«لكل المقهورين أجنحة»: رضوى باقية

رضوى-باقية
||

حين أُعلِنَ عن الكتاب، شعرتُ بفرحة خفية في داخلي، شعرتُ بأن رضوى هنا؛ كأنها لم تمت أبدًا. شعرتُ أن حضور رضوى الأدبي يضفي مزيدًا من الواقعية على عالمنا الكئيب. لم يتح لي الوقت قراءته إلا اليوم. قرأته، وأعتقد أن قراءته من أفضل القرارات التي اتخذتها.

بدايةً، أنا أحبُّ السيّدة رضوى، وأحبُّ أسلوبها الأدبيّ، وأشعر دائمًا بأن الحياة ستكون أجمل لو كنا في زمنٍ سابق، وكانت رضوى حاضرة الجسد والروح.

مع رضوى تقرأ، فتستشعر الأفول.. إنه غروب لكل ذلك التاريخ الجميل والمؤلم الذي عاشه جيل الكاتبة، قضيّة فلسطين التي كانت صُلب رسالتها والتي ظلّت طوال حياتها تهتم بها وتروي قصص المآسي.


واليوم في ذكراها، نستعيدها من جديد، نجدها حيةً باقية، مُتميزةً -كعادتها- على الجميع بقلبٍ كبير ينبُض بالتعاطف ويرسم الاحلام العذبة على أوراق المقالات والروايات، أو في الصفوف الدراسية حيثُ كانت تحاضر، من قراءة رضوى تصلنا روح عظيمة لا نقدر على تفسير سبب الروعة فيها، هل هو جمال الأسلوب الكتابي؟ أم كمية الصدق والتعاطف التي تحوي ما تكتبه؟ أم هو غنى تجربة الكاتبة في الحياة؟ أم هي شخصيتها التي تفرض الاحترام على كل من يتعرف عليها؟


حول الكتاب

أنا لستُ على يقينٍ إن كانَ لكلّ المقهورين أجنحة أم لا. أعتقد أن في تلك الأيّام نرى العكس تمامًا! 
ولكن حين نظرت إلى عنوان الكتاب لأوّل مرة، تملّكني نوعٌ طفوليّ من الضيق، هل حقًا لكل المقهورين أجنحة؟ لا يهم، يمكنني أن أتجاوز ذلك. ما لم يمكنني تجاوزه فعلًا هو استعادة تلك النبرة الجميلة الطيّبة، وبحّة الصوت المُحبّبة، التي ما أن تلبث تقرأ ذاك الكتاب إلا وتجدها حاضرة في أذنيك، لتشعرك تمامًا أن: «الأستاذة تتكلَّم».. وأن رضوى باقية!

يأتي كتاب «لكل المقهورين أجنحة» بمثابة تغريدة أخيرة لرضوى عاشور التي بقيت في قلوب وعقول محبيها حتى هذه اللحظة، لا زالوا يستعيدون كلماتها ومقولاتها كما شاءوا، ولا تزال تمثل لهم ذلك النموذج الاستثنائي للمرأة التي استطاعت أن تجمع باقتدار بين الفن والأدب والدراسة الأكاديمية، والمشاركة بفعالية في نشاطات المجتمع الثقافية والسياسية المختلفة، يأتي هذا الكتاب ليجمع ما تناثر من مقالاتها التي كتبتها في مناسبات مختلفة، وليوثِّق عددًا من الأحداث والمواقف التي عاشتها وشاركت فيها.

«في سالف الأيام كان لكل الأفارقة أجنحة، كانوا قادرين على التحليق كالطيور.. يحكي الراوي عن امرأة تعمل في المزرعة ولم تتعافَ بعد من الوضع.. يصرخ وليدها فتجلس لترضعه. يضربها سائق العبيد، تقوم للعمل ولكنها تسقط من شدة الوهن. يضربها من جديد، هكذا حتى تتطلع المرأة لشيخ إفريقي من العبيد وتقول بلغة لا يفهمها سادة المزرعة: هل حان الوقت يا والدي؟ فيجيب: حان الوقت يا ابنتي. فإذا بالمرأة تطير بصغيرها وقد نبتت لها أجنحة.. يتكرر المشهد مع عبد آخر وحين ينتبه سيد المزرعة ونائبه وسائق العبيد إلى أن الرجل المُعَمر هو مصدر الكلمات التي تجعل العبيد تطير يهجمون عليه لقتله، لكن الشيخ يضحك ويوجه كلامه بصوت جهوري لكل عبيد المزرعة… وفي لحظة كانوا يحلقون كسرب من الطيور.. الرجال يصفقون والنساء يغنين والأطفال يضحكون.. ولم يكونوا خائفين..»

يأخذ الكتاب اسمه من حكاية في التراث الشعبي الأفريقي الأمريكي، ترمز بوضوح إلى ما يمتلكه المقهورون من إمكانيات تجعلهم رغم كل معاناتهم وآلالمهم قادرين على النهوض بل الطيران من جديد. قُسم الكتاب إلى 7 أبواب تبعًا لموضوعاته، فيما سيجد القارئ أنه كان من الممكن جدًّا أن يقسَّم إلى أربعة أقسام هي: في اللغة والأدب ـ فلسطين ـ الجامعة والثورة ـ الرفاق)، ويمكن ضم البابين الأخيرين (كلمات قبول الجوائز ـ مقالات مكتوبة بالإنجليزية) ببساطة للأقسام السابقة تبعًا لنوعها.

مقالات رائعة متنوعة كتبتها الراحلة رضوى عاشور حول الموضوعات التي تهتم بها: الروايات، النقد الأدبيّ، أروقة الجامعة، زوجها مُريد وابنها تميم، أدب السجون، فلسطين المأساة التي كانت شغلها الشّاغل، وكثير من القصص والحكايا المُعبّرة التي جُمِعت ونُشِرَت بعد خمس سنين من رحيلها.

شجون النقد والكتابة

يبدأ الكتاب بأهم الأجزاء اقترابًا من عالم القارئ العربي، وهو ما يتعلق بالكتابة الأدبية والرواية بشكلٍ خاص، ذلك المجال الهام الذي عرَّف الناس على رضوى عاشور وجعلها في فترة بسيطة واحدة من أهم الأدباء في الوطن العربي بشكلٍ عام، يجمع هذا الباب بين الحديث المقالات العادية والشجون الخاصة التي كتبتها رضوى عاشور تعليقًا على أعمالها الأدبية أو قدمت بها حفلات التوقيع الخاصة برواياتها، وكذلك عددًا من المقالات التي تعد دراساتٍ أدبية ونقدية تكشف فيها رضوى عاشور الأكاديمية والناقدة عن عدد من الكتب والمؤلفات الهامة في حقل الرواية العربية وتتناول فيه بعض الظواهر الأدبية والنقدية بالشرح والتحليل.

تتحدّث رضوى عاشور عن بدايات الرواية في العالم العربي، وترجع بالفضل لأهله في جيل الرواد ممّن حملوا على عاتقهم همّ كتابة الرواية في بدايات القرن العشرين، وتلفت الأنظار إلى رواية لم يتم التركيز عليها كثيرًا في الأدب العربي هي «السّاق على السّاق فيما هو الفارياق» لأحمد فارس الشادياق، وسيلاحظ القارئ أن الحديث عن هذه الرواية يتكرر في الكتابة في الجزء الخاص بالأدب هنا، ثم سيظهر مرة أخرى في المقالات المترجمة عن الإنجليزية، وتتناول بالتفصيل تلك العلاقة الملتبسة بين الرواية والتاريخ.

كما تشير أيضًا بشيءٍ من الإيجاز في هذا الباب إلى عددٍ من المناهج النقدية الحديثة مثل المادية الثقافية والتاريخية الجديدة. كما تفرد مقالاً/ دراسةً أخرى عن أدب السجون في العالم العربي تمر فيه على روايات «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، ويوميات الواحات لصنع الله إبراهيم وكتاب «معتقل لكل العصور » لفوزي حبشي و «تلك العتمة الباهرة» للطاهر بن جلون .. وغيرها.

بإيجاز، الكتاب عبارة عن تجميعة لمقالات متعددة لرضوى عاشور كانت قد نشرتها باللغتين العربية والإنجليزية، تتحدث فيها عن الثورة وفلسطين والأصدقاء واللغة. كما يحتوي على بضع كلماتٍ ألقتها في حفلات استلام الجوائز.

مقالات ثرية بحق. لغة مميزة وأسلوب يشد القارئ ويدفع به إلى إكمال المقال بلا كلل أو ملل.

أما أنا فيتأكد لي من كل ما قرأت أن رضوى مثال يُحتذى في الثقافة والوطنية والإنسانية ككل.. مقالات متنوعة ثرية ضمها هذا الكتاب شملت الحديث عن اللغة والثورة والرفاق وفلسطين.
ولأني أميل بطبعي إلى اللغة والأدب والوطن أحببت أكثر ما ورد فيه من تأملات وحكايا.
أما أسلوب رضوى فكعادته، لا يخطئه قارئها، فرضوى كما هي، لا زالت تميل إلى محاورت قارئها وكأنها تجالسه.. أسلوب حميم يفيض وعي ومعرفة.
تُعلِّمنا الأستاذة حتى في صوتها الأخير، ويبقي لنا أن نصغي ونفهم. وتبقى رضوى..

كتابة: هبة خميس

المصدر: لكل المقهورين أجنحة: اﻷستاذة تتكلم. Paperback, 319 pages Published October 8th , دار الشروق, 2019.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي