أنا مازلت ساخرًا
من ضميرٍ له حدود
تارّة كلّه اشتعالٌ
وحينا به جمود
هذه علّة الوجودِ
فهل يُشفى الوجودُ؟ضمير له حدود
إدريس جمّاع
البحث عن الجمال والكمال غايةٌ سعت اليها الكثير من النفوس والأقلام، وكثيرون هم أولئك من تحدثوا عن فلسفة الجمال في الطبيعة الأم وفي الفنون، محاولين ان يطرقوا ابوابه كلها في تمهل علهم يصلون الى أسراره، أو يقفون على روحانيته ومكنونه ومعناه الأصليّ الثابت، مما أخذ الناس لوصف الشاعر الباحث عن الجمال او الباحث عن الدلال المعتّق أنه نموذج جماليّ آسر، كومضة من شروق شمسٍ تبحث عن أفئدة الناس لتخترقها معلنة بداية يومٍ جديد.
بلبل يعشق الخميل بهيجا … انا لا بومة تناجي الخرابا
كلف بالحياة لا لي وحدي … بل لكيما تعم حتى اليبابا
واذا جفّت الحياة من الالحا … ن ليست تهزّني إعجابا
من قصيدته: النضارة لا الجفاف.
أن يغرق أحدهم حتى أعماقه باحثا عن الجمال ودلائله الوضاءة، الجاذبة للنفوس، يعطيك نبذة عن وله الانسان بالكمال وحبه لذلك السعيْ أملا في أن يصل يوما ما، وهو ما يستشفه القارئ من بين ثنايا أبيات شعر إدريس جمّاع، مع كل كلمة يخوض في دهاليز السلاسة والانسيابية والمشاعر المُطلقة، النابعة من قلبه الممتلئ حبا طاغيا للدنيا وخصالا جميلة تتبعثر على الجانبين كشلالات صغيرة قضت عليه في أوج احاسيسه المرهفة، حيث اصطدمت مثاليته وعواطفه بشاطئ الواقع اصطداما عنيفا خلق فجوة بينه وبين العالم الافتراضي، استمرت حتى وفاته متأثرا بتبعيات الاصطدام الفكريّ الحاد.
إدريس جَمَّاع
عندما تصحو الحياة في دمائي فأغني
ينفخ الاحساس مزماري ويسري بين لحني
نغم من كل ما أشتار من أطياف حسن
تلتقي النشوة والفرحة فيه والتمني
من قصيدة: من دمي.
إدريس محمد جَمَّاع، الشاعر السودانيّ الذي تغنّى بالحرية، وكتب للحياة ومحافلها، وتغزّل بكل ما أوتيَ من عنفوان ومخزون شعريّ وشاعريّ، وما منحته إياه سنوات نشأته بأحضان النيل. ولِد جمّاع في حلفاية الملوك بالسودان سنة 1922 وبها توفي عام 1980. نشأ نشأة دينية في كنف أسرته المُحافِظة وذات الشأن الكبير في قومه، حيث كان والده المانجل (شيخ القبيلة) محمد جمّاع بن الأمين بن الشيخ ناصر شيخ قبيلة العبدلاب.{1}
بدأ إدريس تعليمه في سن مبكرة في خلوة حلفاية الملوك حيث حفظ القرآن الكريم ثم التحق بمدرسة حلفاية الملوك الأولية في عام 1930، ومنها إلى مدرسة أم درمان الوسطى بمدينة أم درمان في عام 1934م ولكنه لم يكمل الدراسة فيها لظروف مالية، والتحق في عام 1946 بكلية المعلمين ببخت الرضا، ثم هاجر إلى مصر عام 1947 ليدرس في معهد المعلمين بالزيتون، فكلية دار العلوم – جامعة القاهرة لاحقاً والتي تَخرَّج منها عام 1951م حائزاً على درجة الليسانس في اللغة العربية وآدابها والدراسات الإسلامية، ثم التحق بمعهد التربية للمعلمين ونال دبلوم التربية عام 1952م.{1}
عمل معلماً بالمدارس الأولية 1942 – 1947، وبعد رجوعه من مصر عام 1952 عين معلماً بمعهد التربية في «شندي»، ثم معهد «بخت الرضا»، وبعد ذلك بالمدارس الوسطى والثانوية عام 1956.
له العديد من القصائد المشهورة والتي تغنّى ببعضها بعض المطربين السودانييّن وأُدرج بعضها الآخر في مناهج التربية والتعليم المتعلقة بتدريس آداب اللغة العربية في السودان (جمع أشعاره بعض أصدقائه وأقاربه لأنّه لم يتمكن من ذلك بسبب ظروفه الصحيّة).{1}
ذُكِرَ أنه كان قليل الاقتراب من الناس، محبا للخلوة، يشغل نفسه بأفكار خاصة يصعب الوصول إليها إلا عن طريق شعره. وكان وافر المجاملة متميزاً بحبه للناس جميعاً، وكان لكثرة طيبته إذا مر عليه أحد تلاميذه وسلم عليه، وصادف في ذلك الوقت أنه كان يتناول إفْطَارهُ رد السلام بأفضل رد ثم رفع يده إلى صدره كعادة السودانيين دون أن يلاحظ آثار الطعام على كفه فتتسخ ثيابه وتتكرر هذه المسألة معه في كل يوم.
وعلى الرغم مما يحدث فإن قلبه أبيض كما يقولون، وهو حاد الذكاء، عبقري منذ طفولته. وعندما كان صغيرا فإنه كان يبتدع لأصحابه الصغار ألعاباً يشاركهم في اللعب بها، وينشد لهم أناشيد ينظمها لهم فيدخل السرور إلى قلوبهم، ويجلب مَحَبَّتُهُمْ له.{5}
بجانب شاعريته كان ادريس جماع رساماً بارعاً وفناناً تشكيلياً ومن هواياته الرسم، وقد صمم غلاف ديوانه بنفسه، وأثناء عمله بمدرسة الخرطوم الثانوية كان في قمة تألقه. وقد أحب الجمال بصورة مطلقة ولم يعرف عنه تعلق بمحبوبة بعينها. وكان اجتماعياً ومحبوباً وسط أهله بدليل أنه كان أول رئيس لنادي الحلفاية وكان رئيس الجمعية الثقافية، وأجمع العبدلاب على أن يكون مانجل القبيلة في احتفال بعد وفاة والده، وكان اجتماعياً عذب الحديث يخالط الناس في أفراحهم وأتراحهم.. ولكن فجأة وبدون مقدمات أخذ تنتابه بعض حالات الاكتئاب ولذلك نقل نائباً لناظر مدرسة بحري الوسطى تخفيفاً للأعباء عليه.
ظل بقية حياته حتى وفاته في عام 1980م هادئ الطبع نظيف الثياب يعيش وسط إخوانه بحلفاية الملوك، وكان متقد الذاكرة ولكن بين الفينة والأخرى كان يذهب لمستشفى وكان يهيم في وادي عبقر.
ما وراء الحكاية: أبلغ بيت غزل في العصر الحديث:
حكاية بلا اسناد قويّ، تناقلتها الصحف وتحدث عنها كتاب كُثُر، حكاية عالَم نقيّ للدرجة التي تُشف الروح عندها، فكأنما المارّ يرى فؤاد الانسان وما يضطرب بداخله، وما يغلي فيه من مشاعر وترانيم وأشواق في قوسها على أهبة الاستعداد، كما وتكشف الحكاية موهبة غريبة، عن شاعر تملكته المثالية وتشبعت روحه حتى صفَت، وأخذت بيد صاحبها هرولة الى حافة الكون وأعادته ثانية الى سريره في ثوان، ليصرخ ذاهلا بما أُطلِق عليه أبلغ بيت غزل في العصر الحديث.{2}
كان الشاعر يُعَالَجُ في لندن بأحد مستشفياتها ذات الاختصاص بمرضه، وكانت الممرضة المسؤولة عن حالته جميلة العينين مبهرة، فكانت إذا دخلت إلى غرفته وجدته ينظر في عينيها نظرات غريبة لا تفهمها، فذهبت إلى مدير المستشفى، تشكو إليه ما تلاقي من هذا المريض فنصحها أولا بالصبر، وثانياً بوضع نظارة تخفي عينيها عن بصره، ونفذت الممرضة ما قاله المدير، وفوجئ إدريس جمَّاع بها وقد غطت عينيها الساحرتين فقال:
والسيفُ في الغمدِ لا تُخشى مضاربُهُ
وسيف عينيكِ في الحاليْن بتَّارُ
ويُقال إنها استمعت بعد ذلك إلى ترجمة لهذا البيت، وعرفت أن مريضها التي تتابع حالته شاعر جيد فأخذت تبكي بكاءً شديداً أسفاً على حالته.{2}
أعمال إدريس جمّاع الأدبيّة
يصنف ادريس جمّاع نفسه في مقدمةٍ استخدمت في مستهل ديوانه، ويُعطي تلميحا عمّا يختلج بصدره، ويفتح كتابا مصغرا يستطيع القارئ ان ينفذ منه الى أقصى بقاع قلبه.
ويقول:
“ان اتجاهي في الشعر، ولا أقول مذهبي، يحترم الواقع ولكنه يريد له الاطار الفني، ولا يضن عليه بالنظرة الجمالية. ويساهم في دفع الحياة الى الأمام، ولا يجرد الشعر من أجنحته، ولكنه يأبى التحليق في أودية المجهول ومتاهات الاوهام. ويحب الجديد لا لأنه جديد ولكن للخلق والابتكار. ويحب الانسان وينفعل للطبيعة. وليس هو رد فعل لاتجاه او تأكيدا لآخر.”{1}
شِعر جمّاع يقع في إطار الشعر التراثي والديواني العربي. فجمّاع شاعر من المَدرسة العربيّة الابتدائية وهو من روَّاد التجديد الشعري في العالم العربي ومن شعراء مدرسة الديوان على وجه الخصوص ضمن مجموعة عبد الرحمن شكري والعقاد وإبراهيم المازني.
نعى ادريس جمّاع والده في قصيدة لوعة متجددة، والتي كتب على هامش وصفها:
في رثاء خالد الذِّكر الشيخ محمد جمّاع
نعتك أبي دار تخطفها الردى
وكنت لنبع من سعادتها عمرا
سرت وحشة منا لفقدك لم تدع
صديقا ولا دارا ولا منبتا نضرا
وفي كل ما يبدو لنفسي وما أرى
وأسمع من حولي بواعث للذكرى
وكنت حياة للذين عرفتهم
ومازلت تحيا في نفوسهم الحرى
يغلب على موضوع شعره التأمل والحب والجمال والحكمة كما كتب أشعارا وطنية مناهضة للإستعمار. ويتسم أُسلوب شعره برقة الألفاظ والوصف فائق الخيال وكثيرا ما يعبر في شِعره عن وِجدانه وتجاربه العاطفية ووجدان أمته، واصفاً تلك المشاعر الإنسانية فرحاً، وألما، وحزناً، كما يزخر شعره بوصف ثورة الثائر الوطني الغيور على حرية وطنه وكرامة أمته.{4}
هنا صوت يناديني
نعم لبيك أوطاني
دمي وعزمي وصدري
كله أضواء ايمان
سأرفع راية المجد
وأبني خير بنيان
هنا صوت يناديني
تقدم أنت سوداني
*
سأمشي رافعا رأسي
بأرض النيل والطهر
ومن تقديس أوطاني
وحب في دمي يجري
ومن ذكرى كفاح الأمس من أيامه الغر
سأجعل للعُلا زادي
وأقضي رحلة العمر
هنا صوت يناديني
تقدم أنت سوداني
من قصيدة: نشيد قوميّ.
ومن قصيدته: صوت الجزائر:
يهتز وقعك في المشاعر … يا صوت احرار الجزائر
لحن اذا مس الشعو … ر فكل من في الأرض شاعر
صوت تجمع في انبعا … ث دويه صوت الضمائر
قصيدته “أنتِ السّماء”: وتلك التي أطلق افتتاحيتها حين كان في مطار لندن ذاهباً من أجل العلاج، وكان علاجه المطلوب هو الذي كان من المنتظر أن يشفيه من علته، وهي سقم العقل حين أَلمَّ به، وعلى الرغم من حالته تلك فإن الشعر لم يكن يتركه.
وفي الحكاية، يروى أنه في المطار رأى امرأة فائقة الجمال، ترافق زوجها، فأطال الشاعر النظر إليها في انبهار، وكان الزوج يحاول أن يسترها عنه، منعاً لنظراته، فأنشد في تلك الحالة {2}{3}:
أعلى الجمال تغار منّا
ماذا عليك إذا نظرنا
هي نظرة تُنسي الوقار
وتُسعد القلب المعنّى
دنياي انت وفرحتي
ومُنى الفؤادُ إذا تمنّى
أنتِ السماءُ بدت لنا
واستعصمت بالبعد عنّا
هلا رحمت متيمًا
عصفت به الاشواق وهنا
وهفت به الذكرى
وطاف مع الدُّجى مغنا فمغنا
وهذه القصيدة التي قيل عنها أن الأديب عباس محمود العقاد عند سماعه القصيدة سأل عن قائلها، فقالوا له: إنه الشاعر السوداني إدريس جمَّاع، وهو الآن في مستشفى المجانين.
فقال: هذا مكانه لأن هذا الكلام لا يستطيعه ذوو الفكر.{2}
- غناها المطرب السوداني الشهير سيد خليفة ضمن ما غنَّى من قصائد الشاعر.
كما تضاربت الاقوال عنه –مع رفض اسرته ذكر هذه الواقعة وانكارهم حدوثها- انه وصل لحاله هذه نتيجة عشقه، واتفق معها على الزواج، ولكنه بعد هذا الاتفاق سافر إلى مصر من أجل الدراسة كما ذكرنا آنفاً، حيث امضى المدة من سنة 1947م إلى سنة 1951م هناك، ولم تستطع الفتاة أن تنتظر كل هذه المدة، وتزوجت، وعندما عاد من غيبته لم يستطع أن يتحمل ذلك الذي حدث فقد أثر موقف الفتاة في نفسه، وأتلف أعصابه وأودى به إلى الجنون.
ولم تذكر أسرة الشاعر هذا السبب على أنه هو الذي أدّىَ به إلى فقد عقله، ولكن النقاد الذين كان بعضهم يعرفه شخصياً هم الذين قالوا ذلك وقد استدلوا عليه بقصيدة قالها في بداية أزمته بعنوان “ربيع الجنة” قيل إنه كان ينشدها لها، ومنها قوله:
في ربيع العمر كنا … نتساقى ونُغَنِّي
نتناجَى ونناجي الطير … من غُصنٍ لغُصن
ثم ضاع الأمس مني … وانطوى في القلب حسرة
إننا طيفان في ماء سماوي سرينا
واعتصرنا نشوة العمر ولكن ما ارتوينا
إنه الحبُّ فلا تسأل ولا تعتب علينا
كانت الجنة مسرانا فضاعت من يدينا
ثم ضاع الأمس منِّا وانطوت في القَلْبِ حَسْرة{5}
والقصيدة طويلة ملآى بالحسرات على ما فات، والأسف على الأمل الذي خاب، ولم يتحقق له.
من قصيدة أنتَ انسان:
أنت انسان بحق وانا
بين قلبينا من الحب سنى
*
كلَّ يـومٍ صـورٌ عبرَ الطريــــــــــــــــقْ
تزحـم النفسَ بـهـا ثُمَّ تفـيـــــــــــــقْ
لـيس مـا هـزّكَ حِسّاً عــــــــــــــــابراً
إنه فـي الصدر إحسـاسٌ عـمـيــــــــــــق
هـو إنسـانـيّةٌ قـد وصلـــــــــــــــــتْ
كلَّ نفسٍ بكَ فـي ربطٍ وثـيــــــــــــــــق
من قصيدة لقاء القاهرة:
غدًا نلتقي وغدًا أجتلى .. مباهجَ من حُسنكِ الشاعري
وأُصغي فأسمع لحنَ الحياةِ .. في الروض في فرحة الزائر
وفي ضجّة الحيِّ في زحمة الطَّــ .. ــــريقِ وفي المركب العابر
وفي القمر المستضامِ الوحيدِ .. تُخطّئه لمحةُ الناظر
تطالعني بين سحر الجديدِ .. تهاويلُ من أمسكِ الغابر
وتبدو خلاصةُ هذا الوجودِ .. من عهد «مينا» إلى الحاضر
وقصيدته “وحشة الليل”: من آخر قصائده، والتي كان يحاول ان يتذكر أبياتها وما مر به وهو في المستشفى، حتى أنه كان ينسى بعض قصائده مع حرصه الدائم على ترديدها أثناء محنته:
ماله أيقظ الشجون فقاست
وحشة الليل واستثار الخيالاماله في مواكب الليل يمشى
ويناجى اشباحه والظلالاهين تستخفه بسمة الطفل
قوي يصارع الاجيالاحاسر الرأس عند كل جمال
مستشف من كل شيء جمالاماجن حطم القيود وصوفي
قضى العمر نشوة وابتهالاخلقت طينة الأسى وغشتها
نار وجد فأصبحت صلصالاثم صاح القضاء كونى فكانت
طينة البؤس شاعراً مثالايتغنى مع الرياح اذا غنت
فيشجى خميله والتلالاصاغ من كل ربوة منبراً يسكب
في سمعه الشجون الطوالاهو طفل شاد الرمال قصورا
هي آماله ودك الرمالاكالعود ينفح العطر للناس
ويفنى تحرقاً واشتعالا
ومن قصيدته الرائعة رحلة النيل:
النِّيلُ مِن نَشْوةِ الصَّهْبَاءِ سَلْسَلُهُ
وسَاكِنُو النّيلِ سُمَّارٌ ونُدْمَانُوخَفْقَةُ الموجِ أشجانٌ تُجَاوبُها
منَ القلوبِ التفاتاتٌ وأشْجانُكلّ الحياة ربيع مشرق نضر
في جانبيه وكلّ العمر ريعانتمشي الأصائل في واديه حالمة
يحفها موكب بالعطر ريانوللخمائل شدو في جوانبه
له صدى في رحاب النّفس رنانإذا العنادل حيا النيل صادحها
والليل ساج فصمت الليل آذانحتى إذا ابتسم الفجر النضير
لها وباكرته أهازيج وألحانتحدر النور من آفاقه طرباً
واستقبلته الروابي وهو نشوان
ومن قصيدة “صوت من وراء القضبان”: (أجمع نقّاد انها آخر قصيدة لإدريس جمّاع)
يقلبني الفراش على عذاب
يهز أساه كل ضمير حرتطـالعـنـي العـيـونُ ولا تـراني
فشخـصـي غـيّرتْه سنـيـنُ أسرييصـمّ صلـيلُ هـذا القـيـدِ سمعي
وفـي الأغلال وجـداني وفكريوأيـن الأمـنُ حتى مـن حـيـاتي
فقـد فـنـيـتْ ومـا خطبي بسِرّوتسلـبنـي الكرى إلا لـمـاماً
يـدٌ مـن حيث لا أدري وأدري**
وفـي جنـبـيَّ إنسانٌ وروحٌ
وحـبُّ النـاسِ فـي جنـبـيَّ يسريوقـاكِ اللهُ شـرّاً يـا بلادي
سـرتْ نـيرانُه لـحصـاد عـمرييـنـازعـنـي الـحـيـاةَ وفـي ضلـوعي
هـوًى ضجّتْ بـه خـفقاتُ صدريوأيـامـي تَسـاقط مـن حـيـاتي
كأوراقٍ ذوتْ والريحُ تذريتَطـامـنَ دوحُهـا وهوى مُكِبّاً
وأجفلَ عـنه تـيّارٌ بنهروهُدِّمَ مؤنسُ الأعـشـاشِ فـيه
فلـم تهـزج له أنغامُ طيرولستَ تـرى حـوالـيه رُواءً
ولكـنْ وحشةً وذبـولَ زهريغالـب محنـتـي أملٌ مُشِعٌّ
وتحـيـا فـي دمـي عَزَماتُ حُرّ
قالوا عن إدريس جمّاع
“إنّ أهمّ ما يميّز الشاعر جمّاع هو إحساسه الدافق بالإنسانية وشعوره بالناس من حوله ولا شك في أن هذه نغمة جديدة في الشعر السوداني”
الدكتور عبده بدوي في كتابه «الشعر الحديث في السودان»
“لقد كان شعر جمّاع تعبيراً أصيلاً على شفافيته الفائقة والتي رسمت لنا الكلمات وأبرزت بجلاء حسه الوطني”
الدكتور عون الشريف قاسم
وفاة إدريس جمّاع
كان جمّاع تائه بشعره الاشعث متجولاً في سوق الخرطوم لا يحدث أحداً، متسارعا في خطاه كأنما كان يبحث عن شيء ضائع، في ذلك الزمن في سنوات الستينيات كتب العديد من الأدباء والشعراء مطالبين حكومة الرئيس إبراهيم عبود التي اهتمت يومذاك بالفن والشعر بأن ترسل جماع للعلاج في الخارج (بعد معاناة مع مرض نفسي أقعده طويلاً بمستشفى الأمراض العصبيّة)، و أُرسل جماع إلى لبنان، وعاد مرة أخرى إلى السودان، ولكن لم تتحسن حالته الصحية إلى ان توفاه الله وانطفأ عوده المعطّر في 1980.{6}
“كان الشاعر جمّاع قد أُرسل للعلاج في بيروت لاستعادة قواه ولرجوعه الى عالمنا، وكنت قد أحببت أن يظل في دنياه التي اختارها لأنه لا يُحسن الصفات التي يتصف بها العقلاء فتوجهت اليه لأخبره بمشقة الرجوع وما يلقاه الراجع من اضطراب بين الحقيقة والخيال.”
منير صالح عبد القادر 1973
«طارد البؤس إدريس جمّاع حيًا وميتًا؛ حتى أصبح الرائحَ، والغادي ينشدُ له أشهرَ أبياتِ البؤس»
ياسر غريب
كاتب
الإنتاج الشعري لإدريس جمّاع
له ديوانٌ واحدٌ بعنوانِ «لحظات باقية»، وطُبِعَ ثلاثَ مراتٍ: بالقاهرة -بتحقيق منير صالح عبدالقادر، وأبو ظبي عام 1984، ودار البلدية بالخرطوم 1998.{1}
_________________________
مثّل الشاعر السودانيّ إدريس جمّاع حلقة الوصل بين قمة التفكّر والتيه، وأقوى تمثيل واقعيّ عن ذلك الخط الرفيع بين العبقرية والجنون، كلها كانت في شخصه وعواطفه، حتى انه تعرض للسخرية والمضايقات بسبب مثاليته ومشاعره الرقيقة الحالمة، التي لم يستطع بها بمواجهة العالم الغريب من حوله.
من أودع الأنفس سر الحياة … وقال عيشي وأحبي الجمال
من قصيدة: جمال الحياة،
والتي كتب على هامشها: (النظرة الجمالية للحياة فلسفة ورسالة).
نحن ندين له بالحب والسلام النفسيّ والبحث الدائم عن الجمال في كل ما تقع عليه أعيننا، ندين له باعتذارات لا حصر لها.
إذا مت لا تحزني إنني … تراب يعود الى بعضه
لقد جعلتني ليالي العذا … ب ألذ الممات على بغضه
وما كان عيشي هنيئا فاذ … كر ما كان بالأمس من غضّه
ولكن في النفس معنى الرجو … لة يحتمل المرء من محضه
وفلسفتي في الظلام الكثيـ … ـف ترى لمحة من سنى ومضه
من قصيدة: ظلمات وشعاع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولقراءة أكثر تعمّقا:
- عبدالقادر الشيخ إدريس: جَمّاع: حياته وشعره – رسالة دكتوراه من جامعة الخرطوم.
- محمد حجاز مدثر: جمّاع قيثارة الإنسانية. (الشاعر السوداني، إدريس جماع، حياته وشعره، الدار السودانية للكتب، الخرطوم).
- تحقيق الكاتب فاروق حوّاس عن الشاعر ادريس جمّاع.