قد يبدو أنّ الميتافيزيقا لا تعدو كونها مجرّد جزء من الفلسفة، ذلك الجزء الذي يعالج المشكلات التالية: هل ثمة وجود للعالم الخارجي؟ ما هي العلاقة بين النفس والجسد؟ هل ثمة إله؟ وكذلك نجد أنّ كلمة (ميتافيزيقا) تُستعمل كمرادفة لكلمة (فلسفة). وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان (دالمبير) قد لاحظ أنّ (الميتافيزيقيا هي العلم بعلل الأشياء)، وكذلك أكّد في الخطاب التمهيدي للموسوعة: أنَّ «لكلّ إنسان ميتافيزيقاه الخاصة وعمله الخاص، والحال أنّك لو سألت رسامًا أو شاعرًا أو موسيقيًا أو مهندسًا، مجبِرًا إياه على تقديم تفاصيل حول أعماله، فإنك تكون قد أتيت به إلى مجال الميتافيزيقا الخاصة بفنه».
وبهذا المعنى، فإننا عندما نتساءل في مجال الأخلاق عمّا هو أساس الواجب، وعندما نتساءل في مجال فلسفة العلوم عن قيمة كل من الرياضيات والفيزياء، فإننا نكون قد مارسنا الميتافيزيقا بملء معنى الكلمة.
ولكن مصطلح (الميتافيزيقا) يُستعمل أيضًا في معنى آخر أكثر محدودية حيث أنّ كبار الفلاسفة عبر التاريخ قد أعطوا لهذا المصطلح دلالات جد مختلفة، فاستخدموها للإشارة إلى نوع من أنواع الدراسات، أو إلى مفاهيم للفلسفة يجري نقدها حينًا أو تمحيضها التأييد حينًا آخر.
ولنتوقف الآن عند بعض مفاهيم الميتافيزيقا في أنساق عدد من الفلاسفة الكبار.
أرسطو
جرى اختراع كلمة (ميتافيزيقا) في القرن الأول قبل الميلاد من قبل (أندرونيكوس دي رودس)، ناشر مؤلفات أرسطو، للإشارة ضمن مجموعة المخطوطات الأرسطية إلى تلك التي كتبها مباشرة بعد مؤلفاته حول الفيزيقا (المصطلح ميتا يعني باليونانية، أول ما يعني: بعد). والحال أنّ تراث الفلسفة القروسطية قد كرّس للميتافيزيقا موضوعًا نمطيًا واحدًا، هو ذلك الذي تتضمنه مؤلفات المرحلة ما بعد الفيزيقية أي الفلسفة الأولى التي تعالج موضوع الكينونة بما هي كذلك وبما هي موجودة، شروط الوجود بشكل عام، الأنواع المختلفة للعلل، والشرط الأول لوجود جميع الكائنات الأخرى، أي الله.
وكذلك نجد كلمة (ميتا) اليونانية تعني: فوق الشيء، أعلى منه. من هنا استمدّ بعض الفلاسفة فكرتهم عن تفوّق الميتافيزيقا على المعرفة الفيزيائية والعلمية، كما أنَّ فكرتهم عن معالجة الميتافيزيقا لأمور يتعذّر على العلم بلوغها. وقد رفض العلماء والوضعيون، بضرب من ردة فعل عنيفة، مفهوم الميتافيزيقا الموروث ونظروا إليه نظرة لا تخلو من تحقير. قد غدت الميتافيزيقا معهم مرادفة لكل ما هو تافه وغير حقيقي. وفي هذا السياق يرى (فولتير) في الميتافيزيقا مجرّد لغو فارغ حيث يؤكد في كتابه (كنديد): عندما يتحدث شخص ما إلى شخص آخر بحيث أنّ لا الأول يفهم ما يقول، ولا الثاني يفهم ما يسمع، فإنّهما يمارسان نوعًا من الميتافيزيقا. إنّ الفكرة عن الميتافيزيقا تقابل المعرفة العلمية وتنشد المطلق خارج قبضة العلم، نجدها لدى كانط وكونت وماركس (على ما بينهم من اختلاف) الذين تصدّوا لنقد ادّعاءات الميتافيزيقا.
كانط
يَعتبر كانط أنّ العقل البشري يهدف في توقه نحو المعرفة، إلى توحيد مختلف الظواهر التي تقدّمها لنا التجربة. وعلى سبيل المثال، نتصوّر وحدة جميع ظواهر حياتنا العقلية فنتحدّث عن جوهر النفس، أو نتصوّر علّة أولى تصدر عنها جميع ظواهر الكون، فنتحدّث عن الله. ولكن عندما يتعالى العقل على فكرة النفس أو فكرة الله بإخضاعهما للتجربة، فإنه ينتهي إلى أن يدور في حلقة مفرغة ويصطدم بنقائض ميتافيزيقية غير قابلة للبرهنة.
أوغست كونت
إنّ التفسير العلمي بالنسبة لكونت يأتي في مرحلة مباشرة عقب التفسير اللاهوتي، وقد نُسب في السابق مصدر جميع الظواهر إلى تدخّل إلهي، وذلك بواسطة تفسيرات لفظية مبهمة كأنّ يتم الحديث -في القرون الوسطى- عن الفضيلة التنويمية للأفيون. وعلى العكس من ذلك، نجد أنّ التفسير الوضعي يكتفي بإقامة علاقات ثابتة بين الظواهر التي تتبع بعضها عبر التجربة. والحال أنّ التفسير الميتافيزيقي لا يملك بالنسبة لكونت سوى قيمة تاريخية اكتسبها من إطاحته بالتفسير اللاهوتي، مع العلم أنّ نطاق بحث الميتافيزيقا محض سلبي بحيث أنه لا يُنتج أيّة معرفة حقيقية.
ماركس
وضع كل من إنجلز ولينين وبوخارين التصوّر الجدلي مقابل الفلسفة التي نجدها عند ماركس في صورة ميتافيزيقا لا يتردد في توجيه سهام نقده ضدها. فبالنسبة لهؤلاء الماركسيين، تدّعي الميتافيزيقا عن خطأ وجود حقائق ثابتة ونهائية كما تهدف إلى تقديم حقائق ساكنة ودائمة كالمُثُل الأفلاطونية. وعلى طرفي نقيض يقف المنهج الجدلي الذي ينظر إلى الأشياء جميعها بوصفها عمليات، ويهدف من خلالها إلى تجديد المعنى التاريخي للمستقبل. والحال أنّ عمليات المعرفة في التصوّر الجدلي ليست نهائيّة أبدًا بل هي مرتبطة باللحظة التاريخيّة التي تمارَس فيها. والحال أيضًا أنّ المعرفة هي في تقدُّم دائم ضمن سياق التاريخ، ومَصدر المعرفة لا يمكن أن يكون على الإطلاق نهائيًا بحيث تنتفي إمكانيّة وجود حقائق محدّدة، مطلقة، ثابتة، وبكلمة واحدة: ميتافيزيقية.
ترجمة: مايكل عطاالله
مراجعة علمية: عصام أسامة
مراجعة لغوية: رنا السعدني
تحرير: هاجر عبدالعزيز