نعيش الآن أوقاتا غريبة رائعة ومخيفة في آن واحد. يوجد لدينا العديد من الأشياء التي لا نعلم شيئا عنها، وأخرى لدينا تحكم بسيط عليها، والأصعب أن هذه الأشياء المجهولة هي من جوهر الموت والحياة، بإمكاني الحديث عن هذه الأشياء من الجانب النفسي، ولكني سأحدثكم بداية وقبل كل شيء من المنظور الطبي، لأن ذلك يعني الكثير لي بالإضافة لانتشار عددا لا بأس به من المعلومات والمعتقدات الخاطئة. ابق بالبيت حتى يأتينا خبراء الأمراض المعدية والباحثون والعلماء والعاملون بالمجال الصحي بالخبر السعيد وبأن الأجواء أصبحت آمنة، اغسلوا أياديكم جيدا واستخدموا المطهرات يوميا، راقبوا حالتكم الصحية وصحة من يعنيكم أمرهم وتهتمون بشؤونهم، ترقبوا الأخبار والمعلومات يوما بيوم وكونوا على علم بأحدث التقارير والأوضاع الراهنة.
أولا: فيروس كورونا وقبعة الطبيب
تجربة شخصية
إني أتذكر جيدًا فترة تدريبي بمستشفى نيورك (NYC Hospital) حين شاركت في الفريق المعني بحالة مرضية حرجة. كانت مصابة بمرض غامض وقد وضعت على جهاز التنفس في العناية المركزة. كدنا نجن فلا أحد يعرف ما لديها، ولذلك لم نعرف لها علاجا. وقد استغثنا بمركز السيطرة على الأمراض (CDC – Centers for Disease Control) وسرعان ما تلقينا جوابًا، لقد كانت من أولى حالات مرضى الفيالقة (Legionnaires’ Disease)، ولقد تم التوصية على علاج معين لها، وبالفعل تحسنت الحالة، وبالرغم أن الفريق المعالج -ومن ضمنهم أنا- كانوا شبابًا ذي صحة جيدة إلا أنهم شعروا بضعف وإرهاق شديد، وتساءلنا جميعًا ما الذي قد يحدث لنا نتيجة تعرضنا لهذه الحالة وتعاملنا معها؟ ولحسن الحظ، سرعان ما تم الكشف عن هذا المرض الغامض، لقد كانت نوعا من البكتريا، وكان العلاج متوفرا لكل الفرق المعالجة المعرضة للعدوى.
لا أستطيع التخيل ما يتوجب على الأطباء والممرضات وأخصائي التنفس والفنيين وغيرهم من العاملين في المستشفيات وكل من يمثل خط الدفاع الأول في محاولة لاحتواء ومعالجة المرضى المصابين بفيروس كورونا القاتل، ترى ما مدى المشقة والإحباط والخوف الذي يشعرون به حين ينبغي عليهم رعاية الآخرين وهم لا يعرفون بوضوح ما يتعاملون معه، غير أن صحتهم كذلك تكون على المحك. العلوم الحديثة زودتنا بوسائل لمكافحة العدوى وحماية أنفسنا من الأمراض الخطيرة ولذلك كنا نشعر بالحماية، والآن تخيل دهشتنا وعدم تصديقنا لوجود فيروس قاتل قد تجاوز خطوط دفاعنا وإمكانياتنا ولا يمكننا ردعه حتى الآن!
إنها ليست المرة الأولى
لقد شاهدنا على مر العصور العديد من السناريوهات المماثلة من الأمراض والأوبئة التي قتلت الآلاف والملايين،مؤخرا، حصلت على جواب مرسل من السيد ف. سكوت فيتزجيرالد (F. Scott Fitzgerald) والذي تم عزله سنة 1920 في جنوب فرنسا حين انتشرت الإنفلونزا الإسبانية (Spanish Influenza).
«عزيزتي روزميري،
لقد كان يوما كئيبا للغاية، معلقا بين السماء والأرض. أشكرك على خطابك الأخير.
أدرك أن الأحوال ليست جيدة بالخارج ويكأننا في فصل الخريف والأوراق تتساقط. ويبدوا أن أغلب سكان المدينة قد هجروا الشوارع وتركوها خاوية. إنه من المؤلم للغاية رؤية جميع الأماكن العامة من المقاهي والنوادي والمنتزهات فارغة. لقد لكمني هيمنجواي في معدتي لأنني سألته مستنكرا ما إذا كان قد غسل يديه، ولكنه لم يفعل كغيره ممن ينكرون الفيروس وخطورته. أتمنى لو أعرف مصادره.
ولقد نبهنا المسؤولون لضرورة التزام البيت والتأكد من شراء الضروريات اللازمة لكي لا نخرج في ظل الحجر الصحي بالبلاد. لقد اشتريت أنا وزلدا كل أنواع الخمور التي نحتاجها من النبيذ الأحمر والوسكي والفيرموث والنبيذ الأبيض والكونياك.
دعواتك لنا.»
منذ مئة سنة حل وباء مشابه، مات على إثره الملايين فلم يكن الناس ولا الطب جاهزا لمواجهة الوباء. الخبر الجيد والاختلاف الأكبر أننا هذه المرة نمتلك من العلم ما يمكننا من مجابهة المرض وحد انتشاره، فقد تقدم العلم بشكل هائل منذ آخر جائحة عالمية. الآن بات بمقدورنا فهم الكثير من الأمراض التي كانت تشكل لغزا مستعصيا فيما مضى، ولدينا الآليات اللازمة لذلك. حتى يأتينا شيئ يمثل تحديًا لمجتمعنا العلمي، ويتركنا ضعفاء غير مصدقين ما يحدث، تاركين مناعتنا تتصدى لذلك الأمر، حينها لا بد أن نفهم دورة حياة فيروس كورونا المستجد بينما نسارع عقارب الساعة ونحاول إبطاء تفشي الوباء وإنقاذ حياة الشعوب.
ثانيا: فيروس كورونا وحياة جديدة
والآن أخلع قبعتي الطبية ولننظر سويا كيف أن هذا الوباء كشف أيضا عن جوانب إيجابية كثيرة.
ما الذي يمكننا تعلمه عن الحب في زمن الكورونا؟
دائما ما ارتبط مفهوم الحب بالعلاقات وبالطبع لا يزال قائمًا. نعرف جيدا كيف نشعر حين نحب شخصا آخر ونتعني به ونلبي احتياجاته، ولكن الآن قد مُنحنا الفرصة لنتعلم كيف نحب أنفسنا، لا يعلم الكثير منا كيف يحب ذاته، بل ننتظر التأكيد ممن حولنا ليشعرونا بالحب وأننا نستحق.
كيف وصلنا إلى تلك الحال التي ارتبط فيها الحب بمشاعر الآخرين حولنا؟ ماذا عن حبنا وما نشعر به تجاه أنفسنا؟ اليوم لدينا الفرصة لأن نفكر بأنفسنا لكي نعيش في زمن لا بد فيه أن نتعامل بذكاء ونعتني بأنفسنا جيدا لكي ننجو. لا بد من تفعيل وضع البقاء، حين يقال بأننا جميعا في دائرة واحدة، فهذا يعني أن نحب أنفسنا كفاية لكي ننجو.
وإذا أمكنك رؤية نفسك كمحارب للبقاء، فلديك الفرصة لتأخذ قرارا صحيحا حيال نفسك وتحدد أولوياتك وتقرر الحياة التي تريد في المستقبل، الحب للذات تعني أنك أولًا، ليست على طريقة الأنانية والكبر، ولكن وضع قيمة حياتك فوق أي شيئ آخر.
جميعنا في قارب واحد
لقد ساوت تلك الأزمة بيننا. يمكننا الحديث عن العديد من المميزات التي اختص كل منا منها بشيئ كالمال والقوة والوجاهة الاجتماعية، ولكن في هذا الوقت فإن تلك الأشياء جميعا لا قيمة لها، إن قانون البقاء آمنا وحماية أنفسنا يجري على الجميع. فلا مفر لنا من اتباع التعليمات الصحية اللازمة والبقاء بالمنزل.
لا مكان مثل المنزل، إن المنزل لنعمة أحيانا ننسى أنها توفر لنا الراحة والآمان ومكانا لنشعر بذواتنا. انظر حولك وتأمل جيدًا، واشكر النعم التي تحيط بك من كل جانب، المنزل هو راحتك في هذا العالم.
كم الساعة في يدك؟
- إنه وقت رائع لتبدأ العمل على مشروعك الخاص والذي يبدو أنه لم تمتلك وقتا له مثل الآن، دائما ما توجد لدينا تلك الخطط لأشياء سيكون من الجيد فعلها حين يتوفر لدينا الوقت المناسب، الآن لديك الوقت، ربما ينبغي عليك أن تبدأ بتنظيف كل ما هو زائد عن حاجتك، لتكتشف ما ينبغي عليك حقًا القيام به، ربما زراعة الحديقة وربما البدء في القراءة وجعلها عادة، يمكنك أيضا سماع الموسيقى، تنظيم الجوال والبريد الإلكتروني، إنه حقا لوقتٌ رائع للإبداع، يمكنك تعلم العزف على آلة موسيقية أو تعلم الرسم أو الخياطة أو النجارة أو القيام ببعض الأعمال المنزلية.
- كما أنها فرصة رائعة لتعليم الصغار والشباب مهارات جديدة، مهارات كالتنظيف وبعض الوجبات الخفيفة وتسوق الطعام هي من المهارات الأساسية التي ينبغي على كل فرد فعلها ولكننا عادة لا نتعلمها، لما لا تفكر في تدريس مهارة خاصة أنت بارع بها على شبكة الإنترنت، أعرف زوجين لديهم طفل في المدرسة قد شاركا في وضع المناهج الدراسية، وموسيقيان موهوبان قد بدؤوا في إعطاء دروس في الموسيقى على الإنترنت، وقد كان أحد أبويهم مدرس رياضات سابق بمدرسة ثانوية بدأ بمشاركة دروس في مادة الرياضيات هو الآخر.
أعد تعريف اللمس
فكر بشأن أنه ما عاد بإمكانك لمس الأشياء كما في السابق، حتى أنه لم ينبغي عليك لمس وجهك أو السلام بالأيدي مع الأصدقاء والأحضان والاقتراب من بعضكم جدا، خوفا من انتشار العدوى.
بات لدينا طرق أخرى لنلمس بعضنا اليوم. أؤمن بأنه ما زال بإمكاننا لمس الآخرين بطرق أخرى، كأن تكون طيبًا ومراعيًا لمشاعر الآخرين ورحيمًا بالناس، أن تكون مساندًا لمن احتاج حديثك معه –عبر سكايب (Skype) أو أيًا من طرق التواصل عن بعد، والذهاب للتسوق لمن احتاج، والاطمئنان على الأصدقاء والعائلات والجيران كبار السن الذين يقيمون وحدهم. كما يوجد العديد من المنظمات الخيرية التي تحتاج دعمك سواء مشاركة بوقتك أو مالك أو جهدك، لديك الآن الوقت لتضع نفسك مكان الآخرين وتمد يد العون للمحتاج.
هل أحدكم قلق أو خائف؟
إنها فرصة مميزة لا تقدر بثمن لنعيد تعريف القلق بأسلوب جديد. يعاني العديد منا من القلق المزمن حين تكون الحياة في وضعها الطبيعي، وعادة لا يكون لقلقنا أساس يستند عليه.
«لدي العديد من المخاوف في حياتي، وفي الأغلب لم تحدث أبدا» -مارك توين
القلق هو أمر طبيعي ولا بد من استجابة ملائمة له نواجه بها الخطر وراءه، وها هي الفرصة لننظر لمخاوفنا وقلقنا بمنظور واقعي، ونفهم ما يسبب قلقنا في هذه الحياة وما هي الطريقة المثلى للتعامل معه، ويمكننا تطبيق ما تعلمنا حين تعود الحياة لطبيعتها، دعنا نرى الخوف يغادر، لنستمتع بكل لحظة من حياتنا.
احيوا الجمال، وارفعوا رؤوسكم وتأملوا ما حولكم من نعم، وابقوا آمنين بمنازلكم.