الإنتروبيا وأصل الحياة

أصل الحياة والانتروبي

لقد عرفنا لأكثر من مائة وخمسين عامًا أن التطوّر حقيقي (الكون قديم للغاية وتتغير النباتات والحيوانات بمرور الوقت) وأن الانتقاء الطبيعي هو محرك للتطور. ولكن ربما يوجد مبدأ أساسي للتطور أكثر من الانتخاب الطبيعي. فكما يقول جيرمي إنجلاند: «التطوّر الداروينيّ هو حالة خاصّة لظاهرة أكثر عمومية». إذن، كيف بدأت الحياة؟ وكيف تطوّرت الخلية البدائية غير الحية إلى خلية حية انبثقت من خلالها أصناف من الكائنات الحية؟

تاريخ الفكرة

بدأ الاهتمام بالبحث في علاقة الإنتروبيا بنشأة الحياة في أوائل القرن العشرين، فقد قام المؤرخ الأمريكي هنري آدامز في عام 1910 بنشر أطروحة تحت اسم «رسالة إلى معلمي التاريخ».  أرَّخ آدامز في أطروحته للقانون الثاني للديناميكا الحرارية ومبدأ الإنتروبيا، ثم في عام 1944 صدر كتابُ عالم الفيزياء الشهير الحاصل على جائزة نوبل إرفين شرودنجر تحت عنوان «ما هي الحياة؟». وناقش فيه شرودنجر رؤيته حول اعتماد الحياة على ما أسماه الإنتروبيا السالبة (Negentropy). ولكن فيما بعد ترك تلك التسمية الغريبة بسبب احتجاج العِلميين، واستقرّ الأمر على مناقشة ما يسمى بـ «الطاقة الحرة» في هذا الشأن. ثم ظهرت أبحاث أخرى اعتمدت في مناقشاتها على طاقة جيبس الحرة حيث إن العمليات البيولوجية التي تتم على الأرض تسير في درجة حرارة و ضغط جوّي ثابتين. تلك العمليات الحيوية تجري في جوّ الأرض وفي قاع البحار وتستغرق وقتًا طويلًا بالنسبة لكل كائن حي. [1]

نشر الفيزيائي رودولف كلاوزيوس عام 1863 مذكرةً عن «تركيز الأشعّة الحرارية والضوء، وحدود تطبيقاته» حيث قدّم تخمينًا مبدئيًّا للعلاقة على أساس ما قام به من تجارب، وما قام به لورد كيلفن عن فكرته عن الإنتروبيا والحياة. وبالاعتماد على تلك الأفكار ظهر أوّل تخمين عن احتمال وجود علاقةٍ بين الديناميكا الحرارية و تطوّر الحياة عام 1875 للفيزيائي النمساوي لودفيغ بولتزمان.

الإنتروبيا السالبة (Negentropy)

بالنسبة للفيزيائيّ المنهمك في دراسة الميكانيكا الإحصائية، يمكن أن تبدو الحياةُ معجزةً بهذا المعنى. ويتطلّب القانون الثاني للديناميكا الحرارية بالنسبة للنظام المغلق –مثل غاز في صندوق، أو الكون ككل– وجوب ازدياد الاضطراب بمرور الزمن. يذوب الثلج في بحيرة مجمدة، لكن تلك البحيرة لا يمكنها أن تتجمد تلقائيًا. وإذا رأيت هذا يحدث، فستفترض حتمًا أنك تشاهد فيلمًا بأثر رجعي، كما لو كان الزمن يتحرك للخلف. يقترح القانون الثاني مبدأ اللارجعة على سلوك مجموعات كبيرة من الجسيمات، مما يسمح لنا باللعب بكلمات مثل «الماضي» و «الحاضر» و «المستقبل».

وبينما يشير سهم الزمن باتجاه الاضطراب، يشير سهم الحياة إلى الاتجاه المعاكس. فكيف يمكن للقوانين التي تحكم نموّ بذرة بسيطة تنمو حتى تشكل زهرةً معقدة التكوين، أن تختلف هذا الاختلاف الجذريّ عن القوانين التي تحكم باقي الذرات في الكون؟

تناول الفيزيائي شرودنجر هذا السؤال في كتابه الصغير بعنوان «ما هي الحياة؟» الذي سبق وأشرنا إليه. لقد أدرك أن الكائنات الحية، على عكس الغاز الموجود في صندوق، هي أنظمة مفتوحة. أي أنهم يتبادلون الطاقة بينهم وبين بيئة أكبر. حتى عندما تحافظ الحياة على نظامها الداخلي، فإن فقدانها للحرارة في البيئة يسمح للكون بتجربة زيادة شاملة في الإنتروبيا (أو الاضطراب) وفقًا للقانون الثاني للديناميكا الحرارية.

أشار شرودنجر إلى لغز آخر في الوقت نفسه. حيث قال بأن الآلية التي تؤدّي إلى ظهور سهم الزمن لا يمكن أن تكون نفس الآلية التي تؤدّي إلى ظهور سهم الحياة. ينشأ سهم الزمن من إحصائيات الأعداد الكبيرة، فهناك العديد من أشكال البِنى المضطربة أكثر من تلك المنتظمة بحيث تكون فرصة تعثّرها في حالةٍ أكثر ترتيبًا وتنظيمًا منعدمة. ولكن عندما يتعلّق الأمر بالحياة، يجب أن يسود النظام واللارجعة حتى على المستوى المجهريّ، مع وجود ذرات أقل بكثير. في هذا المقياس، لا تأتي الذرات بأعداد كبيرة بما يكفي لإحصاءاتها لتنتج انتظامًا بما يتوافق مع القانون الثاني. يتكوّن النوكليوتيد –لبنة بناء الـ RNA والـ DNA، المكونات الأساسية للحياة– من 30 ذرةً فقط. ومع ذلك، أشار شرودنجر إلى أن الشيفرات الجينية تصمد بشكل لا يُصدّق، أحيانًا لمدة تولد وتفنى خلالها ملايين الأجيال، إنها «ديمومة تكاد تكون معجزة».

فكيف يقاوم الجينُ الاضمحلالَ؟ وكيف لا تنهار تحت وطأة هشاشتها؟ يجب أن يكون هناك شيء أعمق من الإحصائيات يلعب هذا الدور، وهو الشيء الذي يمكن أن يسمح لمجموعاتٍ صغيرة من الذرات بترتيب نفسها بشكل لا رجعة فيه وتصبح «كائنًا حيًا».

ودعني عزيزي القارئ أضرب لك مثلا للتوضيح وتبسيط الفكرة، تخيّل مثلا لو أنك تقف أمام سور عتيد، تحاول الوصول إلى الجانب الآخر، لكن السور عالٍ  جدًّا بحيث لا يمكنك التسلق أو القفز. ثم يأتي أحد الأصدقاء ويناولك  عصا البوجو، التي ستمكنك من القفز إلى الجانب الآخر. وبمجرد وصولك للجانب الآخر، يمكنك استخدام نفس عصا البوجو للقفز فوق السور مرةً أخرى لينتهي بك الأمر حيث بدأت. وبذلك يسمح لك المصدر الخارجي للطاقة (أي؛ عصا البوجو في هذ المثال) بإجراء تغيير، ولكن تغييرٌ قابل للانعكاس.

تخيل الآن أنه بدلًا من عصا البوجو، يهديك صديقك طائرةً نفاثة. فتشغّل الطائرةَ النفاثة وتعبر بك فوق السور. ولكن أثناء قيامك بالعبور فوقه، يتبدد وقود الطائرة في الهواء المحيط، حيث بحلول الوقت الذي تهبط فيه، تجد أنك لا تملك طاقةً كافيةً لإعادتك فوق من حيث أتيت مرةً أخرى. أنت عالق في الجانب البعيد. والتغيير الخاصّ بك «لا انعكاسي»، أي لا رجعة فيه.

لذلك كان يرى شرودنجر أن المتحكم في الحياة ليس القانون الثاني للديناميكا الحرارية وحسب كما نعتقد، بمعنى أن الكائن الحيّ لا يقوم بخفض مستوى الإنتروبيا لديه أو الحفاظ عليه من خلال اكتسابه لإنتروبيا سالبة، هذا لأنه لا وجود للإنتروبيا السالبة. ورغم ذلك نجده يذكر في الفصل السادس من كتابه سابق الذكر، فيما يتعلق بالإنتروبيا السالبة: «يُستبدل هذا المصطلحُ بمصطلح آخر يعبر عن الطاقة التي يحاول الكائن الحيّ الحصول عليها لبقائه حيًا، وهو الطاقة الحرة».

وهكذا ربما نظنّ أن تطوّر الحياة يتعارض مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي يقول نصًّا: «إن إنتروبيا نظامٍ معزول ما تميل إلى الزيادة على نحو تلقائي»، ولكنه في الواقع لا يوجد تعارضٌ على الإطلاق، حيث إن ازديادَ أو ثباتَ إنتروبيا نظام معيّن تنطبق فقط على الأنظمة المعزولة، أي التي لا يمكن حدوث تبادل للحرارة أو المادّة بينها وبين الوسط المحيط بها. ولكن عندما يُسمح بحدوث تبادل للحرارة والمادّة فإن حدوث انخفاض في إنتروبيا النظام يتوافق تمامًا مع القانون الثاني. عُرفت إشكالية التنظيم الذاتي التي تتمتع بها الكائنات الحية وتُطَورها على الرغم من عدم توافقها –ظاهريًّا– مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية بــ «معضلة شرودنجر».

وجاء الدليل بعد نصف قرن، عندما وصف الكيميائي الإنجليزي غافن كروكس رياضيًّا اللا-انعكاسيةَ المجهرية لأوّل مرّة. في معادلة واحدة باسم معادلة كروكس للتذبذب، نُشرت عام 1999 في أطروحة باسم (Statistical Dynamics in Excursions)، حيث أظهر كروكس أن نظامًا صغيرًا مفتوحًا مدفوعًا بمصدر خارجيّ للطاقة يمكن أن يتغيّر بطريقة لا رجعة فيها، طالما أنه يبدّد طاقته مع تغيّره. [2,3]

أظهر كروكس أن مجموعةً من الذرات يمكنها بالمثل أن تأخذ دفعةً من الطاقة الخارجية وتستخدمها لتحويل نفسها إلى شكل جديد –يعتبر بمثابة القفز على السور، إن جاز التعبير– بحيث إذا قامت الذرّات بتبديد الطاقة أثناء تحوّلها، فقد يكون التغيير لا إنعكاسي. رغم أنه يمكنهم دائمًا استخدام الدفعة التالية من الطاقة التي تأتي من أجل العودة، وغالبًا ما يفعلون ذلك. لكن في بعض الأحيان ليس هذا ما يحدث. حيث  يستخدمون الدفعة التالية من الطاقة للانتقال إلى حالةٍ جديدة أخرى، وتبديد طاقتهم مرة أخرى، وتحويل أنفسهم خطوة بخطوة إلى شكل أكثر تطوّرًا. وبهذه الطريقة، فإن التبديد لا يضمن اللارجعة، لكن اللارجعة تتطلب التبديد أو الفقد في الطاقة.

تشكّل الحياة لغزاً محيرًّا جدًّا. وعلى الرغم من التقدم النظريّ الكبير، فإن حالات الشذوذ التجريبية والمفارقات والألغاز كشفت عن قصورٍ نموذجي. وعلى هذا فإن تقدّم الفهم العلميّ يتطلّب نماذج جديدةً تعمل على حلّ المشاكل الأساسية. [4]

ماهي الحياة؟ وكيف نعبّر عنها بلغةٍ فيزيائية

أثارت الكائنات الحية وتنوعها دهشةَ العلماء لدرجة تخصيص فرعٍ خاصٍّ بها من العلوم الطبيعية، ألا وهو علم الأحياء. وعلى الرغم من ذلك، فإنه لا يوجد اختلافٌ جوهريّ –من منظورٍ فيزيائيّ– يميّز الكائنات الحية عن الكائنات غير الحية. فالصخور والأشجار والمدن والغابات، ماهي إلا تجمّعات من المادّة في حركةٍ وتغيّر دائمين عبر الزمن وخلال تبادلها للطاقة مع محيطها. [1]

ولكن ما السمة المميّزة للحياة؟ متى نقول على قطعةٍ من المادّة إنها حية؟ نقول ذلك عندما تستمر في «فعل شيءٍ ما» لمدّة أطول بكثير من تلك التي نتوقّع لقطعةٍ جامدة من المادّة أن «تستمر» خلالها في فعل ذلك الشيء تحت ظروفٍ مشابهة، الكائنات الحية تستطيع التحرُّك، وتبادل موادٍ مع بيئتها، وامتصاص طاقةٍ من محيطها للتكاثر، أيضًا تتميّز بالشعور والقدرة على التوقّع، وهكذا. [2]

إذن، نقطة البداية هي تحديد السلوكيّات المختلفة التي يبدو أنها تميّز الكائنات الحية عن غيرها. وهذه السلوكيّات مميّزة بالطبع، ولكنها قاصرةٌ أيضًا في قدرتها على تصوّر شيءٍ غيرِ حيّ ينجز نفس المهمة. فعلى سبيل المثال، النار ليست مادّة حية وبالرغم من ذلك فإنها قادرة على التكاثر والانتشار. والسؤال الآن، هل يمكن للفيزياء أن تساعدنا أكثر على فهم هذه السلوكيات شبه الحية؟ وهل يمكنها أن تخبرنا متى وتحت أي ظروف يمكن للمواد غير الحية أن تتطوّر لمادّة مفعمة بالحياة؟ على ما يبدو، هناك سبب للأمل بأن تكون الإجابة نعم. [4]

نموذج جديد وأمل كبير

«هناك أملٌ كبير». كانت هذه البشرى هي كلمات ألكسندر جروسبرج عن أطروحة الباحث الواعد في الفيزياء البيولوجية جيرمي إنجلاند. فالحياة كما نعرفها في أبسط مكوّناتها عبارةٌ عن جزيئات، ولكن السؤال الذي طالما أرّق العلماء واجتهدوا في البحث عن إجابته، هو كيف اجتمعت هذه الجزيئات ورُتّبت بهذه الدقّة لتخلق الحياة التي نعرفها؟ هل رُتّبت بفضل سلسلة من الصدف النادرة التي أدّت إلى وجود كل شيءٍ في مكانه المثاليّ لتحقيق تلك المعجزة؟ أم كان السبب شيءً آخرَ يفوق الصدف والعشوائية؟ يعتقد جيرمي إنجلاند أن السبب طالما كان قبالة أعيننا. يقول إنجلاند: «إنه تحت تأثير الظروف المثالية، التي لا تُعدّ نادرةً أو مستحيلةً إطلاقًا، تميل المادّة طبيعيًّا نحو التنظيم الصارم وتكوين بِنًى معقدةٍ واكتساب سلوكٍ متكيّف مع ظروف البيئة المحيطة. مما يجعل نشأة الحياة نتيجةً حتميةً من وجهة نظرٍ فيزيائية». وتُقدّم نظريته عن التطوّر ما قبل البيولوجيّ تفسيرًا لا يقلّ أهميةً عن التفسير البيولوجيّ الداروينيّ، بل إنه يُعد بمثابة مكمّلٍ مطلوب له.

يحاول إنجلاند وزملاؤه من خلال أبحاثهم النظرية فهم بداية الحياة وتطوّرها في ضوء مفاهيم الديناميكا الحرارية. ويقول: «فعندما نتصور كائنًا حيًّا باعتباره مجموعة من الجزيئات التي تتحرك وتتبادل الطاقة مع محيطها، يمكننا استخدام المعلومات المتعلقة بذلك التصوّر لبناء نموذجٍ احتماليّ لسلوك هذا الكائن». ودعوني أوضح، لم يكتشف جيرمي إنجلاند مجرد مبدإٍ أساسيٍّ لتطوّر الحياة ومنشأها، بل ما اكتشفه هو المبدأ الأساسيّ لأصل الحياة. ويمكننا اعتبار اكتشافه بمثابة نظريةٍ تجمع بين كل من البيولوجيا الجزيئية التطورية والكيمياء غير العضوية إضافة إلى الفيزياء. [3]

في عام 2013، حين تواجد إنجلاند في كاليفورنيا لإلقاء محاضرةٍ في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وأثناء استراحته بالفندق، استمر في اللعب بمتغيّرات معادلة كروكس. كان واضحًا من معادلة كروكس أنه من أجل تحقيق هذا النوع من اللارجعة التي هي سمة مميّزة للحياة، يجب أن يكون النظام قادرًا على امتصاص وتبديد الحرارة. لكنه أدرك أن الصورة لم تكتمل بعد.

أمسك إنجلاند بالقلم الرصاص وخطّ على الورق تعميماً للقانون الثاني للديناميكا الحرارية آخذًا في الاعتبار تاريخ تبدّد النظام الذي -كما يقول- يسلّط الضوء على ظهور بِنية ووظائف الحياة. وفي ورقةٍ بحثيةٍ في أواخر عام 2016، صاغ ما سبق على النحو التالي:

«في حين أن أي تغيير معيّن يحدث في بِنية النظام يكون عشوائيًّا في الغالب، فإن التحوّلات غير القابلة للانعكاس والأكثر ديمومةً من بين تلك التحوّلات في التكوين تحدث عندما يكون النظام أفضل في امتصاص وتبديد الطاقة بصورةٍ لحظية. مع مرور الزمن، تتراكم «ذاكرة» هذه التغييرات الأقل قابلية للمحو على نحوٍ تفضيليّ، ويتخذ النظام بصورةٍ متزايدة أشكالًا تشبه تلك الموجودة في تاريخه حيث حدث التبديد أو الفقد. وبالنظر بأثرٍ رجعيٍّ في التاريخ المحتمل لناتجٍ ما من نظامٍ غير متزن، سيظهر لنا البناء وكأنه منظّم ذاتيًّا في حالة تبدو «شديدة التكيف» مع الظروف البيئية المحيطة. وهذا ما نسميه ظاهرة التكيّف القائم على الفقد (Dissipative Adaptation)».

بالطبع، لا يهدف نظام الذرّات بمثل هذا السلوك إلى أي شيء، إنه فقط  يقوم بتقليب نفسه على نحوٍ أعمى وعشوائي. وخلال رحلة انتقاله من شكل إلى آخر، فإنه ينتظم بصورة ذاتية على نحو يبدو لنا وكأنه قد تكيّف. يزعم فتغنشتاين أن «اللغة متاهة تحتوي العديد من الطرق أو الاتجاهات؛ فبإمكان المرء الوصول إلى نقطةٍ معينةٍ من أحد الاتجاهات ومن ثم يضع المرء قدمه على الطريق الصحيح. ولكن قد يصل المرء إلى نفس النقطة من اتجاه آخر- ومع ذلك-يضل الطريق».   بالنسبة لإنجلاند، كانت الترجمة صحيحة. كيف تقول «الحياة» بلغةٍ فيزيائية؟ حسنًا، لقد عبّر عنها على نحوٍ ممتازٍ بــ «التكيف القائم على الفقد».

فكرة جديدة.. التنظيم التكيّفي القائم على الفقد

يحدث هذا التنظيم عندما تحيط كميةٌ من الطاقة مجموعةً من الذرّات، فتقع تلك الذرّات تحت ضغطٍ معين يتوافق مع اتجاهها (الاتجاه نحو تحقيق الإنتروبيا القصوى) وفقًا للقانون الثاني للديناميكا الحرارية. ويمكننا القول بأن الإنتروبيا هي العامل الرئيسي الآخر –بجانب الإنتقاء الطبيعي– في عملية التنظيم الذاتي والتكرار للمادة. وقبل أن نستفيض في شرح فكرة إنجلاند الواعدة ونتائجها التجريبية، دعوني أذكّركم ببعض المفاهيم الضرورية كالإنتروبيا والقانون الثاني للديناميكا الحرارية.

فرضية التقلب  Fluctuation Theorems

من الصعب على مجموعة من الذرّات اكتساب كمية من الطاقة ثم حرقها (أي أن تقوم بوظيفة البكتيريا). ولكي يحدث ذلك، لابد من وجود هذه الذرّات في حالةٍ شديدة الندرة من الترتيب والانتظام. ووفقًا لإنغلاند، فإن وجود علاقةٍ بين ترتيب الذرّات وتلك الوظيفة –أي استهلاك الطاقة– يعني أن هناك تحدٍّ بيئيّ يجب أن تواجهه الذرّات وتتكيّف معه لتصل إلى هذه الحالة من الترتيب. ولكن لماذا وكيف يمكن للذرّات أن تكتسب الشكل الذي يؤهلها للقيام بوظيفة البكتيريا وهي استهلاك الطاقة الكميائية؟ يزعم إنجلاند أن إعادة الترتيب الذاتي هي نتيجةٌ حتميةٌ في الديناميكا الحرارية خاصّة في الأنظمة البعيدة عن الإتزان (Far-from-Equilibrium Systems).
لقد شُغل بروفيسور الكيمياء الفيزيائية الحاصل على جائزة نوبل إيليا بريجوين في الستينيات بأفكارٍ مماثلة غير أن تجاربه كانت محدودةً للغاية. حيث إن قوانين الديناميكا الحرارية التقليدية يمكن تطبيقها فقط في دراسة الأنظمة القريبة من الاتزان (Near-Equilibrium Systems)، كالغاز الذي يتمّ تسخينه أو تبريده ببطئ على سبيل المثال. ولكنّ الأنظمة التي تؤثر عليها مصادرُ طاقةٍ خارجيةٌ تعتبر أكثر صعوبةً في دراستها لأنها تملك ديناميكيّات أكثر تعقيدًا. تغيّر الوضع كثيرًا عندما استطاع العالمان جافين كروكس وكريس جارزينسكي اشتقاق «فرضيات التقلب» في أواخر التسعينيات كما ذكرنا آنفًا.

فرضية التقلّب (التذبذب) هي إحدى نتائج الميكانيكا الإحصائية، وهي فرضية تفسّر الاحتمالية النسبية لإنتروبيا نظامٍ ما، تقول الفرضية إن الإنتروبيا الخاصّة بنظامٍ بعيدٍ عن حالة الاتزان الحراري (أي الإنتروبيا القصوى) سوف تزيد أو تنقص خلال مدّةٍ زمنية معينة. وكما هو واضح، فقد مكّنت تلك النظرياتُ الباحثينَ من دراسة ميكانيكية تطوّر النُظم، خاصّة تلك البعيدة عن حالة الاتزان. وهكذا –ولأوّل مرة– تم تطبيق معادلات التقلّب على المشاكل المتعلّقة بأصل الحياة، في محاولةٍ لفهم المحرّك الأوّل وراء بدايتها. [4]

النمذجة (Modeling).. توقُّع ما كان وما سيكون

يقول إنجلاند: «في الأوراق النظرية الأولى لمجموعتي البحثية حول هذا الموضوع، أشرنا إلى آلية التنظيم الذاتي هذه على أنها تكيّف تبادري. أجرينا مؤخرًا اختبارين للفكرة باستخدام النمذجة. في إحدى الدراسات، أخذنا مزيجًا من النقاط التي تطفو في سائلٍ لزج. ولجعل البيئة أكثر تحدّيًا، فرضنا قاعدة بسيطة: سنجعل كل زوج من النقاط متصلًا بنابضٍ مطّاطي، بحيث يمكن ربطه أو فكّه بشكلٍ عشوائيٍّ عند الالتقاء معًا. ثم أخذنا إحدى النقاط من بين مجموعةٍ مكونة من 20 نقطةٍ وضغطنا عليها بقوّةِ تذبذبٍ بترددٍ واحد.

ما رأيناه بعد ذلك كان مثيرًا للاهتمام. عندما رُبطت تلك النقاط  بشكلٍ عشوائيٍّ وغير معقوف، تشكّلت شبكةٌ محددةٌ من الوصلات المتشابكة. تميل هذه الوصلات إلى الاهتزاز عند تواتر القوة الخارجية، ومن ثم تمتصّ كمية كبيرة جدًا من الطاقة. عوضًا عن ذلك، عندما صمّمناها بحيث تنكسر الينابيع بسهولةٍ أكبر عند التمدّد، رأينا التأثير المعاكس: شبكةٌ تشكّلت بحيث لا تهتزّ عند هذا التردد. أي أن النقاط كيّفت بِنيتها لعدم امتصاص الطاقة.

حصلنا على نتائج مماثلةً من دراسة ثانية. في هذه الدراسة وضعنا مجموعةً من الذرات مرتبةً عشوائيًا في البداية في وجود مصدرٍ غنيٍّ ولكن صعب للطاقة، بحيث  لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال مجموعةٍ خاصّة من تلك الذرّات. بعد ترك الذرّات لتتفاعل لفترةٍ طويلة، كانت تركيبة المواد الكيميائية منحازة لتكون إما سيّئة للغاية أو جيّدة للغاية في استخراج الطاقة. بعبارة أخرى، أظهر النظام ميلًا لإيجاد الحالات التي تبدو متوافقة مع بيئته والبقاء عالقًا فيها. [3]

في كلتا الحالتين، لا يكمن المعنى في أن كل المادة في كل مكان تحاول امتصاص وتبديد المزيد من الطاقة طوال الوقت؛ كما أن القانون الثاني للديناميكا الحرارية يوجه بطريقة سحرية اكتشاف أفضل البنى المنظّمة في زيادة الإنتروبيا. ولكن عندما تتفاعل الجسيمات في ظلّ الظروف الصعبة التي يخلقها مصدر الطاقة، فإن أشكالها الناتجة تميل إلى أن يتم ضبطها بدقة بما يتكيّف ويتوافق مع مصدر الطاقة هذا حتى بدون مساعدة التكرار الذاتي (self-replication) والانتقاء الطبيعي (natural selection).

وكما نرى فإن الكائنات الحية معقدةٌ بشكل رائع وذات كفاءةٍ مذهلة في مواجهة تحديات بيئاتها. ويتجلى هذا لنا لأن الحياة التي نراها اليوم قد ورثت العديد من التكيّفات الهيكلية والسلوكية التي أثبتت أنها مفيدة جدًا للأجيال السابقة.  و «مفيدة» عندما تأتي في السياق البيولوجي، نعني بها أن تلك التكيّفات مكّنت الكائنات الحية من البقاء والتوالد التلقائي. ولكن ما بدأ يتكشّف لنا من هذه الرؤية الديناميكية الحرارية –وما يحاول البعض فهمه واكتشافه بفارغ الصبر من خلال  النمذجة والمحاكاة ومن ثم التجربة– هو احتمال وجود بعض الخصائص المميّزة التي تشبه الحياة لكيفية تنظيم الكائنات الحية، تلك الخصائص التي تتيح لهم الاستهلاك والبقاء على قيد الحياة والتكاثر، يمكن التعرّف عليه في فئةٍ أوسع من الأنظمة الفيزيائية التي لا تتضمّن ذوات النسخ الذاتي. بدلاً من ذلك، يتم دفعهم نحو أشكالٍ خاصّة مثيرة للاهتمام من خلال قوانين الديناميكا الحرارية التي تحكم ردود الفعل الإيجابية في وجود مصدر طاقة صعب. قد تشرح هذه العملية كيف يمكن للتطوّر أن يسير في مادة خاملة. [5,6]

لا نعرف ما إذا كان هذا سيُحدث فرقًا كبيرًا أو صغيرًا في كيفية فهمنا للكائنات الحية على المستوى المجهري. ولا يزال هناك المزيد من العمل الذي يتعيّن القيام به. ولكن ما تكشفه وجهة نظرنا الجديدة في الديناميكا الحرارية هو أن عددًا كبيرًا جدًا من الاستكشافات المجهولة التي تبدو عشوائيةً بالنسبة لبنيتها وشكلها لديها فرصةٌ كبيرةٌ بشكلٍ مدهش لتتحول إلى شكلٍ نهائيٍّ أكثر إثارةً للاهتمام. [6]

يمكنك مشاهدة محاضرة جيرمي إنجلاند من من هنا.

 

لقراءة جميع مقالات سلسلة #الأصل:

مغامرة الفلسفة الأولى.. بدايات التفلسف حول ظواهر الحياة وأصلها

أصل الحياة في الفلسفة اليونانية.. أمبادوقليس نموذجًا

الأصل.. الحساء الأول

فرضيات نشأة الحياة من وجهة نظر علم الأحياء.. البيضة أولًا أم الدجاجة؟

فرضيات نشأة الحياة من وجهة نظر علم الأحياء.. وماذا بعد؟!

شارك المقال:

6 Responses

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي