مع هبوب العاصفة تظلم السماء وينتشر صدى قعقعة الرعد في الأفق، وفجأة بدون مقدمات يَضرب البرق. هذا المشهد رغم كونه مألوفًا للجميع ومُتكرر باستمرار في جميع أنحاء الكوكب، إلَّا أنه لا يخلو من شعور الغموض، ولكن الآن أصبح هذا الغموض أكثر عمقًا، مع اكتشاف أن البرق يمكن أن يَنتج عنه إفناء مادة مع مادة مضادة.
ويُعد أول من تنبأ بوجود المادة المضادة هو الفيزيائي البريطاني “بول ديراك”؛ وذلك في عام 1928 عندما حاول وضع معادلة تُوفق بين ميكانيكا الكم والنظرية النسبية الخاصة. وكانت النتيجة أنه حصل على معادلة لها حلان، مثل x2=4 ، إذن (x=2 أو x=-2)؛ لذلك يمكن أن يكون لمعادلة ديراك حلان، أحدهما أنْ يكونَ الإلكترون طاقته موجبة، والآخر أن يكون طاقته سالبة.
ولكن الفيزياء الكلاسيكية والمنطق السليم يَفترض أن تكون طاقة الجسيمات موجبة، ونتيجة لذلك توقع ديراك أن كل جسيم له جسيم مطابقٌ ولكن بشحنة معاكسة، على سبيل المثال مقابل الإلكترون يوجد مضاد الإلكترون (يسمى بوزيترون)، وهما متماثلان بكل الطرق فيما عدا الشحنة، فالبوزيترون له شحنة موجبة على عكس الإلكترون سالب الشحنة، وكذلك الأمر بالنسبة لباقي الجسيمات، فهناك بروتون ومضاد بروتون ونيوترون ومضاد نيوترون وذرة كاملة ومضادٌ لها. ويَعتقد بعض العلماء بوجود أكوان كاملة مصنوعة من المادة المضادة، وتم اكتشاف المادة المضادة بالفعل عام 1933 من قبل العالم “كارل اندرسون”.
وجدير بالذكر أنه عندما تتقابل المادة مع المادة المضادة ينتج عن ذلك إفناءٌ لكلٍ منهما، ويكون ذلك الإفناء على شكل فوتونات أشعة غاما عالية الطاقة وذلك طبقا لمعادلة أينشتاين لتكافؤ الطاقة والكتلة (E=mc2).
في دراسة تعاونية نُشرت في مجلة (Nature)، يصف فيها باحثون من اليابان كيف تتفاعل أشعة غاما الناتجة من البرق مع الهواء لإنتاج نظائر مشعة وأيضًا “بوزيترونات” -وهي مكافئ المادة المضادة للإلكترونات. حيث يتم تسريع الجسيمات المشحونة نتيجة المجال الكهربي المرافق للبرق إلى سرعات تقترب من سرعة الضوء، ومن ثَم يتم كبح تلك الجسيمات نتيجة اصطدامها بأنوية ذرات العناصر في الغلاف الجوي مما يَنتج عنه أشعة انكباح على هيئة أشعة غاما التي تتفاعل مع الهواء فيما بعد.
يقول “ترواكي إنوتو” من جامعة كيوتو، والذي يقود المشروع:
«كنّا نعلم بالفعل أن الرعد والبرق يبعثان أشعة غاما، وافترضنا أنهما قد يتفاعلان بطريقةٍ ما مع نواة العناصر البيئية في الغلاف الجوي. في فصل الشتاء، تكون المنطقة الساحلية الغربية في اليابان مكانًا مثاليًا لمراقبة البرق القوي والعواصف الرعدية؛ لذلك بدأنا عام 2015 ببناء سلسلة من الكواشف الصغيرة لأشعة غاما، ووضعناها في مواقع مختلفة على طول الساحل، ولكن بعد ذلك واجه الفريق مشاكل تمويلية. ولمواصلة عملهم، والوصول إلى نطاق واسع من المهتمين المحتملين في أسرع وقت تَوجب علينا الاتجاه إلى الإنترنت، فقمنا بإنشاء حملة تمويل جماعي من خلال موقع (academist) حيث شرحنا منهجنا العلمي وأهدافنا للمشروع، وبفضل دعم الجميع تمكّنا من تحقيق هدفنا الأصلي للتمويل».
بفضل النجاح الذي حققه الفريق، قام الفريق ببناء المزيد من أجهزة الكشف عبر الساحل الشمالي الغربي لجزيرة “هونشو” اليابانية.
ثُم في فبراير عام 2017، تم تركيب أربعة أجهزة كشف في مدينة “كاشيوازاكي”، وسَجلت الكواشف في مدينة “نيغاتا” ارتفاعًا كبيرًا لأشعة غاما مباشرةً بعد حدوث صاعقة على بعد بضع مئات من الأمتار.
لقد أدرك الفريق أنهم كانوا يرون وجهًا خفيًا جديدًا للبرق. فعندما حللوا البيانات، وَجد العلماء ثلاثة انفجارات أشعة غاما (بالإنجليزيّة: gamma-ray bursts) بشكلٍ واضح؛ الأول كان أقل من ملي ثانية واحدة في المدة، والثاني عبارة عن وهجٍ متعاقب لأشعة غاما (Afterglow)؛ والذي تحلل خلال عدة عشرات الميلي ثواني، وأخيرًا كان هناك انبعاثٌ مُطول يدوم حوالي دقيقة واحدة.
ويُوضّح إنوتو قائلًا:
«يمكننا القول أن الانفجار الأول كان ناتجًا عن ضربة البرق، ومن خلال تحليلنا وحساباتنا، حددنا في نهاية المَطاف أصول الانبعاثات الثانية والثالثة أيضًا. فالوهج المتعاقب الثاني، كان ناجمًا عن تفاعل البرق مع النيتروجين في الغلاف الجوي، فأشعة غاما المنبعثة في البرق لديها ما يكفي من الطاقة لضرب نيوترون من النيتروجين في الغلاف الجوي، وكان إعادة امتصاص هذا النيوترون عن طريق الجسيمات في الغلاف الجوي هو ما أنتج الوهق المتعاقب لأشعة غاما.
أما الانبعاث الثالث والمطول فكان ناتجًا عن تحلل ذرات النيتروجين فقيرة النيوترونات الغير مستقرة. وهذا التحلل تَنتج عنه بوزيترونات، والتي تصطدم لاحقًا مع الإلكترونات مما يُؤدّي إلى إفنائهم على هيئة أشعة غاما».
ويُضيف إنتوتو:
«كان لدينا هذه الفكرة بأن المادة المضادة هي شيء موجود فقط في الخيال العلمي، من كان يعلم أنه يمكن أن تمر فوق رؤوسنا في يوم عاصف؟ ونحن نعرف كل هذا بفضل داعمينا الذين انضموا إلينا من خلال موقع (academist)، ونحن ممتنون حقًا للجميع».
ولا يزال الفريق يحتفظ بأكثر من عشرة كاشفات على ساحل اليابان، ويتم تجميع البيانات باستمرار، وهم يتطلعون إلى اكتشافاتٍ جديدة قد تكون بانتظارهم، ويأمل إنوتو أن تستمر مشاركة المواطنين العاديين في البحث، وتوسيع حدود الاكتشاف العلمي.
ترجمة: محمد عزت
مراجعة: محمد المصري
تَدقيقٌ لُغَوِيّ: محمود خليفة