بالرغم من أن العلم يحاول الوصول إلى أكبر درجة من الدقة إلا إنه أبعد ما يكون عن اليقين. ولا يزال الإنسان يبحث في الكون ككفيفٍ يتحسَّس الموجودات من حوله، يشعر بها ولا يكاد يتبينها. تحدثنا في مقال سابق -يجب أن تقرأه أولًا- عن نظرية الانفجار العظيم والمشكلات التي تواجهها: مشكلة الأفق ومشكلة التسطح ومشكلة الجسيمات أحادية القطب المغناطيسي. نستكمل في هذا المقال ونعرف هل أدى ذلك إلى بطلان نظرية الانفجار العظيم ككل أم ماذا حدث؟
التضخم الكوني (Cosmic Inflation)
كان أول من أشار إلى مشكلة الجسيمات أحادية القطب التي لا نراها تلك هو العالم الأمريكي «ألان جوث»(1،2). فبينما كان يعمل على إيجاد حل لهذه المشكلة، إذا به يخرج بنظرية لا تحل هذه المشكلة فحسب بل تحل الاثنتين الأخرتين أيضًا، ففي عام 1980م، اقترح ألان جوث نظريته التي تسمى بالتضخم الكوني (cosmic inflation)، والتي لاقت رواجًا كبيرًا ويستحسنها معظم العلماء. نحن نعلم أن الكون يتوسع بمعدل ما، فوفقًا لنظرية الانفجار العظيم، بدأ الكون بنقطة أخذت في التوسع بهذا المعدل حتى وصلنا إلى هذا الذي نراه أمامنا. هنا يأتي التضخم كفصل مضاف على رواية الانفجار العظيم، كمرحلة يمر بها الكون بينما كان لا يزال صغيرًا، صغيرًا في العمر والحجم، حيث يتوسع بقدر هائل في فترة زمنية قصيرة جدًا. يبدأ التضخم بعد 10^-36 ثانية من ولادة الكون وينتهي عندما يكون عمره 10^-32 ثانية، يكون الكون حينها قد تضخم بمعدل 10^26 مرة من حجمه الأولي وهذا رقم كبير للغاية. بكلمات أخرى، في جزء صغير من الثانية تطور الكون من نقطة في المستوى دون الذري إلى كرة يمكن رؤيتها بالعين المجردة، ثم يستكمل الكون توسعه بالمعدل العادي الذي تقول به نظرية الانفجار العظيم. ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن الكون الذي نشاهده (والذي يبلغ قطره 14 مليون سنة ضوئية) هو في الحقيقة جزء صغير جدًا من حجم الكون الفعلي. إن صحت نظرية التضخم فحجم الكون الكلي أكبر ب 10^ 23 مرة من الجزء الملاحظ.
التضخم الكوني ومشاكل الانفجار العظيم
حسنًا، الكون كبير جدًا، ماذا في ذلك؟ في الواقع، يعتقد كثير من العلماء في صحة هذه النظرية لأنها نجحت في حل مشكلات الانفجار العظيم سالفة الذكر(3)، كما أنها تفسر العديد من الملاحظات التي نراها في الكون. يقدم التضخم حلًا لمشكلة الأفق (the horizon problem) التي تقول باختصار أن الكون لم تكن له الفرصة أبدًا كي تتوزع الفوتونات فيه بشكل متجانس. وذلك لأن حجم الكون الكلي ضخم جدًا. فعندما نعود إلى زمن نشأة الفوتونات لأول مرة، حيث كان الكون أصغر حجمًا، فنحن لا نعود إلى كوننا المرصود ولكن نعود إلى الكون الكلي الذي يبلغ حجمه أضعافًا مضاعفة. وبالتالي يكون طرفي كوننا الملاحظ أكثر قربًا بكثير مما كنا نعتقد كما هو موضح بالصورة، وهذا ما يسمح للفوتونات بعد ظهورها أن تنتقل بشكل متجانس كما تشاء ثم يستمر الكون في توسعه محافظًا على هذا التجانس الذي نراه في الإشعاع الخلفي الميكرويي.
كما يقدم التضخم حلًا لمشكلة التسطح(the flatness problem)، فإذا كان هناك انحناءات في الكون قبل التضخم فإنه يعمل على تسطيحها، إذ ينتهي الكون بكثافة تقترب جدًا من الكثافة الحرجة، تكاد تكون مساوية لها، وبالتالي يكون شكل الكون الملاحظ مسطحًا. ولأن الكون كبير للغاية، فاحتمالية أن نرصد جسيمًا أحادي القطب المغناطيسي صغيرة للغاية وهكذا حلت المشكلة الثالثة أيضًا. إذا كنت تبحث عن كرة في صندوق واحد سيكون أمرًا محيرًا ألا تجدها، أما إن كنت تبحث عنها في مئة صندوق ولم تجدها في الصندوق الأول فلا عجب إذًا، بل هذا -على العكس- محتمل للغاية.
التضخم الكوني والفراغ الكاذب
فكرة توسع الكون أمر غريب في حد ذاتها، فما بالك بتوسع متسارع بجنون؟ والأهم من ذلك ما السبب في بدء مثل هذا التوسع؟ لمَ لم يستمر الكون بمعدله البطيء الذي كان عليه؟ حسنًا، لمعرفة إجابة هذا السؤال يجب أن نتعرف أولًا إلى بعض المفاهيم. تقول نظرية المجال الكمي (Quantum field theory) أن كل شيء في الكون هو عبارة عن اهتزاز في مجال، مثلًا الفوتون هو اهتزاز في المجال الكهرومغناطيسي والإلكترون هو اهتزاز في مجال الإلكترون وهكذا تتكون كل الجسيمات الأولية. هذه الجسيمات من الممكن أن توجد في أي مستوى من مستويات الطاقة ونحن نعلم أنه كلما زاد مستوى الطاقة في جسيم ما كلما قل استقراره وزادت رغبته في أن يفقد قدرًا من الطاقة كي ينتقل من المستوى الأعلى إلى المستوى الأقل. لكن ماذا لو خلا مجال ما، من أي اهتزاز أي أنه لا يحتوي على أي جسيمات لا مادة ولا طاقة؟ هنا سندعوه فارغًا. لكن الحقيقة أنه لا يمكن لذلك أن يحدث بل يظل هناك قدر ضئيل جدًا من الطاقة بسبب التذبذبات الكمية (quantum fluctuation). لن نخوض في هذا الأمر الآن، المهم فقط أن نعرف أن هذه الحالة توصف بأن يمتلك مجال ما أقل قدر ممكن من الطاقة ليكون ما يسمى فراغًا حقيقيًا (true vacuum)، لا يوجد مستوى طاقة أقل من هذا لننتقل إليه وهي الحالة الأكثر استقرارًا.(4)
جميل جدًا، الآن تخيل معي وجود مجال يحتوي على قدر معين من الطاقة يظن أنه أقل قدر يمكن الوصول إليه وبالتالي لا يسعى للانتقال إلى مستوى أقل. لكنه في الحقيقة ليس كذلك، تسمى هذه الحالة الفراغ الكاذب (false vacuum)(5) حيث يكون المجال المفترض شبه مستقر لا زال يمتلك قدرًا من طاقة الوضع ولكنها ليست كافيه للتحرر. تخيل هذا المجال أنه لم يصل إلى الاستقرار الكلي بعد فيهبط من مستوى طاقته إلى المستوى ذي أقل قدر من الطاقة يمكن الوصول إليه، أي أنه أصبح مستقرًا فعلًا أي أنه تحول من فراغ كاذب إلى فراغ حقيقي. حينها يتحرر كمية هائلة من طاقة الحركة. سيتسبب هذا القدر الهائل من الطاقة -الذي يمكن أن يتحرر من خلال خاصية النفق الكميQuantum tunneling- في توليد تأثير مضاد للجاذبية هو الذي سبب تلك الحالة من التضخم الكوني الشديد مثلما نقوم بنفخ بالون. ولم تكن فكرة التأثير المضاد للجاذبية اعتباطية، بل إن جوث اعتمد فيه على معادلات النسبية العامة إذ أن الثابت الكوني بها يسمح بهذه الحالة من التمدد ضد الجاذبية.
أكوان متعددة (multiverse)
بالرغم من أن ألان جوث هو من خرج بهذا التفسير إلا أنه هو نفسه اعترف بوجود مشكلة فيه؛ كيف انتهى التضخم؟ نعلم أن توسع كوننا الآن أقل كثيرًا مما كان عليه أثناء هذا التضخم المتسارع، فما السبب؟ علاوةً على ذلك، كيف يتضخم الكون بهذه السرعة ويظل يحتوي على القدر الهائل من الطاقة الذي يجب أن يكون عليه في هذه المرحلة كي يكون النجوم والمجرات؟ وسمى جوث هذه المشكلة الخروج الرشيق (the graceful exit problem) إشارة إلى خروج الكون من مرحلة التضخم هذه إلى الوضع الطبيعي. في نفس الوقت(6)، كان هناك عالم آخر يصيغ حلًا لهذه المشكلة وهو العالم «أندريه لينده» مثله مثل عالمين آخرين قدموا جميعًا نموذجًا جديدًا للتضخم يسمى التضخم الأبدي (eternal inflation). لن نبحث عن نهاية للتضخم المتسارع لأنه لازال مستمرًا بالفعل إلى الآن بل سيستمر إلى الأبد بل ربما ليس له بداية أيضًا. فحينما يأخذ الكون في التضخم، تنشأ عنه ما يشبه الفقاعات المختلفة، كل منها سينشئ كونًا مستقلًا فيما بعد والذي يمكن له أن يتمدد بأي معدل آخر. أما الكون الكبير الأصلي فهو مستمر في تضخمه السريع كما هو. وهنا يأتي تفسير الانفجار العظيم الذي نعرفه ليصف هذه البداية الجديدة. بمعنى آخر، هذا الكون الذي نعيش فيه ما هو إلا واحد ضمن أكوان عديدة تصادف أن يكون هذا معدل تمدده بحيث يسمح بتجمع الذرات مع بعضها بالطريقة التي تنشأ بها النجوم والكواكب والحياة بشكلها الحالي. ومن يدري كيف يكون حال الأكوان الأخرى؟
كما ترى، قد انتهى بنا الأمر إلى أكوان متعددة كي نفسر كوننا الملاحظ، لكن دون تجربة واختبار، لا يمكننا أن نقر بصحة شيء من عدمه، وقد قدمت نظرية التضخم بعض التنبؤات مثل تذبذبات معينة في الإشعاع الخلفي الميكرويي وبالفعل قام كاشف الإشعاع الخلفي الميكرويي برصد هذه التذبذبات، ولكن كُشف فيما بعد أن هذه النتائج قد تحدث لأسباب أخرى غير التضخم وبالتالي لا نزال نحتاج مزيدًا من التأكيد. وبالرغم من أن نظرية التضخم الكوني قدمت حلًا للكثير من المشاكل ولاقت قبولًا كبيرًا في المجتمع العلمي، خاصةً أنها تربط نظريات كيميائية بمعادلات النسبية، إلا أنه لا يزال هناك بعض العلماء ممن يعترضون عليها وينتظرون نظريات أكثر كفاءةً منها. وها نحن هنا ننتظر؛ فربما تأتي النظرية بدليل لا شك فيه ينهي هذه الاعتراضات وقد يأتي تفسير جديد بفكرة جديدة تغير رؤيتنا عن الكون مرةً أخرى وهذا هو الجميل في الأمر.
إعداد: يارا محمد.
مراجعة: أحمد رضا.
المصادر:
- What happened before the Big Bang? [Internet]. plus.maths.org. 2009 [cited 2018 Nov 7]. Available from: https://plus.maths.org/content/what-happened-big-bang2. Before the Big Bang? [Internet]. [cited 2018 Nov 7]. Available from: http://www.superstringtheory.com/cosmo/cosmo41.html
- Cosmology [Internet]. [cited 2018 Nov 7]. Available from: http://www.astronomynotes.com/cosmolgy/s12.htm
- Kragh HS, Overduin JM. Inflation and the False Vacuum. In: Kragh HS, Overduin JM, editors. The Weight of the Vacuum: A Scientific History of Dark Energy [Internet]. Berlin, Heidelberg: Springer Berlin Heidelberg; 2014 [cited 2018 Nov 9]. p. 67–76. (SpringerBriefs in Physics). Available from: https://doi.org/10.1007/978-3-642-55090-4_9
- False Vacuum Theory [Internet]. [cited 2018 Nov 9]. Available from: https://futurism.media/false-vacuum-theory
- Cosmic Inflation – The Big Bang and the Big Crunch – The Physics of the Universe [Internet]. [cited 2018 Nov 23]. Available from: https://www.physicsoftheuniverse.com/topics_bigbang_inflation.html