التَّحسُّن الأخير

التَّحسُّن الأخير

تبدو فكرة استعادة قدر من النشاط والحيوية قبل الموت حدثًا خياليًّا يُذكر في الأفلام الدراميّة فقط، كما في المسلسل الطبي الشهير (جرايز أناتومي- Grey’s Anatomy) حيث تعاني والدة الطبيبة ميريديث (د. أليس) من مرض ألزهايمر في آخر خمس سنوات لها، مما جعلها تعتزل ممارسة مهنة الطب، وتعيش في دار رعاية صحية، ثم تصحو فجأة ذات يوم وتحادث ابنتها بوعي كامل لتموت بعدها بفترة وجيزة:

 

 

 

التحسٌّن الأخير وذهاب الخرف قبل الموت

لقد ذُكرت هذه الحالة كثيرًا خلال قرنين ونصف من الزمان منذ الأطباء اليونانيين القدماء مثل أبقراط. أطلق على هذه الظاهرة مسمى في الطب الحديث عام 2009، وذلك عندما درس عالم الأحياء الألماني الدكتور مايكل نآم (Michael Nahm) هذا التساؤل وأطلق عليه اسم التحسٌّن الأخير (Terminal Lucidity).

ما هو التحسُّن الأخير؟

التحسُّن الأخير هو مصطلح طبي يشير إلى فترة تتحسَّن خلالها القدرات العقليّة والمعرفيّة لدى المرضى الذين يقتربون من الموت ممن يعانون من حالات طبية مزمنة. [3]

هناك نوعان أساسيان من التحسُّن الأخير: في النوع الأول تصبح أعراض المريض أقل حدة، أما في النوع الثاني فإن المريض الذي لم يكن مستجيبًا للمؤثرات من حوله سوف يستعيد فجأة اتزانه العقلي. في كلتا الحالتين ستبدأ عائلات المرضى بالشعور أن أحبتهم قد تعافوا فجأة، فقط ليموتوا بعدها بدقائق أو ساعات أو حتى أيام قليلة. [1]

من الذين قد يحصل لهم التحسُّن الأخير؟

ما يجعل التحسُّن الأخير غامضًا هو أنه يحدث في المرضى الذين يعانون من أمراض انتكاسيّة شديدة، وقد سُجلت هذه الظاهرة في عدة حالات طبيَّة منها:

  • مرض ألزهايمر (Alzheimer’s)
  • الخرف (Dementia)
  • فصام الشخصيّة (Schizophrenia)
  • الاضطرابات العاطفيّة (Affective disorders)
  • التهاب السحايا (Meningitis)
  • السكتة الدماغيّة (Stroke)
  • أورام الدماغ (Brain Tumors)

كل هذه الأمراض تُعطي سببًا للاعتقاد بأن وصلات الدماغ متضررة للغاية أو حتى مدمرة، ومع ذلك تبدو وظائف الإدراك الطبيعية ممكنة الحدوث للحظات حتى مع تلف الدماغ الحاصل أثناء فترة التحسُّن الأخير. [1،3]

يحدث التحسُّن الأخير بشكل غير متوقع؛ فالشخص الذي فقد قدراته المعرفيّة منذ زمن بعيد بسبب الخرف غير قادر على تذكر أحداث حياته، أو حتى التعرف على الأشخاص المقربين له، سوف يستيقظ فجأة ويظهر سلوكًا طبيعيًا بشكل مدهش فقط ليموت بعد ذلك بوقت قصير. في دراسة حديثة للدكتور ساندي مكلويد (Sandy MacLeod) حيث راقب 100 شخص على وشك الموت، ولاحظ فترات التحسُّن الأخير عليهم، استنتج أن هذه الظاهرة لا تملك عوامل تنبئ بحدوثها، فالتحسُّن الأخير عملية غير متوقعة! [2، 3]

ما مدى شيوع ظاهرة التحسُّن الأخير؟

الحقيقة هي أننا لا نعلم، فلم تُدرس بشكل جيد حتى الآن. لقد أظهرت الدراسات السابقة أن التحسُّن الأخير يحدث لأربعة أشخاص من أصل عشرة، أما في دراسة دكتور ماكلويد (Sandy MacLeod) عند ملاحظته 100 شخص في آخر شهر لهم من الحياة ظهر التحسن الأخير على 6 حالات وهذا يجعل معدل انتشارها 6% فقط.

يعتقد بعض العلماء أن سبب انخفاض معدل حدوث ظاهرة التحسُّن الأخير هو استخدام المسكنات والأدوية التي ساعدت على إخفاء أعراضها. [1،3]

ما الذي يسبب التحسُّن الأخير؟

مثل العديد من الألغاز، لا يملك العلم إجابة على هذا السؤال في الوقت الحالي، وذلك يرجع لعدة أسباب عمليّة وأخلاقيّة؛ حيث يحدث التحسُّن الأخير بشكل غير متوقع لدى المرضى الذين لم يظهروا استجابة سابقًا، ويصعب دراسة المرضى المضطربين أو غير المستجيبين بسهولة. في حالة أراد عالِم ما دراسة ذلك، فسيتعين على لجنة أخلاقيات المهنة الطبية تحديد وجه الفائدة لدى المريض من هذا البحث. [1،3]

على الرغم من ذلك، توجد العديد من النظريات غير المثبتة مثلًا، تلك التي تفسر حدوث هذا التحسن على أنه عندما تفشل أعضائنا فإنها تفرز مادة تشبه الستيرويد (Steroid-like substance) والتي بدورها تساعد على تنشيط الدماغ. [1]

لحظات التحسُّن لدى مرضى الخرف في نهاية العمر، بصيصٌ من الأمل

في مقالٍ نُشِرَ في عدد أغسطس 2019 من مجلة مرض ألزهايمر والخرف (Alzheimer’s & Dementia) عن ورشة عمل عُقدت تحت رعاية معهد الصحة الوطني الأمريكي للشيخوخة تحت قيادة البروفيسور جورج ماشور ( George A. Mashour)، الذي ناقش ما هو معروف وغير معروف عن ظاهرة التحسُّن الأخير، آخذًا التفسيرات المحتملة في الحسبان، مع توضيح قدرة التحليل العلمي في مساعدة تسليط الضوء على ماهية مرض الخرف. [2]

يقول البروفيسور ماشور (Mashour) من قسم التخدير وعضو هيئة تدريس في برنامج الدراسات العليا في علم الأعصاب، ومدير مركز علم الوعي (Center for Consciousness Science):

«لقد افترضنا أن الخرف المتقدم هو عملية تنكُّس عصبي مع قصور وظيفي دماغي لا رجعة فيه، ولكن إذا كان الدماغ قادرًا على تكوين شبكة وظيفية أثناء فترة التحسُّن الأخير في الحالات المتقدمة من المرض، فإن هذا يشير إلى وجود مكوِّن ما قابل للعكس»

يذكر البحث الأعمال السابقة التي أجرت دراسات على العديد من الأفراد المصابين بالخرف المتقدم بما في ذلك مرض ألزهايمر، الذين أبدَوا قدرةً على التواصل واسترجاع -ما يبدو- طبيعيًا في نهاية العمر، مما أدى إلى اندهاش مقدمي الرعاية لهم. [2]

توجد سابقة واحدة تحرَّت أحداثًا مماثلة لما تحتويه هذه الدراسة فيما يسمى تجارب الاقتراب من الموت (Near-death experiences).

في عام 2013  نشر البروفيسور ماشور (Mashour) ومعاونوه من كلية طب جامعة ميشيغان (Michigan Medicine) دراسة علمية تُظهر أدلة تشير إلى نشاط الدماغ الكهربي، مما يعني استمرار حالة الوعي بعد حدوث السكتة القلبية.

«نحن لا نعلم إذا كان نفس الشيء يحدث خلال ظاهرة التحسن الأخير أم لا، ولكن حقيقة حدوثه  قرب الوفاة يشير إلى وجود آلية عمل مشتركة للشبكة العصبيّة»

كما يقول البروفيسور ماشور (Mashour) بأن دراسة هذه ظاهرة تُمثل تحديًا صعبا، نظرًا لطبيعتها العابرة. تشير التقارير إلى أن فترات التحسن تتراوح من ثوانِ معدودة إلى عدة أيام على الأكثر لعدد قليل من الحالات.

تحدد مجموعة العمل أيضًا الآثار الأخلاقيّة المترتبة على هذا البحث، بما يشمل قدرة المرضى المحدودة على المشاركة في البحث، وكيف يمكن أن تؤدي ملاحظة هذه الظاهرة إلى تغيير الطريقة التي يتفاعل بها مقدمو الرعاية مع الأشخاص المصابين بالخرف. [2]

“تلك الأبحاث التي ستدرس تحسنًا أخيرًا ملحوظًا بشكل منهجي هل ستجلب الراحة؟ أم أنها ستسبب قلقًا وتساؤلًا عما إذا كانت أسباب الخرف قابلة للعكس؟”

يقول البروفيسور لوري فرانك (Lori Frank) الحاصل على دكتوراة من (RAND Corporation) وزميل سابق في المعهد الوطني الأمريكي للشيخوخة (National Institute on Aging):

«نحن لا نعرف ذلك، ولكن يمكن أن تكون هذه أسئلة بحثية مهمة في حد ذاتها».

يأمل العلماء أن تساعد ورقتهم البحثيّة في زيادة الوعي داخل المجتمع العلمي لتطوير أبحاث تدرس هذه الظاهرة، والمساعدة في التحقق من تجارب العديد من مقدمي الرعاية لأصحاب الأمراض الانتكاسيّة المزمنة. [2]

 

المصادر:

المصدر الأول
المصدر الثاني
المصدر الثالث

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي