يبدو الاقتصاد وكأنه فكرة اخترعها البشر، حيث التعامل مع اختيارات رشيدة يقوم بها أفراد عقلاء، يفاضلون بين المكسب والخسارة ضمن كل عملية مبادلة يقومون بها. إلا أنه قد اتضح أن أفكار الاقتصاد لا تنطبق فقط في مملكة الحيوان، بل الأدهى انها منتشرة وليست حتى مجرد استثناءات.
نظرية السوق الأحيائي
هناك نظرية غريبة وشهيرة في عالم البحث العلمي تسمى نظرية السوق الاحيائي (Biological Market Theory). الفكرة طرحها رونالد نويّْ (Ronald Noe) وبيتر هامرشتاين (Peter Hammerstein) عام 1994 في ورقة نشرت في مجلة (Behavioral Ecology and Sociobiology). وقد جاوبت على سؤال طالما أرق علماء الاحياء السلوكية لعقود طويلة: إذا كانت الداروينية تدور حول بقاء الاصلح، فلماذا إذا تتعاون الحيوانات البرية؟ كانت الإجابة هي; علم الاقتصاد.
ظلت الأبحاث السابقة تركز بشكل كبير على نظرية الألعاب في تحليلها لتفاعلات الحيوانات ومحاولة فهم كيفية عمل السوق الإحيائي، أو بمعني أخر كيف يستخدم الأفراد استراتيجيات مختلفة لتحقيق أقصى منفعة شخصية ممكنة. وتعتبر معضلة السجينين (The Prisoners’ Dilemma) أشهر مثال علي ذلك؛ حيث تدور فكرتها حول اثنين من المشتبه بهم في جريمة قتل يتم استجوابهم في غرف منفصلة. ويجب عليهم أن يقرروا بشكل منفصل أما أن يعترفوا بالجريمة أو ينكروها حتى ينالوا أقل عقاب ممكن.
إلا أن رونالد نويّْ قد لاحظ أن الحيوانات لا تظل مرتبطة في تعاملاتها مع شريك واحد فقط، بل تستطيع أن (تتسوق) شريك مناسب على حد تعبيره. فلو وُجد أن الشريك قد غش أو كذب أو استولى على أكثر من اللازم، يمكنهم دائمًا الانتقال إلى شريك أفضل. مما سبق نستنتج أن التعاملات في مملكة الحيوان لا تقوم على «معضلة السجينين»، بل تتم في نظام أشبه بالسوق، والسوق دائمًا ما يخضع لقوانين العرض والطلب.
دبور الورق
تبلورت الفكرة بشكل علمي تطبيقي في ورقة نشرت عام 2017 في مجلة (Nature Communications)، حيث ناقشت سلوك أنثى حشرة دبور الورق (Paper Wasp) والتي تتصرف كصاحب أملاك يعرضها للإيجار للاستفادة منها. حيث نجد تلك الحشرة تقوم بالسماح للدبابير المُساعدة بأن تسكن معها في نفس العش، في مقابل أن تعتني تلك المساعدات بصغارها. وبما أن الدبابير المُساعدة لديها حرية اختيار الأعشاش، لذا فقد وجد أنها تختار الاعشاش التي تتطلب أقل كمية عمل. وقد حاول الباحثون زيادة الاثارة في التجربة بإضافة المزيد من أعشاش دبور الورق، فكانت النتيجة أن الإناث مُلاك الأعشاش قد قبلوا بكميات عمل أقل من الدبابير المساعدة. وتحقق المبدأ الاقتصادي القديم؛ «أغرق السوق، فتنخفض الأسعار».
سمك الراس المنظف
أيضًا وجد تلميذ نويّْ، ريدوان بشاري (Redouan Bshary) أن قوى السوق تظل فعالة حتى في أعماق المحيط. حيث أن «سمك الراس المنظف» (Cleaner Wrasse fish) أو كما يلقب «بعامل النظافة الصغير» يقوم بأكل الجلد الميت والطفيليات العالقة بالأسماك الأخرى، ولكنه لا يفعلها فقط وقت أن يشعر بالجوع، بل يفعلها بشكل نظامي مذهل. حيث تسكن السمكة في جزء من الشعاب المرجانية تستخدمها كمحطة نظافة، وتقوم الأسماك الأخرى بزيارة المحطة من حين لآخر حينما تشعرن برغبة في بعض اللمعان والبريق.
كلا الفريقين في تلك المبادلة لديهم اختيار؛ فلسمكة الراس أن تختار مدي خشونة أو لين عملية التنظيف، والمدة الزمنية التي يجب أن ينتظرها بقية العملاء. أما اختيار بقية الأسماك فيتعلق بأن لهم الحق دائما في زيارة محطة تنظيف اخري.
وقد لاحظ بشاري أن عملاء محطة التنظيف نوعين؛ النوع الأول يعيش حول المحطة ولا يستطيع الذهاب بعيدًا عنها لإجراء عمليات التنظيف. أما النوع الثاني فكان يتحرك بحرية في أماكن كثيرة ولديه القدرة على زيارة محطات أخرى. وكما يتنبأ السوق في تلك الحالات؛ فإن الأسماك التي تستطيع الذهاب لأماكن أخرى تحصل على تنظيف لطيف والخدمة بصورة أسرع. أما الأسماك المحلية التي تعيش حول المحطة تتلقى تنظيف خشن، بالإضافة الي فترات الانتظار التي تطول. والآن لنفكر مرة أخرى، أليس هذا ما تختبره حينما تصبح زبونًا للمكان؟!
خلاصة القول هي أن قوى السوق تلعب دورًا في سلوك كل شيء، سواء الرئيسيات أو الطيور أو النباتات أو حتى الحشرات. لذا فإنه من الملائم هنا أن نتذكر أن التصرف طبقًا للمصلحة الشخصية لا يكون بشكل اناني دائمًا، بل يجب التعاون في أحيان كثيرة حتى نحصل على أفضل النتائج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إعداد: صموئيل صفوت
مراجعة: عبدالله أمين
المصادر:
4- Market forces influence helping behavior in cooperatively breeding paper wasps.