقلية التي نثبتها بالدليل أو ندركها بالبداهة عن المربع أو الدائرة، أما العلاقة الزمانية والمكانية فتقوم على أساسها العلوم الطبيعية، وعلى السببي أو العلة بالمعلول كل ما له علاقة بالحوادث التي تقع في تجارب الحياة.

رفض هيوم لفكرة الجوهر

أبعد هيوم تصور الجوهر عن علم النفس كما أبعده بيركلي عن الفيزياء. إذ يقول أنه ليس ثمة انطباع عن “الأنا”، ومن ثمّ ليس ثمة فكرة عن الأنا: «فمن جانبي، عندما أدخل دخولاً حميمًا للغاية فيما أدعوه نفسي، فإنني أتعثر دائمًا عند هذا الإدراك الجزئي أو ذاك، الحرارة أو البرودة، الضوء، الظل، الحب، الكره، الألم اللذة. فأنا لا أمسك بنفسي البتة في أي وقت بدون إدراك، ولا يمكنني أنْ ألاحظ أي شيء ما عدا الإدراك». وينتج من ذلك أنّ ذواتنا أو “الأنا” ليست إلا كومة أو مجموعة من مختلف الإدراكات الحسية التي توحدت معًا بشتى الارتباطات، يعقب بعضها بعض بسرعة فائقة، وتكون في حركة وتدفق مستمر. يشبه هيوم الذهن بمسرح، تتابع في الظهور عليه إدراكات متعددة بصورة متعاقبة، وهذه الإدراكات المتعاقبة وحدها هي التي تؤلف الذهن، هنا يقول “ول ديورانت” أنّ حرية الإرادة في هذه النظرة مستحيلة؛ فليس هناك ذهن يختار بين الأفكار أو الاستجابات، وتعاقب الحالات النفسية يقرره ترتيب الأحاسيس، وترابط الأفكار وتناوب الرغبات. إنّ “الإرادة” ليست سوى فكرة تنساب فتصبح حركة، والهوية الشخصية هي شعور الاستمرار حين تستحضر حالة نفسية حالات سابقة وتربط بينها بفكرة العلة.

السببية عند هيوم

كان ديفيد هيوم قد أشار في مؤلفه “رسالة في الطبيعة البشرية” إلى وجود شيء ما يبعث على القلق فيما يتعلق بمفهوم العلّة والاستدلال السببي.

فما هو مفهوم العلة؟

إذا قلنا أنّ “س” هي علة “ص” فنحن نعني عادة أنّ “س” قد جعلت “ص” تحدث أو نتصور من ذلك أنّ “س” قد أجبرت “ص” على الحدوث حتمًا. ولكن هيوم يشير إلى أننا في الحقيقة البحتة لا نشاهد هذا الإلزام أبدًا. يقول هيوم: «تبدو الحوادث جميعًا منفصلة متفرقة، تتبع الحادثة الأخرى لكننا لا نستطيع أبدًا أنْ نلاحظ أي رابط بينهما؛ فهما تبدوان متلازمتان دون أنْ تكونا مترابطتان». فالعلة عند هيوم ليست سوى فكرة؛ فليس في قدرتنا أنْ نثبت أنها واقع موضوعي. فإذا أدركنا أنّ “أ” أو اللهب مثلاً تعقبه بانتظام “ب” الحرارة، استنتجنا من ذلك أنّ “أ” كانت العلة في “ب”، غير أنّ حقيقة ما لاحظناه هو تعاقب الأحداث لا عملية علية أو سببية حقيقية. فليس بمستطاعنا أنْ نجزم أنّ “ب” ستعقب “أ” دائمًا. فكما يقول هيوم «كل استدلالاتنا العقلية المتصلة بالسبب والنتيجة لا مصدر لها غير العادة»، وليست “قوانين الطبيعة” التي نتحدث عنها إلا تعاقبات مألوفة في تجربتنا لا روابط ثابتة وضرورية في الأحداث، ولا ضمان أنها ستصدق غدًا؛ فالعلم إذن تراكم للاحتمالات المعرضة للتغير دون إنذار، والميتافيزيقا مستحيلة إذا زعمت أنها نسق من الحقائق حول واقع مطلق.

كان هيوم رجلاً تجريبيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فأراد في هذا السياق أنْ يبين أنّ كل مفاهيمنا نابعة من تجاربنا الحسية؛ فكيف يمكن لتصور العلية أو السببية كما ألفناه أن يحتوي على عنصر من الإجبار أو الإحداث لم نختبره مطلقا؟ إذ يبدو لذلك أنّ هذا العنصر الذي لا يقوم على التجربة أو الخبرة عنصرًا لا يمكن أنْ يكون له أي معنى واضح. وأما ما بقي من هذا التصور، وهو الذي يقوم على التجربة والخبرة، هو لذلك جزء واضح وله ما يسوغه. لذلك كان يرى أنّ العلة هي مسألة اقتران ثابت بين “اللهب” و “الحرارة” أو بين الأمور المماثلة لـ “س” والأمور المماثلة لـ “ص”.

كانت النتائج مدمرة بالذات في تناول مشاكل السببية؛ فقد تصور كثير من الفلاسفة أنّ أحداث الطبيعة يمكن تقسيمها إلى أجزاء منفصلة، أنّ هذه بدورها يمكن تجميعها في أزواج بحيث يرتبط كل حدثين بعلاقة السبب والنتيجة.

وعلى هذا الأساس احتج “كانط” بأنّ «غالبية الأسباب التي تعمل في الطبيعة تتزامن مع نتائجها؛ لأنه إذا لم يكن أمام السبب سوى لحظة واحدة قبل أنْ يتوقف فليس بإمكان النتيجة أنْ تنشأ». ويرى “كانط” أنه إذا كان السبب والنتيجة متزامنين في الحقيقة يصبح من الصعب تمييز السبب من النتيجة في أي حدثين مرتبطين.

ومثال آخر لموقف من السببية أحدث، فهناك التعريف الذي اقترحه برتراند راسل: «إذا أعطينا حدثا “ح1” فهناك حدث “ح2” وفترة زمنية “ن”؛ بحيث إنه عندما يظهر “ح1” فإن “ح2” يتبعه بعد فترة “ن”»، إلا أنّ الدراسة العلمية تبين أنه حتى هذا التعريف ليس صحيحًا باعتبار الدقة التي يجب أنْ تتطلع إليها الفلسفة، باستثناء الحالة الوحيدة الخاصة التي يكون فيها “ح1″ هو حالة العالم بأكمله في لحظة من الزمان و”ح2” هو حالته بعد فترة من الزمن “ن”. خذ هذا المثال:
لنفرض أنك أطلقت النار على أحد الطيور وأنه سقط على الأرض، قد يعتبر سقوطه على الأرض كما هو واضح نتيجة، ولكن يجب علينا البحث عن السبب. برغم أنّ قضية “كانط” تؤيد العكس الذي ذكر منذ قليل فإنّ غالبية الناس سيقولون إنه في جذبي لزناد البندقية قبلها، ولكن لا يغرك هذا الكلام، فهذا تبسيط ساذج أو مبالغ فيه للموقف؛ فكما هو واضح، يجب أنْ نضيف إلى جذبي للزناد قيامي من قبل بتعمير البندقية بخرطوشة، قد سبق لشخص ما أنْ وضع فيها مسحوقًا وطلقات في أماكن صحيحة وبمقادير صحيحة، وإني أيضًا صوبت السلاح في الاتجاه الصحيح، وجذبت الزناد في اللحظة الصحيحة، وكل ذلك بعد أنْ عينت بالضبط سرعة واتجاه طيران الطائر، وشدة واتجاه الرياح، وتأثير كل من مقاومة الهواء والجاذبية، ولعل الطلقة أصابت هدفها عندما وجهتها في هذا الاتجاه المعين؛ لأنّ منخفضًا جويًا كان متمركزًا قبلها بثلاثة أيام، وقد تحرك شرقًا وتسبب في رياح جنوبية غربية، وهكذا “إلى ما لا نهاية”. فأي نتيجة ترتبط بأحداث سابقة في سلسلة لا تنتهي من خيوط الأحداث التي تلتقي جميعها عند النتيجة.

الاستدلال السببي

مما سبق يمكننا أنْ نقول أنّ قولنا أنّ “س” هي علة “ص”، لا يمكن أنْ يعني ذلك عند هيوم أنّ “س” قد أحدثت “ص”؛ بل يعني أنّ الأمور المماثلة لـ “س” مقترنة اقترانا ثابتًا بالأمور المماثلة لـ “ص”. أما الآن فهاكم موضوع الاستدلال السببي. فما هو؟

لو قلنا مثلاً إنني حين أستيقظ صباحًا وأجد الطرقات مبللة فأظن أنّ السماء لابد أنْ تكون قد أمطرت أثناء الليل، فإنني أتوصل إلى هذا الاعتقاد عن طريق “الاستدلال” من خلال مشاهدة “الطرقات المبللة ” وما يترتب بسبب ذلك عادة “أنّ المطر يبلل الطرقات”. كذلك فإنني حين أرى السماء ملبدة بالغيوم وأظن أنّ السماء سوف تمطر؛ فإنني أتوصل إلى الاعتقاد “في أمر سيكون مستقبلاً هذه المرة” بالاستدلال بدءًا من مشاهدة أخرى وأمر آخر مترتب سببيًا عن ذلك بصورة مطردة.

وحول استحالة تسويغ الاستقراء هذه يقول هيوم:

«تقوم كل الحجج المحتملة على افتراض وجود هذا التوافق بين الماضي والمستقبل، مما لا يمكن لذلك اثباته أبدًا. وهذا التوافق هو أمر من أمور الواقع، فإنْ كان لابد من إثباته؛ فلا إمكانية لإثباته إلا من خلال التجربة وحدها. ولكن خبرتنا ومعرفتنا بالماضي لا يمكن أنْ يثبت أي شيء يتعلق بالمستقبل إلا على أساس افتراض وجود التماثل بينهما، وهو أمر لا يمكن إثباته أبدًا، ولكننا نقبل به على البديهة دون إثبات».

وعلى هذا الكلام يعلق “كارل بوبر” فيقول:

«كان هيوم فيما شعرت محقًا كل الحق فيما لفت إليه على أنه لا يمكن تسويغ الاستقراء منطقيًا، فقد ذهب إلى أنه لا يمكن أنْ توجد حججًا منطقية صحيحة تسمح لنا أنْ نقرر بأنّ الحالات التي لا خبرة لنا فيها تماثل الحالات التي خبرناها، وبالنتيجة فإنه لا مسوغ لنا للاستدلال على أي شيء إلا ما أتيحت لنا الخبرة فيه، وذلك حتى بعد مشاهدة التوافق المتكرر بين الأشياء أو التوافق الثابت بينهما. وينتج عن ذلك أنْ نقول أنه لا يمكن الاستدلال على النظريات من عبارات المشاهدة، كما لا يمكن تسويغ هذه النظريات منطقيًا».

كان هيوم قد أشار إلى أنّ الاستنتاجات السببية المماثلة لهذه ليست من قبيل الاستنباط، فعندما نفكر في أنّ الشمس قد أشرقت ملايين المرات في الماضي فلابد لذلك من أنْ تشرق غدًا، فإنّ التفكير المنطقي في هذه الحالة مختلف اختلافًا جذريًا عن قولنا إنّ الشمس قد أشرقت ملايين المرات في الماضي، فقد أشرقت لذلك أكثر من ألف مرة في الماضي؛ فالعبارة الأخيرة هنا استنباطية، إذا صحت مقدماتها صحت بالضرورة نتيجتها، غير أنّ المقدمات في العبارة السببية الأولى قد تكون صحيحة، ورغم ذلك قد تكون نتيجتها خاطئة؛ إذ من الممكن ألا تشرق الشمس غدًا، وذلك على الرغم من بيان نموذجها الماضي المطرد في الاشراق. فكما قال “برتراند راسل”:

«فإن الدجاجة التي تفكر في أنّ هذا المزارع الطيب قد كان يطعمني دائمًا في الماضي، ولسوف يطعمني اليوم أيضًا»

قد تصدم صدمة بالغة السوء إذا صادف وقوع عيد الميلاد في هذا اليوم.

سيكولوجيا الاعتقاد وعلاقة الهوية

يُفسر هيوم اعتقادنا في الهوية وفي وجود العالم الخارجي تفسيرًا سيكولوجيًا. أما السبب الذي يجعلنا نعتقد في الحقيقة الموضوعية للانطباعات الحالية بوجه عام هو أنها أكثر وضوحًا من الأفكار. ونحن نقبل أفكارنا الخاصة بالذاكرة بوصفها استعادة حقيقية لانطباعات خبرناها في الماضي. فعندما أعود إلى المنزل من رحلة؛ فإنّ الأشياء التي أراها أو الموضوعات التي أراها من حيث هي انطباعات حالية تجعل أفكارنا الموجودة في الذاكرة عن الأشياء وعن الناس أكثر حيوية.

ويعتقد الإنسان أنّ الأشياء الخارجية تتمتع بوجود دائم، وما هذا إلا من صنع الخيال. ويرجع ذلك أيضًا إلى الوهم الذي أوهمنا بوجود علاقة ضرورية بين السبب والنتيجة.

لكن لماذا نعزو للأشياء وجودًا حقيقيًا حتى ولو لم تكن موجودة، ولماذا نفترض أنّ تلك الأشياء موجودة خارج العقل متميزة عن القوة المدركة؟ يجيب هيوم أنّ الحواس لا تقدم إليّ إلا إدراكًا حاضرًا فقط؛ فأنا مثلاً أرى مكتبي الآن، ثم أخرج من حجرتي وأعود إليها بعد حين فأرى المكتب ثانية، فمن أدراني أنّ هذا المكتب الذي أراه الآن هو نفس المكتب الذي رأيته منذ قليل؟ إنها فقط العادة هي التي تحلمني على هذا الاعتقاد بأنّ مكتبي مستمر الوجود. غير أنني لو حللت الأمر لأيقنت بوضوح ما توحى به بطلان العادة أو على الأقل لشككت في ذلك. لقد جاءني من العالم الخارجي عدة مكاتب، فسارع ذهني إلى توهم أنّ كل هذه المكاتب التي جاءت بها حاسة الإبصار هي في الواقع شيء واحد له وجود مستمر.

كان من نتائج فلسفة هيوم أيضًا القضاء على كل دليل يثبت وجود الله، فهو يقول في كتابه “محاورات عن الديانة الطبيعية”:

«إننا لا نعلم عن العلة شيئًا إلا أنها الحادثة السابقة التي نشاهدها قبل حدوث معلولها؛ إذن فلا بد من مشاهدة الحادثين معًا السابقة واللاحقة على السواء».

إننا نستدل من وجود الساعة على وجود صانعها؛ لأننا رأينا الساعة والصانع كليهما. إذن فوجود الكون لا يدل على وجود صانعه، إلا إذا رأينا الصانع والمصنوع جميعًا. وهنا عارضه شخص يدعى “ريد” بأنّ في الطبيعة علامات كثيرة تدل على أنه يسير وفق خطة معينة، ووجود خطة تقضي بوجود سبب عاقل. فرد هيوم عليه بأنه إذا كان لابد من أنْ نبحث عن علة لكل شيء؛ لوجب إذن أنْ نبحث عن علة للإله نفسه.

وينكر كذلك وقوع معجزات في كتابه “مقالة عن المعجزات” على الرغم من أنه لا ينكر إمكانها؛ لأنّ إمكان وقوع معجزة خارقة نتيجة طبيعية لمذهبه الذي ينفي ضرورة التتابع السببي بين الأشياء والحوادث، فهيوم ينكر وقوع المعجزة رغم جواز ذلك عقلاً، لأنّ التجربة تقول أنّ الكون يسير وفق نظام معين، والعقل أقرب إلى قبول استمرار هذا النظام في الكون منه إلى قبول كسره واضطرابه.

الأخلاق

يرى هيوم أنّ سلوك الإنسان عمل إلى محض، وليس هناك كما قلنا الإرادة الحرة. والدافع الأساسي للإنسان هو اللذة والألم، وبهما نميز بين الخير والشر، وليس العقل هو الذي يوجه أعمال الإنسان؛ لأنّ العقل ملكة نظرية محضة لا شأن لها بالجانب العلمي، وكل أثر العقل هو أنْ يوجه الدافع الذي ينبعث من الشهوة أو الرغبة؛ فهو يبين لنا ما هو حق، غير أنه لا يستطيع أنْ يؤثر في السلوك على نحو معين.

إنّ ما يدفع الإنسان إلى العمل هي المشاعر والعواطف، والمشاعر عنده هادئة وعنيفة، والأولى تشمل الجمال والقبح، والثانية الحب والكره. وما دامت أعمالنا نتيجة العواطف فلا يصح أنْ يكون العقل حكمًا أخلاقيًا، إنما المرجع الذي يحتكم إليه هو غريزة أخلاقية يعتقد هيوم بوجودها عند الإنسان، والفضيلة هي ما يثير في الشخص اللذة، ولقد سبق القول بأنّ الفضيلة هي ما تبعث في النفس الرضى واللذة. ومعنى ذلك أنّ الخير هو ما ينفع، غير أنّ هيوم يحذرنا أنْ نفهم كلمة المنفعة هنا بمعناها الفردي، إنه يعني بها هنا المنفعة العامة.

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي