ظلامٌ حالكٌ، سكونٌ طاغٍ، قمرٌ مودِّعٌ.. تلك هي الحال إلى أن تظهر نجمةٌ في السماء تؤنس السكون وتهدهد الوحشة قبل ظهور الفجر، تلك النجمة هي صوتٌ خاشع يبتهل إلى ربِّه تضرعًا لجلاله ومحبةً لذاته، وإجلالًا لرسولٍ أهداه إلى البشر.
هذه النجمة صدحت بالابتهال والتوشيح على مدى قرون لتؤكد عبقرية الشخصية العربية على طول تاريخها في خلق كل ما هو جديد للتقرب من الله، فقد نشأ هذا الفن منذ العهد النبوي(1)، كما أن فن الابتهال والتواشيح الدينية يضرب بجذوره لسنين طوال في التاريخ المصري القديم، صحيح أنه لم يتم التعرف إلى بداياته على وجه الدقة، لكن الأكيد في الأمر أنه تطوًّر على هذه الأرض ليصبح فنًّا ذا روحٍ مصرية خالصة سعى من خلاله عظماء المشايخ إلى تجديده وتطويره ليصيح فنًّا ذا كيانٍ وعلمًا له رموزه.
يتوحد كلٌّ من الابتهال والتوشيح والإنشاد الديني في غايتهم من حيث تضرع ومناجاة الرب، لكنهم يختلفون في قاعدتهم الفنية؛ فالتوشيح الديني، الذي يعد نوع من الشعر استحدثه الأندلسيون، لا تُستخدَم فيه الموسيقى لكنه يتكون من تخت صوتي مقامه الشيخ وبطانته، أما المبتهل فيقف يتضرع معتمدًا على حنجرته فقط بدون موسيقى، بينما الإنشاد الديني يعتمد على الآلات الموسيقية ويكون بقصيدة شعرية كاملة(2).
لم تكن التواشيح الدينية أو الابتهالات فنًّا وليدَ لحظةٍ عبثية من الزمن، أو نزوةً فنيةً انتهت موضتها سريعًا، أو هبوبًا لرياحٍ مضطربة توقف أثرها، بل كان فنًّا لم يرتقِ بنفسه فقط، ولكنه كان صاحب أثرٍ ممتد في نواحي فنية عديدة، حمل مشعله شيوخٌ استقوا العلم وتذوقوا الجمال من حفظ آيات القرآن الكريم ودراسة علومه، وتحمل السطور القادمة نماذجَ لمن ساهموا في هذا الفن.
الشيخ علي محمود.. ناظر مدْرسة
هو قارئ القرآن الكريم الذي استمد منه علمه الديني وتذوقه للموسيقى وولعه بها لدرجة جعلته يتعلم علم النغمات والمقامات الموسيقية ويسير في دروبها ليعرف أسرارها من مبدعيه المعروفين آنذاك، وعلى رأسهم الشيخ الجليل «محمد عبد الرحيم المسلوب»؛ الذي عمل على تحرير الموسيقى من قوالبها التركية والعثمانية وصبغها بصبغة مصرية فريدة مثّلت النواة لإبداع مصري ذي نكهة خاصة في عالم الموسيقى؛ ليصبح الشيخ علي محمود صاحب مدرسة فريدة في فن الموشحات.
وإذا كان الشيخ على محمود هو إمام المنشدين وعمدتهم، فهو أيضًا أعظم من رفع الآذان بين الشيوخ المعاصرين، حيث كان الآذان وما يتبعه من التسابيح والاستغاثات التي تتلى قبيل صلاة الفجر في الحرم الحسيني وراء امتلاء منطقة الحسين وما حولها يوميًّا للاستماع إليه، وقد بلغ من عظمة الأداء وجمال الصوت وخشوعه ما جعل الشيخ عبد العزيز البشري يصفه بقوله:
«إن صوت الشيخ علي محمود من أسباب تعطيل حركة المرور في الفضاء، لأن الطير السارح في سماء الله لا يستطيع أن يتحرك إذا سمع صوت الشيخ»(3).
إن هذا الشيخ فاقد البصر مُتقِد البصيرة، ما بين ميلاده عام 1878م ورحيله عام 1943م، سار في طريق جديدة على غير عادة من حوله، حتى أصبح فن الإنشاد لا يُذكر إلا ويرافقه اسمه، فقد كان صوت الشيخ مثله مثل فضيلة الشيخ «محمد رفعت» من روائح شهر رمضان الكريم وعلامة عليه، تمامًا كما كان بالنسبة للمولد النبوي حتى اقترن اسمه أو كاد بتلك الذكرى(4).
تلامذته كُثُر، منهم من أثرى فن الإنشاد الديني مثل الشيخ «طه الفشني» الذي كان عضوًا في بطانته وأصبح فيما بعد علمًا من أعلام الإنشاد الديني وحمل رايته بعد وفاة الشيخ علي محمود، والشيخ كامل يوسف البهتيمي الذي يعد من أشهر منشدي عصره إلى جانب كونه مقرئًا لآيات الله، ومنهم من أجاد وبرع في الفن ليقدم كل ما هو راقي مثل الشيخ زكريا أحمد الذي كان من بطانته، ومحمد عبد الوهاب الذي أشاد به وبفضله عليه، ثم رياض السنباطي وعباس البليدي وسيد مكاوي وغيرهم.
من أهم موشحاته وأشهرها: «بربك يا من جهلت الغرام»، «السعد أقبل بابتسام»، «أدر ذكر من أهوى»، «أشرق فيومك ساطع بسّام»، «خلياني ولوعتي وغرامي»، إضافة إلى عشرات القصائد الغزلية المكسوة بالثوب الديني(5).
رحل الشيخ تاركًا إرثًا عظيمًا في الإنشاد الديني، وأسماءً لتلاميذ صاروا أعلامًا فنية نحتفي بهم حتى اليوم ليؤكدوا عظمة هذا الرجل.
الشيخ إبراهيم الفرَّان «المُجدِّد».. والشيخ محمد الفيومي «مُنشِد السينما»
صوت عند سماعه يعيدك إلى عصور الحناجر الذهبية التي كانت ترتفع عاليًا لتصل إلى عنان السماء تنقل ما أمكنها من كلام الله، وما جادت به العقول والقلوب لترديد كل ما هو جميل في مدح النبي، ومدح دين الإسلام، ولم العجب فلقد كان هذا الشيخ الجليل «إبراهيم الفرّان» يعمل في بطانة الشيخ «علي محمود».
تعلّم الشيخ المُبدع المولود عام 1883م ممن سبقوه وأجاد فابتكر أسلوبه الخاص به ولم يكن متجمد الفكر فتواشيحه لم تكن مقتصرة فقط على المدح النبوي على ما جرت عليه العادة لكنه أضاف تواشيح ثقافية إيمانًا منه بأهمية العلم، ولأنه عاصر ثورة عام 1919م، فقد كان ذا فكرٍ غير تقليدي، كما إنه صاحب مدرسة تعلّم فيها كلٌ من سيد مكاوي، ودرويش الحريري، ومحمد الفيومي(6)، فاستطاع بذلك أن يترك لاسمه بصمةً فريدة ليظل باقيًا كمجددٍ ومبدع، لا مُكرَرٍ أو نسخةٍ لمن سبقوه.
في مشهد سينمائي من فيلم «رصيف نمرة خمسة»، يظهر صوت قارئ يتلو آيةً قصيرة من مُحكم كتاب الله: «أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون».
بهذه الآية القصيرة، أسر هذا الصوت القلوب والألباب وأخذ بمجامع الجوارح من فرط عذوبته ورنته التي تلمع وتُضيء من عظمة الإحساس بالكلمات ومعانيها، إنه صوت شيخنا المبتهل «محمد الفيومي».
يعد الشيخ «محمد الفيومي» أحد عمالقة ورواد فن الابتهالات والتواشيح الدينية في مُنتصف القرن العشرين، فقد بزغ نجمه في فترة الأربعينيات والخمسينيات، تتلمذ على يد من سبقوه وأجاد التعلُّم، ليصبح واحدًا من الأسماء التي لا يمكن التغافل عنها في هذا المجال.
لم يقتصر فن الشيخ الفيومي على الابتهالات فقط، فقد طرق أبواب الإنشاد الديني وأبدع فيه وله العديد من الأعمال لعلّ من أشهرها التوشيح العبقري «أمدح المكمَل أحمد الرسول» الذي أداه بسلاسة بالغة مع بطانته رُغم تنوُع مقاماته بين النهاوند وشَد عَرَبان والبيّاتي، التي نسجها في توافق ليس مثيل الشيخ «إسماعيل سُكر» ملحنه ومؤلف كلماته.
ولأن الشيخ الفيومي كان صاحب بحرٍ واسعٍ من الطموح ليس له برًّا، فقد اقتحم المجال السينمائي بفضل صوته الرائع، وأنشد «يا شفيعي عند ربي يا نبي» في فيلم «عزيزة» عام 1954م، وتوشيح «النور قد ضاء لنا» عام 1956م في فيلم «رصيف نمرة خمسة».
الشيخ طه الفشني.. التلميذ النجيب
في سهرة أوركسترالية من الدرجة الأولى في مسجد الحسين، يجلس جمهور ينظرون إلى شيخنا المبتهل وهو يستحضر قوة صوته التي لا مثيل لها ليمدح النبي قائلًا:
«لا يحصي فضلك ناثرٌ أو كاتبٌ عددًا.. ولا الشعراء يا غوث الندى».
فيهلل الحاضرون ليس فقط لصدق ما يقوله عن النبي، ولكن أيضًا ليعلموا الشيخ “الفشني” أن الله قد حباه بصوت وجِدَ ليكون من الأصوات القلائل التي لا تحصي فضل محمدٍ النبي.
منذ أن انطلق صوت «طه الفشني» الرخيم عبر الأثير عام 1937م، مسَّ أوتار القلوب وأصبح خير خلف لخير سلف باعتباره التلميذ النجيب للمنشد «علي محمود»، ولذا كان طبيعيًا أن تتعاقد معه الإذاعة فور اعتماده لتقديم الابتهالات والقصائد النبوية للمستمعين لمدة ساعة يوم الأحد من كل أسبوع، حتى ذاع صيته وبلغت شهرته الآفاق وعينته وزارة الأوقاف مؤذنًا أول بالمسجد الحسيني وقارئًا بمسجد السيدة سكينة(7).
لم يكتفِ الشيخ الفشني بتفرده في الإنشاد الديني والتواشيح، وظل حريصًا على تلاوة القرآن، فإذا به يقف جنبًا إلى جنب في الصفوف الأولى مع مشاهير القرّاء في عصره، ويشارك في ختمةٍ قرآنيةٍ فريدةٍ مع المشايخ محمد الصيفي وعلي حزين وهاشم هيبة ومنصور الشامي الدمنهوري وعبد العظيم زاهر وعبد الرحمن الدروي وأبو العينين شعيشع، كما كان أحد أبرز القراء الذين شاركوا بالقراءة في قصر عابدين أثناء شهر رمضان على امتداد سبع سنوات (1945 – 1952) مع الشيخ «مصطفى إسماعيل»(8).
خلال حقبة الستينيات، شرعت الإذاعة في تسجيل المصحف المرتّل لأربعة من كبار القراء هم: الشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ محمود علي البنا، والشيخ محمد صديق المنشاوي، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وذلك في أعقاب تسجيل المصحف المرتل للشيخ الحصري، وتم الاتصال بمجموعة أخرى من المشايخ للتسجيل وعلى رأسهم الشيخ طه الفشني، ولكن حال إصابته بمرض في القلب دون تحقيق رغبة الإذاعة(9).
«طه الفشني» ينصف بصوته الجملة الشهيرة: «ما تشبعش من صوته من كتر حلاوته»، فقد ساعده القرآن الكريم ودراسته للموسيقى وعلم النغمات على يد الشيخ «درويش الحريري» على تمدد صوته وتنوعه فينتقل بين مقامات مختلفة بصوته صعودًا وهبوطًا في توشيح ديني واحد دون أي هفوة تُخرج المستمع عن الجو النبوي الذي نسجه بصوته مع بطانته ذات الأصوات الشجية أيما نسج.
كانت حياة شيخنا الفشني حافلة، حيث تعاون مع كبار الموسيقيين في عصره وفي مقدمتهم زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب، كما نال من مظاهر التقدير في مختلف البلدان العربية والإسلامية مثل إندونيسيا وماليزيا وباكستان وتركيا وأفغانستان وغيرها، وفي منتصف الستينيات اُنتخِبَ رئيسًا لرابطة العالم الإسلامي باعتباره علمًا من أعلام القراء، وقطبًا من أقطاب الإنشاد والتواشيح، وقدم العديد من التسجيلات للإذاعتين المصرية والبريطانية حتى أسدل الستار على حياته التي امتدت 71 عامًا(10).
الشيخ سيد النقشبندي.. عندما يُناجي الكَون ربه
هو الصوت الخاشع أو كما تقول اللغة الفارسية في تفسير مقاطع اسمه هو من ينقش حب الله على القلب، أشهر مبتهلي هذا الزمان فلا تخطئ أذنٌ في تفسير صوته ولا يتجمد قلبٌ في ترجمة خشوعه.
الشيخ النقشبندي صاحب أسلوب متوحد في التلاوة لم يسبقه إليه أحد، حيث كان يؤدي بطريقة تعبيرية ثم ينتقل مباشرة إلى الجواب مع عدم الالتزام بالطبقة الموسيقية، مستندًا إلى صوته العريض المكون من ثماني طبقات موسيقية فكان يقول الجواب، وجواب الجواب، وجواب جواب الجواب، والمؤكد أنه كمنشد ومبتهل يتفوق كثيرًا على نفسه بالقياس إلى تلاوة القرآن الكريم(11).
ارتبط صوت الشيخ النقشبندي أكثر ما ارتبط بشهر رمضان، حيث أصبح في عصره ثاني أعظم صوت في دولة التلاوة والإنشاد يصافح آذان المستمعين في رمضان بعد صوت الشيخ محمد رفعت، حيث اعتمد صوته في الإذاعة في الستينيات، ودفعته موهبته الخلاقة عبر الآفاق إلى تقديم نحو ألف قصيدة وموشح على امتداد مسيرته في الإذاعة المصرية وكذلك العربية والإسلامية(12)، إلى جانب تعاونه مع عبقري عصره الملحن «بليغ حمدي» في تقديم عددٍ من الابتهالات وصلت إلى أكثر من خمسة ابتهالات كان أول غيثها ابتهال: «مولاي.. إني ببابك».
غنى التقشبندي بعض أغاني أم كلثوم الدينية، وفي حديثه لمجلة «آخر ساعة» في ديسمبر عام 1969م صرح بأنه تربى على سماع صوت محمد عبد الوهاب وتأثر به كثيرًا منذ أن كان في العاشرة من عمره(13).
تُوفِّيَ الشيخ النقشبندي في مبنى التليفزيون العربي بكورنيش النيل بالقاهرة يوم 14 فبراير عام 1976م في أعقاب تسجيل بعض ابتهالاته لتذاع في شهر رمضان(14).
كثيرون يولدون بأسماءٍ لها شهرتها مثل الشيخ سيد النقشبندي الذي كان والده العالم «محمد النقشبندي» شيخ الطريقة النقشبندية وهي إحدى فرق الصوفية المعروفة، وكان من الممكن بأقل مجهود يظل الشيخ سيد النقشبندي ممن يفخر بهذا النسب المعروف إلا إنه اجتهد ولمع صوته في الابتهال والخشوع إلى الله الواحد القهّار حتى كان ما هو، ليس فقط الشيخ سيد بن عائلة النقشبندية بل سيد المُبتهلين أيضًا.
الشيخ نصر الدين طوبار.. بحر من الخشوع
«صوت الشيخ نصر الدين طوبار يضرب على أوتار القلوب»، هذا ما عنونت به إحدى الصحف الألمانية بعد تلألؤ صوت الشيخ في سماء ألمانيا، ربما لم يكن لهذه الصحيفة علم بأن هذا الرجل قد فشل في اختبارات الإذاعة ست مرات ولم ينجح إلا في السابعة بعد إصرار من آمنوا به، ولو كان هذا الرجل قد يأس لكنا نحن من خسرنا صوتًا لا يتكرر إلا كل فترة زمنية طويلة ولم نكن قادرين على تعويضه. وقد تأثر طوبار بالطرق الصوفية، وكان الفضل في ظهوره وانتشاره للفنان «زكريا الحجَّاوي»(15).
وحرص الشيخ نصر الدين طوبار خلال رحلة حياته على توضيح الفرق بين الإنشاد الديني والذكر، باعتبار أن الإنشاد الديني هو ما ينطبق على «قرّاء المولد والسيرة»، أما الذكر فهو الإنشاد في حلقت الذكر عند أصحاب الطرق الصوفية، بخلاف الابتهالات وهي شيء مختلف لأنها نتقائية وغير مُلحنة وفيها يبتهل الإنسان إلى ربه، وكلها فنون أجاد فيها عمالقة دولة الابتهالات والتواشيح الدينية(16).
للشيخ طوبار العديد من الابتهالات مثل: «يا مالك المُلك»، «مُجيب السائلين»، «جلّ المُنادي»، «بك أستجير»، «قبسٌ من الرحمن لاح»، وغيرها الكثير والكثير ممّا تعوّد الناس على سماعه قُبيل صلاة الفجر وفي شهر رمضان.
بلغ الشيخ نصر الدين طوبار منزلة كبيرة في دولة الابتهالات، فقد جاب العديد من الدول العربية والأجنبية وأنشد في «ألبرت هول» بلندن، لإحدى أشهر القاعات العالمية. إلى جانب توليه رئاسة أول فرقة للإنشاد الديني بأكاديمية الفنون(17).
على الرغم من تواجد الشيخ طوبار في عصر ذهبي للابتهالات والتواشيح الدينية، عصر زاخر بشيوخ عمالقة من أمثال الشيخ سيد النقشبندي، إلا إنه استطاع بسحر صوته الآخاذ أن يحجز لنفسه حيزًا في القلوب لا ينافسه فيه أحد، ولم لا وهو من قال بودٍّ بالغٍ وصفاءِ سريرةٍ: «يا رب عدت إلى رحابك».
الشيخ محمد أحمد عمران.. آخر العنقود
عندما يُكتب تاريخ الإنشاد الديني الذي تربع على عرشه الشيخ علي محمود، وسار على دربه وإلى جواره أعلام المشايخ؛ سوف يأتي اسم الشيخ محمد عمران في مقدمة الصفوف باعتباره مزيجًا مُتفردًا من كل هذه الأصوات المتميزة، وأحد أبرز الأسماء الجميلة المعطاءة التي كان المسلمون يستيقظون عليها لأداء شعائر صلاة الفجر من الإذاعة المصرية(18).
كان الشيخ عمران ذا قدرات فائقة، فقد أتم حفظ القرآن ونال إجازة تلاوة القرآن تم تعلم فنون وأحكام تجويده قبل أن يبلغ عامه الثاني عشر، ليترك بعدها محافظة سوهاج مسقط رأسه وينتقل إلى معهد المكفوفين بالقاهرة ليتعلم القراءات والنغمات والمقامات الموسيقية ليكون لها أثرها العظيم في أخذ ألباب وقلوب مستمعيه.
تم اعتماد صوت الشيخ عمران مبتهلًا للإذاعة في بداية السبعينيات، حتى صار في عقد الثمانينيات أحد أهم مبتهلي الإذاعة المصرية. تعاون مع كثير من موسيقيّ عصره مثل الموسيقار حلمي أمين الذي تشارك معه بصوته في ألحان برامج دينية غنائية منها «أسماء الله الحسنى» و«الحمد لله»، قبل أن يؤدي ألحان أخرى لرفيق دربه الشيخ سيد مكاوي، وعندما سمعه الموسيقار محمد عبد الوهاب أثنى على صوته كثيرًا وسجل معه بعض الابتهالات، كما حرصت إذاعات أبو ظبي، وعمَّان، والبحرين على تسجيل القرآن والابتهالات بصوته(19).
بعد كل هذا النجاح الكبير الذي حققه الشيخ عمران؛ لم تهتم أي جريدة مصرية أو التليفزيون بنشر خبر وفاته ولو حتى على سبيل التنويه، ليجهل مريدو ومُحبو صوت الشيخ سبب غيابه المُفاجئ قبل أن يتجاوز الخمسين(20)، ليضع الباحثون برحيله نهايةً لعصر الأئمة والمشايخ العظام الذين طالما حملوا على أكتافهم فن الابتهالات والتواشيح والإنشاد الديني.
الرحلة الطويلة لم تقتصر على هؤلاء فقط، فالأسماء كثيرة، فمن يستطيع أن ينكر فضل الشيخ «درويش الحريري» المُتبحر في علم الموسيقى والتلحين، وعلًم العديد من شيوخ وفناني زمنه ضروب الموسيقى ومقاماتها، والشيخ «إسماعيل سكر» المُبتهل والملحن المُبدع، بالإضافة إلى أصوات السماء الأخرى التي تنزَّلت على قلوب مستمعيها كالشيخ «عبد السميع بيومي» والشيخ «محمد الطوخي»، ومنهم من كانت لديه الرغبة في الجمع بين الابتهال مع قراءة القرآن ليصنعوا سحرًا فنيًا من نوعٍ خاصٍ مثل الشيخ «محمد محمود الطبلاوي»، ومنهم من سخّر فنه لخدمة الإنشاد الديني مثل الفنان «محمد الكحلاوي»، والقائمة تطول.
لم تتوقف الابتهالات والتواشيح الدينية عند أحد مهما كانت قامته فهو فنٌّ وُلِدَ كي ينمو ولا ينقطع بأيِّ حالٍ عن التطور، فكٍَثُر المبتهلون والمنشدون الدينيون لكنهم تفرعوا إلى نوعين؛ منهم من ظل على آثار الدرب القديم يقتفي الأثر جُل ما يستطيع مثل الشيوخ «محمود التهامي» و«محمد الهلباوي» و«علي الهلباوي»، و«إيهاب يونس»، ومنهم من أراد التجديد في القالب والشكل الفني ليصنع نوعًا جديدًا خاصًا به مثل «سامي يوسف» و«ماهر زين»، لكن الشيء الأكيد في ظل هذه المحاولات أن هذا النوع من الفن سعى على مدار عقود أن يمزج هذا الدين بمفردات آياته مع نوعٍ من الفن لينتج فنًّا مقرونًا بصفة الجمال، هذا الفن في حاجة إلى نقشبندي وطوبار آخرين يبعثاه من مرقده، ويصبح وطنًا لطالما كان الإبداع مستقره.
إعداد: هدير جابر
المصادر:
1- ياسر عبد الحميد حسين عرقوب (2014)، “الخصائص البلاغية في فن الابتهال”، مجلة كلية اللغة العربية بإيتاي البارود، جامعة الأزهر: حولية كلية اللغة العربية بإيتاي البارود، العدد الحادي والثلاثون، ص ص 281-362.
2- المرجع السابق، ص 289.
3- القاضي، شكري. (2001). عباقرة التلاوة في القرن العشرين. الطبعة الأولى. القاهرة: دار الجمهورية للطباعة.
4- المرجع السابق، ص ص 22-23.
5- المرجع السابق، ص 23.
6- خليل إبراهيم، إبراهيم. (2006). أصوات من السماء. الطبعة الأولى. القاهرة: سلسلة كتاب صالون المرصفي.
7- القاضي، شكري، مرجع سابق، ص 54.
8- المرجع السباق، ص 54.
9- المرجع السابق، ص 54.
10- المرجع السابق، ص 55.
11- المرجع السابق، ص 116.
12- المرجع السابق، ص 116.
13- المرجع السباق، ص 116.
14- المرجع السباق، ص 116.
15- السعدني، محمود. (1996). ألحان السماء. الطبعة الأولى. القاهرة: دار أخبار اليوم.
16- القاضي، شكري، مرجع سابق، ص 56.
17- المرجع السابق، ص 56.
18- المرجع السابق، ص 204.
19- المرجع السابق، ص ص 205-206.
20- السعدني، محمود. مرجع سابق، ص 103.