التشفير و صراع الكندي و فيجينير

crpto

|

كيف يصارع فيلسوف عربي مسلم توفي في القرن التاسع الميلادي مع خيميائي فرنسي عاش بعده بسبعة قرون ؟ و ما علاقة كلا الرجلين بعلم التشفير ؟

تحليل التكرار

ولد فيلسوف العرب أبو يوسف الكندي في البصرة سنة 800 للميلاد وبرع كأقرانه من علماء العصر الذهبي للإسلام في العديد من العلوم كالطب و الهندسة و الرياضيات. لكن شهرة الكندي الفلسفية حجبت إسهاماته التأسيسية في علم التشفير. في رسالته المعنونة “رسالة في استخراج الكتب المعماة” يشرح الكندي الشيفرات المعروفة في عصره, ثم يقدم للقارئ طرق فك هذه الشيفرات. يعتبر تحليل التكرار (أو التحليل الإحصائي) الذي ذكره الكندي أحد أهم طرق فك الشيفرات حتى يومنا هذا كما تعتبر هذه الرسالة مولد علم “تحليل الشيفرات” وهو العلم المعني بدراسة الشيفرات لكسرها.

يعتمد تحليل التكرار على الخصائص الإحصائية للغة التي تم كتابة النص الأصلي بها. فهنالك 28 حرفا في اللغة العربية لكن بعض هذه الحروف نادرة الإستخدام , كالضاد و الظاء ( تكرر حرف الظاء 7 مرات في هذه المقالة) , بينما يتكرر حرف الألف أكثر من أي حرف آخر (تكرر 545 مرة في هذه المقالة !). أما أكثر حرفين متتابعين تكرارا ً فهما (بالطبع) التعريف (تكررت 255 مرة في هذه المقالة). إذا استخدم العدو شيفرة إستبدال أو إنتقال (مثل شيفرنا قيصر و السكايتال اللذان تطرقنا لهما في المقالة السابقة). فإن مجرد معرفة الخصائص الإحصائية للغة النص المشفر كفيلة بفك تشفير النص و إستعادة النص الأصلي. فلنضرب مثلا :
النص المشفر : “بهب بخت بمتبخجيه بمنضزايه” , لغة النص الأصلي : اللغة العربية , خوارزمية التشفير : مجهولة , كلمة السر : مجهولة , الهدف : استعادة النص الأصلي

فك الشيفرة بتحليل التكرار :

ما هو الحرف الأكثر تكرارا ً في هذا النص القصير نسبيا ؟ إنه حرف الباء , فالباء تتكرر 6 مرات في نص من أربع كلمات !!! و نعلم من الخصائص الإحصائية للغة العربية أن حرف الألف هو أكثر حروف اللغة العربية تكرارا ً , إذا تم قلب حرف الألف لحرف الباء. هنا قد يقرر محلل النص أن يخمن أن النص تم تشفيره بشيفرة قيصر و أن كلمة السر هي 1 (أي أن الحروف كلها تم استبدالها بالحرف الذي يليها). ومن ثم يحاول فك تشفير الكلمات الأولى للتأكد من افتراضه. أو يمكنه إستخدام طريقة أكثر تعميما ً فيستبدل حرف الباء بحرف الألف و من ثم يستمر في استبدال الحروف باستخدام الخصائص الإحصائية للغة حتى يتضح له النص الأصلي بالكامل.

تكمن أهمية تحليل التكرار في أنه قضى على قدرة الشيفرات الإستبدالية في تشفير النصوص مما يسهل بشكل كبير في فك الشيفرات الإنتقالية البسيطة. إن السبب الحقيقي وراء قوة تحليل التكرار هو أن لغات البشرية ليست عشوائية بل تحتوي الكثير من التكرار حتى على مستوى الحروف فضلا ً عن الكلمات و التعبيرات اللغوية. و عندما يتم تشفير كل حروف الألف في هذا النص و استبدالها بحرف الباء. فإن الخصائص الإحصائية للنص تظل موجودة , كما إن شيفرات الانتقال قد تبعثر الحروف و فقط مما قد يغير الخصائص الإحصائية للكلمات ولكن ليس للحروف (وقد يبقي على بعض المقاطع مثل ال التعريف).

هنا ضرب علم التشفير في مقتل و أصبحت كل طرق التشفير المعروفة عرضة للكسر. لم تعد طرق التشفير الكلاسيكية كافية لإخفاء النصوص و بحلول عصر النهضة أصبح واضحا ً أن الملوك و الجيوش بحاجة إلى طرق تشفير أكثر تعقيدا ً.

شيفرة فيجينير

طرأت سلسلة طويلة من التعديلات على شيفرات الإستبدال خلال القرن الخامس عشر الميلادي. أقترح البعض تخصيص كلمة سر لكل مقطع من مقاطع النص المشفر , أو استخدام جداول للتشفير لكل سطر أو أكثر. بحلول القرن السادس عشر الميلادي , دمجت هذه الطرق في طريقة تشفير أبسط و أقوى , عصية على الفك بتحليل التكرار, و نسبت هذه الطريقة إلى الدبلوماسي و الخيمائي الفرنسي بليز فيجينير. تعتمد شيفرة فيجينير على استخدام كلمة كاملة (أو أكثر) كمفتاح للنص, مما يقضي على قدرة تحليل التكرار في كشف النص الأصلي. كيف ذلك ؟ , دعونا في البداية نطرح مثالا عن شيفرة قيصر.

شيفرة قيصر:
النص الأصلي: أنا أحب الباحثون المصريون.
كلمة السر: ببب ببب بببببببب بببببببب
النص المشفر: بهب بخت بمتبخجيه بمنضزايه

لقد تخيل فيجينير أن كلمة السر هنا (وهي تحريك الحرف بموضع واحد) تمثل حرف الباء. أي أن تحريك الحرف حرفين يمكن ترميزه بحرف التاء و لو تم تحريك الحرف بثلاثة مواضع فإن رمز هذا التحريك هو حرف الثاء و هكذا. في شيفرة قيصر و بما إن كل حروف النص يتم استبدالها بالحرف التالي مثلا ً , فإن كلمة السر لكل النص هي حرف الباء الذي يتكرر بعدد حروف النص. لكن فيجينير و مختصي التشفير في عصور النهضة اقترحوا تحويل كلمة السر إلى كلمة كاملة أو أكثر.

شيفرة فيجينير:

النص الأصلي: أنا أحب الباحثون المصريون. – = أ ن ا أ ح ب ا ل ب ا ح ث و ن ا ل م ص ر ي و ن
كلمة السر: العلم العلم العلم العلم = ا ل ع ل م ا ل ع ل م ا ل ع ل م ا ل ع ل م ا ل
النص المشفر: أ ف ع ل ا ب ل ز م م ح ه ع ر م ل غ ج ل = افعل ابلز ممحه عرمل غجل

لا يحافظ النص المشفر على خصائصه الإحصائية إذا تم استخدام شيفرة فيجنير. لاحظ أن شيفرة قيصر ستستبدل كل حروف الألف مثلا بحرف باء…بينما ستقوم شيفرة فيجنير باستبدال حرف الالف بالألف مرة و بالسين مرة أو بأي حرف أخر اعتمادا على الحرف المقابل في كلمة السر. إن تحليل التكرار لن يظهر لنا الحرف الاكثر تكرارا… لأن التكرارات تم توزيعها بين الحروف المختلفة فاختفت المعلومات داخل النص (هل اختفت فعلا ً ؟ , و ما الذي نعنيه بالمعلومة , سيجاوبنا شانون عن هذا بعد 700 عام لكن هذا يحتاج مقالة منفصلة) . لذلك تدعى شيفرة فيجنير و مثيلاتها من الشيفرات بالشيفرات متعددة الأبجدية polyalphabetic ciphers. ظلت الشيفرة حتى اواسط القرن التاسع عشر قيد الاستخدام بل استخدمها الجيش الكونفيدرالي في الحرب الأهلية الأمريكية.

خاتمة

حتى القرن الثامن عشر, ظل علم التشفير حكرا ً على الهواة , الفلاسفة و الدبلوماسيين. لكن عصر التنوير أطل على أوروبا , و أطل معه جيل فريد من علماء الرياضيات. في المقالات الثلاث القادمة سنتحدث عن قفزات ثلاث عملاقة في علم التشفير شكلت التكنولوجيا الحديثة بل حولت مجرى التاريخ.

الجزء الأول من السلسلة : مولد التشفير : شيفرة قيصر
المصادر
1- مخطوطة الفليلسوف الكندي “ http://wadod.net/bookshelf/book/564
2- The Code Book, simon singh , 2000
3- Code Breakers, David Khan, 1996

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي