جادل بعض الباحثين؛ مثل: عالم الأعصاب (ديفيد إيجلمان) حيث قال: “إن علم الأعصاب يجب أن يغير ممارساتنا العقابية بشكل جذري. وَفقًا لإيجلمان، يجب على المحاكم التخلي عن فكرة العقوبة تمامًا عن الجريمة، والتركيز بدلًا من ذلك على إدارة المجرمين واحتواء سلوكهم من أجل الحفاظ على سلامتنا.(4)
هل هذه فكرة جيدة؟! وهل هذه هي الطريقة التي يستجيب بها القضاة الأستراليون لمعرفتنا المتزايدة بأسس السلوك العصبية الحيوية؟!
هناك طريقتان عريضتان لتبرير معاقبة الشخص الذي يرتكب جريمةً:
– الأولى: من حيث “الذنب الأخلاقي” إذا تسبب شخصٌ ما في ضرر؛ فإنه يستحق الأذى في المقابل.
وهذا ما يُعرف بالمنظور “الجزائي” أو “العقاب العادل”.
– الثانية: هي التفكير في النتائج المترتبة على العقوبة. إذا كان من شأن العقوبة أن تردع الجاني أو تعيد تأهيله، أو تمنعه من ارتكاب جرائم أخرى بتقييد حريته، أو إذا كان يمكن أن تكون رادعًا للآخرين، فعندئذ فقط، تكون العقوبة مبررةً.
إذا كانت العقوبة ستؤذي الفرد الذي ارتكب الجريمة فقط، لكنها لن تمنع ارتكاب المزيد من الجرائم أو تفيد الآخرين؛ إذًا -على أسس تبعية بحتة- فهي غير مبررة.
في أستراليا، عادةً ما يأخذ القضاة الاعتبارات الجزائية والعواقبية في الاعتبار عند تحديد العقوبة.
حاليًا، يُمنح الجناة الأستراليون أيضًا الفرصة لتقديم طعن في التخفيف بعد إدانتهم بارتكاب جريمة. والهدف من هذا الالتماس هو التخفيف من شدة العقوبة.
في بعض الحالات، قد يستعين الدفاع بطبيب نفسي لتقديم دليل خبير حول الإعاقة العقليّة أو العصبيّة للإشارة إلى أن الجاني أقل مسؤوليةً أخلاقيةً عن الجريمة؛ ومن ثمّ يستحق عقابًا أقلّ.
الميل إلى علم الأعصاب
وَفقًا لعلماء النفس الأمريكيين (غرين وكوهين) تعتمد الجزائيّة على فكرة أن الناس لديهم إرادة حرة. يقولون:
“إن تقدم علم الأعصاب سيشفينا من هذه الفكرة عن طريق فتح الصندوق الأسود للعقل، وكشف العمليات الميكانيكيّة التي تسبب كل السلوك البشري. وبعد الكشف عن هذه الأسباب، سوف نتخلى عن فكرة أن الناس مسؤولون عن أفعالهم السيّئة.”(2)
سنبدأ في الاعتقاد بأن عطلًا بالفص الجبهي لمجرم تسبّب في فقدانه للسيطرة على أفعاله -على سبيل المثال- والتركيز على كيف يمكننا منع حدوث ذلك مرةً أخرى، بدلًا من التفكير في أنهم اختاروا إيذاء ضحيتهم؛ ومن ثمّ يستحقون العقاب.
وَفقًا لغرين وكوهين، فإن هذا سيجعل الحد من الجريمة هو الهدف الوحيد. إذا كانوا على حق، فإن ممارسات العقاب ستتحرك في الاتجاه الذي دعا إليه (إيجلمان).
قضيّةٌ بعد قضيّة
قدّم (غرين وكوهين) حجتهما حول زوال مبدأ العقاب قبل عشر سنوات. في ضوء ادعاءاتهم التنبؤيّة، من المثير للاهتمام دراسة كيفيّة استجابة النظام القانوني فعليًا للاستخدام المتزايد لأدلة علم الأعصاب.
يمكننا الحصول على فكرة عما يحدث في أستراليا من حالات في قاعدة بيانات (Neurolaw) الأسترالية، التي أُطلقت في (ديسمبر 2015). قاعدة البيانات هي مشروع مشترك بين جامعة (Macquarie) وجامعة سيدني، وتشمل القضايا المدنيّة والجنائيّة الأستراليّة التي تستخدم الأدلة المستمدّة من علم الأعصاب.(3)
عندما تُستخدم في إصدار الأحكام، غالبًا ما تُطرح أدلة علم الأعصاب فيما يتعلّق بتقييم المسؤولية الأخلاقيّة للجاني. ومن ثمّ يُستخدم للمساعدة في تقدير العقوبة التي يستحقها الجاني.
أحد الأمثلة على الطريقة التي تنظر بها المحاكم الأسترالية إلى الأدلّة المستمدّة من علم الأعصاب هو الحكم الصادر على (جوردان فورلان) عام 2014. في الحكم على فورلان البالغ من العمر 49 عامًا لارتكابه حادثًا عنيفًا يتعلق بضحية تبلغ من العمر 76 عامًا، أخذ القاضي (كروشر) في الاعتبار الأدلّة على إصابة دماغيّة حدثت للجاني قبل عدة سنوات من الجريمة، و تأثيرها على مسئوليّته الأخلاقيّة.
وفي تبرير الحكم بالسجن مدة ثلاث سنوات وستة أشهر، قال القاضي:
“إن الذنب الأخلاقي للجاني قد خُفّض، ولكن إلى درجة معتدلة فقط، لأن حكمه كان قاصرًا نتيجةً لإصابة دماغه المكتسبة”
وهناك قضيّة أكثر إثارةً للدهشة تتعلق بالحكم على عضو المجلس التشريعي السابق في تسمانيا تيري مارتن بتهمة ارتكاب جرائم جنسيّة مع الأطفال. أشارت أدلّة الخبراء إلى أنّه طوّر شكلًا قهريًّا من النشاط الجنسي نتيجةً لتأثير أدوية مرض (باركنسون) في نظام الدوبامين في دماغه.
فرض القاضي حكمًا أكثر تساهلًا مما كان يمكن أن يكون عليه الحال، بسبب الصلة الواضحة بين الدواء والمخالفة. قيل:
“إن هذا الرابط يقلل من ذنب (مارتن) الأخلاقي”
ثورة ولكن بطيئة
لا يمكننا التأكّد من كيفيّة تأثير علم الأعصاب في القانون مستقبلًا. في الواقع، قد يكون هناك رد فعل عنيف ضد هذا الشكل من الأدلة.
ما يمكن قوله هو أن فورلان ومارتن، وقضايا أخرى تُظهِر أن القضاة الأستراليين ما زالوا يضعون المسؤوليّة الأخلاقيّة في الاعتبار، حتى في مواجهة أدلة علم الأعصاب على تعطل الآليّات العصبيّة لدى الجاني. إنهم لا ينتقلون إلى الاعتبارات العواقبيّة البحتة.
وهذا يعني أن مبدأ العقاب ما زال قائمّا وبصحة جيدة، والعقاب العادل لا يزال مهمًا للمحاكم الأسترالية. لذا -على الأقل في الوقت الحالي- إن تأثير علم الأعصاب ليس ثوريًّا.