الاقتصاد عندما يحيي ويميت

Religion_0263-S

الاقتصاد

تتميز العلوم الطبيعية في الغالب بقُدرة الباحث على إجراء تجارب مُختبرية على الحيوانات في البداية ومن بعدها تجارب سريرية على أعداد محدودة من البشر، عند اقتراح طُرق جديدة للعلاج، أو علاجات جديدة لأمراض لم يكن لها علاج مُسبقًا، وفي حالة فشل تلك الطُرق أو العلاجات فإن النتائج السلبية تبقى محصورة ضمن هذه الأعداد التي خضعت للتجارب فقط، على عكس علم الاقتصاد -وبخاصة الاقتصاد السياسي- الذي ينحصر مجال تطبيقه في مستوى الدولة بأكملها، وعلى جميع سُكانها دون استثناء، لذلك فإنه حال فشل النظريات الاقتصادية أو عدم قُدرتها على  تعديل نفسها في الوقت المُناسب فإن أعداد الضحايا تكون بالآلاف بل وأحيانًا بالملايين، ونستعرض في هذا المقال اثنتين من ممارسات علم الاقتصاد والتي سببت كواثر عالمية كُبري راح ضحيتها آلاف من البشر وكيفية قيام الاقتصاديين بتعديل المسار وإنقاذ آلاف الأرواح الأخرى.

الكساد الكبير

شهد يوم الخميس الـ 29 من أكتوبر عام 1929م واحد من أسوء الانهيارات في تاريخ سوق الأسهم الأمريكية، إذا انخفضت أسعار الأسهم بنسبة 29.5% في ثلاثة أيام متتابعة نهاية باليوم المذكور[1]، فيما سُمي لاحقًا بالخميس الأسود والذي قاد لاحقًا لسلسة من الأحداث الاقتصادية أدت لما عُرف تاريخيًا بالكساد الكبير والذي استمرت آثاره الاقتصادية حتى عام 1933م، حيثُ انخفض الانتاج الصناعي في الولايات المُتحدة الأمريكية بنسبة 47% والناتج الإجمالي المحلي بنسبة 30%، بينما انخفضت الأسعار بنسبة 33% وارتفعت مُعدلات البطالة لأعلى مُعدلاتها في تاريخ الولايات المُتحدة بنسبة تتجاوز 20%، كذلك اجتاحت آثار الكساد الكبير تقريبًا مُعظم دول العالم إذ انخفض الانتاج الصناعي لألمانيا، فرنسا، كندا وإيطاليا بنسب 41.8%، 31.3%، 42.4% و 33% على التوالي[2].

فشل اليد الخفية

ساد قبل هذه الأحداث -الولايات المُتحدة والعالم- مذهب اقتصادي عُرف بالمذهب الكلاسيكي، من بين أهم رواده، آدم سميث مؤسس علم الاقتصاد، ودافيد ريكاردو وتوماس مالتوس، وقد كان من بين أهم ما يدعو إليه هذا المذهب; عدم تدخل الدولة في الاقتصاد، وبقائها على الحياد مع اكتفائها بأداء الأعمال التي يعجز عن القيام بها المُستثمر الفرد فيما يُعرف باسم مبدئ الدولة الحارسة (Night-watchman state)، بالإضافة إلى مبدئ اليد الخفية (Invisible hand) والذي يتلخص مضمونه في أن سعى الأفراد لتحقيق مصالحهم الفردية سيؤدي بالتأكيد -حتى دون سعى منهم- لتعظيم مصلحة المُجتمع ككل بالإضافة إلى أن السوق ستصحح نفسها بنفسها دونما تدخل، واستخدم المبدآن للقول بأن الأسواق التي يعمل فيها الأفراد لتحقيق مصلحتهم الذاتية، تقدم أفضل النتائج الاجتماعية والاقتصادية الممكنة، ودون أي تدخل من الدولة لن يجلب سوى الاختلال لهذه الأسواق.

لذلك فعند انهيار الأسواق في عام 1929 اعتقد الرئيس الأمريكي هربرت هوفر أنه ليس هناك حاجة لتدخل الحكومة، لكن من الأفضل انتظار تأثير اليد الخفية في الحدوث وتصحيح الوضع، لكن على عكس ما توقع (هوفر) لم يحدُث أي تقدم وتفاقمت تأثيرات الكساد، فانهارت البنوك والشركات الأمريكية الصناعية والمالية، وبدأ الشعب الأميركي يلوم هوفر على الكارثة، وارتفعت المطالبة بمزيد من العمل الحكومي، خاصة دفع إعانات مباشرة إلى ملايين الفقراء العاطلين عن العمل. لكن اعتقادًا منه أن هذه الإعانات ستؤدي إلى اعتياد الأفراد على الأخذ بدون عمل، مما سيقلل من إرادة الأمريكيين في إعالة أنفسهم، فقد عارض هوفر بشدة دفع مبالغ إعانة فيدرالية مباشرة للأفراد[3].

الكينزيين والصفقة الجديدة

انتقد (جون مينارد) كينز المذهب الكلاسيكي وقال بأنه لا يُمكن التغلب على الكساد إلا بمجموعة أخرى جديدة من المبادئ أهمها تدخل الدولة لتصحيح مسار الاقتصاد وإخراجه من أزمة الركود التي يُعاني منها، وأن ذلك لن يتحقق إلا بهجران المبادئ مثل الدولة الحارسة واليد الخفية، ولذلك فإن على الدولة أن ترفع من مُعدلات انفاقها حتى لو اضطرت للاستدانة، وذلك لإبقاء الناس يعملون بشكل كامل، حيثُ أن القطاع الخاص لن يستثمر ما يكفي لإبقاء الإنتاج في المستوى الطبيعي وإخراج الاقتصاد من الركود. لذلك دعا الاقتصاديون الكينزيون الحكومات لزيادة الإنفاق الحكومي وخفض الضرائب.

وفي 4 مارس 1933م خسر هوفر الانتخابات الرئاسية الأمريكية لصالح منافسه الرئيس (فرانكلين روزفلت) الذي بدأ أول مائة يوم من عهده ببرنامج إصلاحي بُني في الأساس على أفكار المدرسة الكينزية  سُمي بالصفقة الجديدة (New Deal)، والذي بموجبه توسعت الحكومة في الإنفاق فأنشأت 42 وكالة فدرالية جديدة، تم هيكلتها لخلق فرص العمل، وتوفير التأمين ضد البطالة، بالإضافة لصنع برامج جديدة لا يزال العديد منها موجودا حتى الآن حيث  تشمل الضمان الاجتماعي ولجنتي الأوراق المالية والبورصات والمؤسسة الاتحادية للتأمين على الودائع. ساعدت هذه البرامج  في إخراج الاقتصاد من كبوته جزئيًا، ومنعت كساد آخر كبير، حتى أحداث الحرب العالمية الثانية[4].

القفزة الكبرى

بعد أحداث الحرب الأهلية الصينية، خرج الحزب الشيوعي الصيني منها مُنتصرًا على غريمه القومي، فأعلن مباشرة قيام جمهورية الصين الشعبية أكبر دول العالم من حيث عدد السُكان على إقليم شاسع في حالة تخلف اقتصادي يعتمد في الأساس على الزراعة، صاحبت هذه الظروف أحلام قادة الحزب والدولة الجديدة بتحويل الصين إلى قوة عالمية اقتصادية سياسية وعسكرية، ولم يكن هذا ليحدث في ظل الوضع الاقتصادي المُتردي في البلاد، لذلك بدأ (ماو تسي-تونج – Mao Zedong) عام 1947م برسم خطة التحول إلى اقتصاد صناعي، وأطلقها عام 1948م تحت اسم القفزة الكُبرى للأمام (Great leap forward)، والتي سيطرت على البلاد وكُرس لإنجازها الاقتصاد الصيني بأكمله لمُدة ثلاثة سنوات حتى عام 1960م، لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السُفن وتكبدت الصين خسائر بشرية بعشرات الملايين.

الإنسان بديل للآلة

واجه الحزب الشيوعي في بداية الخمسينيات مُشكلة رأس المال الذي يجب توفيره لشراء الآلات التي سيعتمد عليها لاحقًا للتحول الصناعي، حيثُ كانت البلاد قد خرجت لتوها من حرب مع اليابان، ثم حرب أهلية طاحنة، ولم يكن لديها ما يكفي لشراء تلك الآلات، كما أن القوى الكُبرى الغربية لم تكن راغبة في إقراض الصين بسبب النهج الشيوعي للحزب الحاكم، كذلك فشل النموذج السوفيتي للتصنيع في الصين، والذي يعتمد في الأساس على تحويل رأس المال المكتسب من بيع المنتجات الزراعية إلى آلات ثقيلة، بسبب عدم قابليته للتطبيق في الصين لأنها على عكس الاتحاد السوفيتي، كان لديها كثافة سكانية كبيرة للغاية ولم يكن لديها فائض زراعي كبير يمكن معه تجميع رأس المال[5].

لذلك قرر (ماو) الاعتماد على أكثر عناصر الانتاج توافرًا لديه وهو البشر بدلًا من الآلة، وذلك عن طريق تنظيم أعداد كبيرة من السكان، لا سيما في المناطق الريفية واسعة النطاق، لتطوير أفران صلب صغيرة في كل قرية، بهدف تسريع عملية التصنيع. وبناءً عليه تم تنظيم الفلاحين في فرق أشبه بالتنظيمات العسكرية، وتم إنشاء مطابخ مشتركة حتى تتفرغ النساء للعمل. ثم بُدأ في تنفيذ البرنامج بسرعة من قبل كوادر شيوعية شابة مُتحمسة أمرت بذبح العديد من حيوانات المزرعة بالإضافة إلى تخصيص مُعظم القوى العاملة للعمل في أفران الصُلب، ما أدى في النهاية إلى انهيار كبير للزراعة، فنقصت المحاصيل الغذائية بشدة، كما صاحب هذه الأخطاء في التنفيذ سلسلة من الكوارث الطبيعية، ما نتج عنه في النهاية مجاعة ضربت جميع أرجاء البلاد، تحولت بعد ذلك إلى كارثة وطنية أدت إلى وفاة ما مجموعه 23 مليون شخص بسبب الجوع في أقل التقديرات[6] و50 مليون في أقصاها[7].

الرأسمالية هي الحل

ظلت الصين ترزح تحت حكم ماو حتى عام 1976م في فقر مُدقع مُتبنية مبادئ الاشتراكية، وما إن توفى ماو حتى وصل دينج شياو بينج (Deng Xiaoping) بفكر جديد مُختلف تمامًا عن سابقه، مُعتمدًا على المبادئ الرأسمالية في إعادة هيكلة الاقتصاد الصيني وإخراجه من كبوته التي عايشها مُنذ الحرب الأهلية والتي وصلت ذروتها في فترة القفزة الكُبرى، لذلك بدأ أولًا بخفض النمو السُكاني عن طريق برنامج التخطيط الأسري الأكثر صرامة في العالم «سياسة الطفل الواحد»، من أجل السيطرة على الزيادة السُكانية وإطلاق العنان للنمو الاقتصادي. ثم اتجه إلى إدارة اقتصادية لا مركزية وتخطيط رشيد ومرن طويل الأجل لتحقيق نمو اقتصادي فعال تحت السيطرة. لذلك تم منح المزارعين الصينيين السيطرة التامة على إنتاجهم وأرباحهم، وهي سياسة أدت إلى زيادة الإنتاج الزراعي بشكل كبير في غضون بضع سنوات من بدئها في عام 1981م. وشدد (دنغ) على المسؤولية الفردية في صنع القرارات الاقتصادية وخصص حوافز مادية كمكافآت للتصنيع والابتكار، وشكل كوادر من الفنيين والمديرين المهرة  المتعلمين لقيادة التنمية في الصين، ثم حرر العديد من المؤسسات الصناعية من سيطرة الحكومة المركزية ومنح مديري المصانع السلطة لتحديد مستويات الإنتاج ومتابعة أرباح شركاتهم، وفتح الشركات الأجنبية[8].

هكذا يتضح لنا التأثيرات الكُبرى لعلم الاقتصاد على حياة البشر، وكيف أن خيارات الاقتصاديين والقادة قد تُسبب كوارث تتضرر منها مُجتمعات كاملة، بل وربما تتعدى ذلك لتُصبح ذات آثار عالمية مُدمرة على حياة سُكان الكوكب بأكمله.

إعداد: محمد شادي
مراجعة: عبدالله أمين
تحرير: زياد الشامي

[1] stock market crash of 1929 | Summary, Causes, & Facts [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2018 Jun 10]. Available from: https://www.britannica.com/event/stock-market-crash-of-1929.

[2] Great Depression | Definition, History, Causes, Effects, & Facts [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2018 Jun 10]. Available from: https://www.britannica.com/event/Great-Depression.

[3] MURRAY NR. AMERICA’S GREAT DEPRESSION. STELLAR EDITIONS; 2016,PP 185:208.

[4] Johnson HG. The Keynesian revolution and the monetarist counter-revolution. The American Economic Review. 1971 May 1;61(2):1-4.

[5] Great Leap Forward — Britannica Academic [Internet]. [cited 2018 Jun 11]. Available from: http://08107i2km.1106.y.https.academic.eb.com.mplbci.ekb.eg/levels/collegiate/article/Great-Leap-Forward/37865#.

[6] Peng X. Demographic consequences of the Great Leap Forward in China’s provinces. Population and development review. 1987 Dec 1:639-70.

[7] La Chine creuse ses trous de mémoire [Internet]. Libération.fr. 2011 [cited 2018 Jun 22]. Available from: http://www.liberation.fr/planete/2011/06/17/la-chine-creuse-ses-trous-de-memoire_743211.

[8] Gittings J. The changing face of China: From Mao to market. OUP Oxford; 2006 Jul 6.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي