الأمراض العقلية (البدايات)

f5

 

مقدمة

 

عندما يصبح الجهل منهجًا، وعندما تفقد النفس البشرية إيمانها بجدوى العلم، وعندما يصدق الناس الزائف من العلوم، وعندما ترى رجلًا يكتسب مصداقيته من مدى عمق خرافاته وارتباطها بمعتقد من يسمعونه؛ لا تتعجب حينئذ عندما ترى هذه الجموع محتشدة أمام مقار الدجالين والمشعوذين طالبين الدواء الشافي لأمراضهم، ظنًا منهم أن مرضهم هو نتيجة عين حاسدة أو جن لعوب أو سحر أسود! لا تتعجب حين ترى الإعلاميين يتاجرون بمثل هذه الخرافات فيخرجون علينا بتمثيلية بطولتها عدد من الإناث وشيخٌ يدّعي أنه قادر على طرد الجان!

 

من منا لم يتعرض في حياته لمثل هذه المواقف؟ من منا لم يسمع أن فلانًا يريد أن يذهب أو ذهب بالفعل للعرّاف أو الشيخ أو القسيس ليشفيه من الصرع أو ماشابه؟ أكتُب هذه المقالة بعدما رأيت من حولي من المتعلمين الحاصلين على شهادات جامعية يلجؤون إلى العرافين طلبًا للشفاء! فكما تفننت مجتمعاتنا في إلقاء أسباب فشلها على المؤامرات الخارجية؛ فإنها لا تتوانَ لحظةً واحدة بأن تُرجِع أسباب مرضها إلى الجان، وهذه هي حال العقول التي جف فيها بئر العلم.

سأتناول في السطور القليلة القادمة تاريخ الأمراض العقلية، وكيف كان الناس ينظرون إليها؟ وما تفسيرهم لها؟ وكيف حاولوا علاجها؟ ثم سأتطرق سريعًا إلى النظريات العلمية التي تحاول تفسير هذه الأمراض، وسأترك لكم حق الاختيار بين العلم والخرافة.

 

رحلة تاريخية

 

كان الاعتقاد السائد منذ قديم الأزل عن الاضطرابات العقلية أنها ترجع إلى غضبِ قوىً عُليا تتمثلُ في ربٍّ غاضب أو شيطانٍ لعين أو عينٍ شريرة أو ربما بسبب السحر والشعوذة، ونجد أن أولى المحاولات لعلاج الاضطرابات العقلية يرجع عمرها إلى حوالي (5000) عام قبل الميلاد، وتم الاستدلال على ذلك من خلال البقايا العظمية للجماجم المثقوبة؛ حيث ساد اعتقادٌ أن عمليّة ثَقبَ الجمجمة يُساعد على خروج الروح الشريرة والشياطين من الجسد، وفي الحقيقة؛ كانت بعض هذه الحالات تنجو وتعيش لبضعِ سنينَ، وقد استُدِلَّ على ذلك من خلال التئام مواضع ثقب الجمجمة، والجدير بالذكر أن أولى دلالات ثقب الجمجمة تعود إلى العصر الحجري الحديث.

 

وكان الأطباء من الكهنة في بلاد ما بين النهرين يلجؤون إلى ممارساتٍ وطقوس سحرية دينية اعتقادًا منهم أن الخلل العقلي إنما سببه اللبس الشيطاني فكانوا يقومون بالصلاة أو التعاويذ أو طرد الأرواح أو حتى بمناشدة الروح للخروج من الجسد وغيرها من الطرق التي تؤدي -حسب اعتقادهم- إلى خروج الروح الشريرة وشفاء المريض.

 

وكان اليهود يعتقدون أن الاضطراب العقلي إنما هو انعكاسٌ لغضبِ الربّ بسبب ارتكاب الذنوب والمعاصي، فكان المرض إما نتيجة مباشرة لغضب الرب أو نتيجة تأثير من الشياطين على الفرد المغضوب عليه من الربّ، إلا أنهم أيضًا كانوا يعتقدون أن الله هو الشافي من كل داء، وقد كان الأطباء اليهود هم في الأساس كهنة لديهم طرقهم الخاصة لمناشدة القوى العليا أن ترفع غضبها عن المرضى. وأما الفُرس؛ فكانوا يعتقدون أن المرض العقلي يرجع إلى الشياطين وأنه يمكن الوقاية من هذا الاضطراب من خلال عمل الصالحات والحفاظ على الفكر نقيًا والبعد عن الآثام وكذلك النظافة الشخصية.

 

وأما المصريون القدماء؛ فكانت لهم نظرتهم الخاصة للمرض العقلي وخصوصًا أنهم اشتهروا بتقدُّمهم في مجال الطب، وهذا ما دلت عليه برديّتان تعودان إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد هما: بردية إدوين سميث (Edwin Smith papyrus) وبردية إيبرز (Ebers papyrus) والتي احتوت على طرقٍ علاجية للجروح، وعلى ما يبدو أنهم اعتبروا أن الدماغ هو مركز الوظائف العقلية، وقد لجأ المصريون القدماء إلى الموسيقى والرقص وحضور الحفلات الغنائية كطرقٍ للتخفيف من حدة الأعراض المرتبطة بالاضطرابات العقلية، إلا أنه وبالرغم من هذا التقدم الطبي الملحوظ؛ فإن البرديتين قد أشارتا إلى استخدام السحر والتعاويذ في علاج الأمراض العقلية مجهولة المصدر.

 

لوحِظَ حدوث تغير في الآراء حول منشأ الاضطرابات العقلية في الفترة ما بين القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد، فهذا الطبيب اليوناني هيبوقراط (أبو قراط) قد أنكر الاعتقاد السائد بوجود قوى خارقة للطبيعة مسببة للاضطرابات العقلية، ويقول أن السبب في الاضطرابات العقلية هو خلل طبيعي داخل الإنسان وخصوصًا في الدماغ بسبب اختلال التوازن بين أربعة سوائل في الجسم وهي: الدم، والبلغم، والمرارة الصفراء، والمرارة السوداء، وقد أيّده فيما بعد في هذا الرأي الطبيب الروماني (جالين).

 

هذا وكانت العلاجات التي يتم صنعها لعلاج الاضطرابات العقلية خلال العصور الوسطى تستهدف إعادة التوازن بين هذه السوائل الأربعة، فكان يتم استخدام المُليّنات والمواد المسببة للقيء وكذلك تم استخدام العلق لامتصاص السائل الفاسد إلى جانب الحُجامة، ولجؤوا كذلك إلى نزف الدم للتخلص من السائل الفاسد الذي يصل للمخ، كما أنهم لم يغفلوا عن الأطعمة كوسيلة علاجية فحبذوا تناول أطعمة بعينها ومنعوا تناول أصناف أخرى.

 

وفي نهايات القرن التاسع عشر؛ ظهر من نَفَخَ في علم النفس روح التطوير والتجديد، فكان حامل هذه الشعلة هو الطبيب (سيجموند فرويد) الذي وضع أُسس التحليل النفسي وكانت استراتيجيته تتمثل فيما يسمى (العلاج بالكلام – Talk therapy) حيث كان يعتقد فرويد بأن الأفكار والأحلام والعواطف هي مدخل مهم للنفس البشرية ويمكن من خلال تفسير الأحلام على أُسس نفسية التوصل لسبب العلة.

وفي النصف الأول من القرن العشرين؛ حدث تطور هائل في مجال الأدوية التي تستهدف علاج الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والهوس والذهان، وتوصلت العديد من الدراسات إلى أن العديد من المرضى الذين يعانون من الاكتئاب أبدوا استجابة إيجابية عند تعاطي الأدوية التي ترفع من مستويات النورأدرينالين والسيروتونين وهي من النواقل العصبية في الجهاز العصبي، وكذلك وجدوا أن الأدوية التي تعمل على تعطيل عمل الدوبامين (ناقل عصبي) تحسن من حالة المرضى المصابين بالهلوسات وجنون العظمة ومن هنا يتضح الدور الكيميائي الحيوي الذي يمكن أن تلعبه النواقل العصبية في إحداث الأمراض النفسية.

 

تناولنا حتى الآن فقط تاريخ التعامل مع الأمراض العقلية ونظرة القدماء لها والمحدثين، وسنتناول تاليًا بإيجاز النظريات الموضوعة لتفسير الأمراض العقلية، وهل هي نتيجة اختلال في توازن كيمياء المخ أم نتيجة خلل جيني تتوارثه الأجيال؟ وهل تلعب العوامل البيئية دورًا؟ وهل التوتر له يد في هذه الجريمة؟ فلنتابع

 

أولًا: الجينات

 

نعم للجينات دورها البارز في إحداث الخلل العقلي والنفسي ولكن هل هذا السبب هو المسؤول الوحيد؟!

 

عند دراسة الشيزوفرينيا نجد أن الجينات لها دور في حدوثها، ففي الولايات المتحدة هناك نسبة خطورة للإصابة بالشيزوفرينيا تصل إلى (%1) في الفرد المتوسط بينما ترتفع هذه النسبة إلى (%50) في حالة التوأم المتماثل إذا كان أحد التوأمين قد تم تشخيصه بالمرض، حتى وإن تم تربية الطفل السليم وسط عائلة مختلفة، كما وجد باحثون مهتمون بدراسة الشيزوفرينيا أن هناك مجموعة من الخلايا العصبية التي تفشل في الهجرة إلى مواضعها الطبيعية أثناء التكوين الجنيني- Embryonic development إلا أن كُلًّا من وجهة النظر الجينية والجنينية لا تفسران الحالات النادرة التي يحدث فيها شفاء من المرض، وهذا يعني أن العامل البيولوجي ليس وحده المسؤول عن إحداث المرض.

هذا وتوجد أدلة على أن (العُتْه- Dementia) -كمثال آخر على الدور الجيني- يجري في العائلات كما أن العته المصاحب للزهايمر أيضًا له نمط عائلي إلا أن إمكانية التنبؤ بالمرض لا زالت محل تساؤل، وإذا تمعّنّا في الاضطراب ثنائي القطب (ذو الاتجاهين- bipolar disorder) المعروف بـ (الهوس الاكتئابيManic -depressive disorder) نجد أن هناك جين محدد مرتبط بهذا المرض، ولكن تظل طريقة حدوثه غير معروفة، في حين يوجد فقط مرض واحد يمكن أن نتنبأ بحدوثه من خلال جين واحد، هذا المرض هو مرض هينينغتون (وهو اضطراب حركي مرتبط بتغيرات نفسية)

 

ثانيًا: اختلال توازن النواقل العصبية

 

النواقل العصبية هي عبارة عن موادَّ كيميائية تعمل على نقل الإشارات العصبية بين الخلايا العصبية، وإنّ زيادة أو نقص أي من هذه النواقل يؤدي إلى حالات مرضية، والحقيقة أن التوصل إلى دور النواقل العصبية في الأمراض العقلية كانت له نتيجتن؛ الأولى هي التوصل إلى أدوية تعمل على إعادة التوازن المفقود إما من خلال زيادة تركيز نواقل معينة أو منع عمل نواقل أخرى، والنتيجة الثانية هي أنه ساهم بشكل أو بآخر في الاعتقاد السائد بأن العلاج الوحيد المتاح هو بالأدوية، وسنضرب مثالين على دور النواقل العصبية:

 

المثال الأول: مرتبط بحالات الاكتئاب والوسواس القهري واضطراب الهلع والقلق

نجد في مثل هذه الحالات انخفاضًا في مستويات النواقل العصبية المتمثلة في السيروتونين والنورأدرينالين، ومعظم الأدوية التي تعالج هذه الحالات إنما تعمل على زيادة فرص إتاحة هذه النواقل في المخ وعلى وجه الخصوص نجد أن هذه الحالات تستجيب وبقوة للأدوية التي ترفع مستويات السيروتونين.

المثال الثاني: مرتبط بحالات جنون العظمة والهلوسات السمعية والبصرية

نجد هنا زيادة في عمل الناقل العصبي الدوبامين ونلاحظ استجابة دوائية عند إعطاء المرضى أدوية تعمل على تعطيل عمل الدوبامين في أماكن معينة من المخ.

 

ثالثًا: العوامل المرتبطة بالتوتر

 

أكاد أجزم أن كل من سيقرأ هذا المقال يعرف معنى (التوتر) كلنا تقريبًا نعاني من التوتر؛ الامتحانات والمذاكرة وضغوط تسليم المهام الوظيفية، والانتقال لبيئة غير مألوفة (الكلية أو الجيش)، إلى جانب مسببات الضوضاء..إلخ، إلا أن التوتر ليس فقط مصطلحًا مقصورًا على الضغوطات الخارجية من البيئة المحيطة؛ فهناك مسببات توتر أخرى داخلية تتمثل في الجروح والصدمات وكِلا النوعين لهما تأثير على الصحة العقلية. العديد من الدراسات أوضحت أنه عندما يكون الأشخاص معرضون بشكل مزمن للتوتر فإنهم يصبحون معرضين أكثر للاكتئاب والقلق وغيرها من المشاكل العقلية كمان أن (%70) من البالغين الذين عاشوا في أتون الحرب الأوروبية اتضح أنهم يعانون من الاكتئاب، ويعتقد الباحثون أن آلية حدوث الاضطرابات العقلية المرتبطة بالتوتر ترجع إلى استنفاذ عدد من النواقل العصبية وخصوصًا السيروتونين والنورأدرينالين. كما وَجد الباحثون أن معظم حالات الشيزوفرينيا قد تعرضت للنوبة الأولى من المرض عندما تعرضت لمواقف عصيبة باعثة على التوتر مثل الانتقال من البيت إلى الكلية أو الجيش.

 

رابعًا: حالات طبية

 

لا يخفى علينا أن بعض الحالات المرضية التي تسببها البكتيريا والفيروسات والاضطرابات في التمثيل الغذائي وتعاطي أدوية الشوارع (المخدرات)؛ يمكن أن تسبب اضطرابات عقلية، وأنّ أي إصابة يمكن أن تلحق بالدماغ لها القدرة على التسبب في اضطرابات عقلية مثل: الهلوسات، والتكلم بشكل غير مترابط، ومشاكل في التركيز، ونجد أن الفئة الأكثر تعرضًا للإصابة بالاضطرابات العقلية هم كبار السن، فالحُمّى واختلال توازن الإليكترولايت والجفاف كلها عوامل يمكن أن تسرع من وتيرة حدوث الاضطرابات العقلية وذلك نظرًا إلى أن خلايا المخ في الكبار تكون أكثر حساسية لأي خلل يمكن أن يحدث في التمثيل الغذائي أو السموم.

 

هناك أيضًا العديد من الأمراض المرتبطة بحدوث اضطرابات عقلية مثل مرض الإيدز ومسببه فيروس الـ HIV حيث أن حوالي (%70) من مرضى الإيدز الذين يعانون من مراحل المرض الخطيرة ينتهي بهم الحال بالعُتْه والاكتئاب والهذيان كما الأمر في الأمراض المعدية التي تسبب التهابات داخل الجمجمة مثل الالتهاب السحائي أو التهاب الدماغ، ولكن لحسن الحظ فإن مثل هذه الآثار المترتبة على هذه الالتهابات يمكن علاجها وعكسها. كذلك فإن الاضطرابات في التمثيل الغذائي يمكن أن تؤدي إلى تبدل في الحالة العقلية؛ فمرضى زيادة هرمون الثيروكسين من الغدة الدرقية يمكن أن يعانوا من الاهتياج والهوس والقلق، أما نقص هذا الهرمون فيسبب الاكتئاب.

 

خامسًا: أمراض الأعصاب

 

مما لاشك فيه أن أي تلف يحدث في النسيج المخي سيؤدي إلى اضطرابات عقلية، فعند فحص مرضى العُتْه نلاحظ حدوث تغيرات ميكروسكوبية في نسيج المخ، أما في حالة الجلطات في الأوعية الدموية المغذية للمخ فيحدث تلف على نطاق أكبر في المنطقة التي يغذيها الوعاء الدموي الذي حدثت فيه الجلطة، وبالنسبة لأورام القولون والبنكرياس فإنها تثير اهتمام العلماء حيث وجدوا ارتباطًا بين هذه الأورام وحالات الاكتئاب.

 

سادسًا: العوامل الغذائية

 

مما لاشك فيه أن العامل الغذائي مهم جدًا لضمان عدم الإصابة بأي خلل عقلي وأنه يجب تناول المواد الغذائية الضرورية بشكل يومي وخصوصًا الفيتامينات التي لا يخزنها الجسم ومثال ذلك مجموعة فيتامينات B والتي تحافظ على الصفاء العقلي والاستقرار ونقص هذه المجموعة من الفيتامينات يمكن أن يؤدي إلى الأرق والارتباك والاكتئاب، وكذلك لا بد من توافر الأحماض الأمينية الضرورية مثل التريبتوفان وهو حمض أميني يدخل في تركيب السيروتونين الذين تكلمنا سابقًا عن دوره في علاج الاكتئاب وأن نقصه يؤدي إلى حدوث الاكتئاب وكذلك فإن نقص التريبتوفان يؤدي إلى نفس النتيجة حتى في حالة تناول المرضى للأدوية التي تعمل على زيادة إتاحة السيروتونين.

 

ما تناولته في هذا المقال هو جزءٌ إنما أردت منه توضيح فكرة، الآن وقد عرضنا عليكم وجهات نظر كِلا الجانبين؛ هؤلاء الذين مارسوا السحر والشعوذة واعتقدوا أن سبب الاضطراب العقلي هو قوى خارقة، والجانب العلمي الذي يحاول جاهدًا أن يصل لتفسير كل شيء ولا يكتفي بأي إنجاز حققه بل ينتقل من اكتشاف إلى آخر بلا كلل، فليس من العيب أن نذهب للأطباء النفسيين.

إعداد : Sherif Radwan

مراجعة: Matalgah Hamzeh

#الباحثون_المصريون

المصادر :

http://sc.egyres.com/IESQz

http://sc.egyres.com/XqCUA

 

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي