الحق في الضوء

الحق_في_الضوء

|||

     يقطع ضوء الشمس مسافة 150 مليون كم حتى تعترضه المباني قبل اصطدامه بالأرض بعشرات الأمتار، مكونةً ظلالًا قد تحرم الشوارع والمباني الأقل في الارتفاع من الحصول على القدر الكافي من الضوء، حيث تُعد هذه إحدى المشاكل الرئيسية للمباني المرتفعة وناطحات السحاب.

     أدرك الإنسان أهمية ضوء الشمس منذ استيطانه الكهوف المواجهة للقدر الأكبر من أشعة الشمس. وحتى النظريات الحديثة في التخطيط والعمارة والتي تضع للإضاءة الطبيعية أولوية ومكانة خاصة لابد من مراعاتها أثناء عملية التصميم، ومرورًا بأساليب البناء في كل العصور. فحديثًا، أصبحت من الأمور المُسلَّم بها قدرة أشعة الشمس على المساهمة في الوقاية من الأمراض، بل وعلاج بعضها، ليس من الناحية الفسيولوجية فقط بل من الناحية السيكولوجية أيضًا.

     (الحق في الضوء-(Right To Light هو قانون إنجليزي دخل حيز التنفيذ منذ عام 1832م، يعطي الحق لمالك المنزل الذي يصل إليه ضوء الشمس من فتحات محددة لمدة 20 عامًا في الاحتفاظ بهذا الحق إلى الأبد، ويمنع أي بناء أو تطوير قد يقلل من كمية الضوء التي تصل إلى المبنى صاحب الحق، أما إذا كان النقص في الضوء قليل ويمكن تعويضه بالمال فقد تحكم المحكمة لصاحب المنزل المتضرر بتعويض مالي فقط. هذا القانون القديم لا يزال ساريًا حتى الآن، إلّا أنه مُهدد بالإلغاء أو التعديل تماشيًا مع الحاجة إلى تطورات عمرانية ومشاريع ضخمة مخطط لتنفيذها قريبًا أو جاري تنفيذها حاليًا.

     ولكن هل يعني بناء مباني أطول بالضرورة شوارع أكثر ظلامًا؟ يقول (جيف شوماخر-Jeff Shumaker) مصمم حضري في قسم تخطيط المدن في نيويورك: «يمكنكم ملاحظة التجربة المختلفة عند السير هنا والنظر لأعلى، ليست المشكلة في كثافة أو ارتفاع المباني، بل في التصميم في حد ذاته». لقرنٍ من الزمان، كافح المصممون والمخططون وصنَّاع القرار في مدينة نيويورك لحل المعضلة الأبدية التي تتمثل في كيفية تجميع عدد أكبر من الناس في مساحة أقل من الأرض مع الحفاظ على مباني المدينة جميلة وقوية ومبهجة للعيش فيها وحولها. مع مطلع القرن العشرين كانت المباني تزداد ارتفاعًا بسرعة، ولمنع نيويورك من التحول إلى غابة مظلمة من الطوب والحجارة أصدرت المدينة توصياتٍ للتحكم في شكل وارتفاع المباني، وفي عام 1916 صدر أول تشريع يطلب من المصممين الاحتفاظ بحدٍ أدنى من الإضاءة الطبيعية وإمكانية وصول الهواء الى الشوارع.

     تماشيًا مع المتطلبات الجديدة قام المعماريون بتصميم المباني على هيئة كعكة الزفاف حيث الارتداد بالأدوار العليا تدريجيًا لتوفير المزيد من الضوء للشوارع. و مع مرور الوقت حدث تطور في التشريعات حيث تم السماح للمباني التي تترك مساحة معينة من الأرض كحديقة عامة بالارتفاع بلا قيود، وهذه التشريعات سرعان ما ثبت فشلها حيث تقتل حيوية التجمعات السكنية في المدينة وتؤدي إلى عواقب حضرية وخيمة.

     حديثًا تفاقمت المشكلة بشكلٍ متسارع، فمع تزايد بناء ناطحات السحاب، أصبح السير في أحد الشوارع الجانبية كالسير في قاع بئرٍ مُظلم.تخيًّل مبنى شاهق الارتفاع مُثبَّت على واجهاته مئات المرايا التي تعمل على جعل ظلال المبنى تتوهج، هذا ما يقوم به مبنى (One Central Park) في سيدني بأستراليا للمعماري (Jean Novel).أو حتى في أكثر غابات (مانهاتن) الخرسانية كثافةً، ماذا لو تم تصميم ناطحات السحاب لتُقلِّص الظلال التي تُلقيها؟ تخيل هيكلًا إنشائيًّا ينحني ليتفادى أكبر قدرٍ ممكن من أشعة الشمس ليدعها تسقط على حديقة عامة بدلًا من اعتراضها، هذا ما سيقوم به (Jeanne Gang’s Solar Carve tower).

     يخلق تشريع البناء في مدينة نيويورك مشاكل عمرانية عديدة، فعلى سبيل المثال فإن القانون معني بإضاءة الشوارع الرئيسية المتسعة تاركًا المساحات البينية بين الكتل السكنية مظلمة، تقول (Jean Gang): «يا له من موقف فريد! إذا اتبعت القانون فإنك ستُلقي بالشوارع في الظلام.» ولذلك قامت بتصميم بناء يتحدى القوانين، ومن ثم إقناع المدينة بتغيير تلك القوانين. حيث سيقوم برج (Solar Carve) بالارتداد بعيدًا عن الحديقة بدلًا من الاقتراب منها، وسيتم تقليل القطاع السفلي للمبنى بغرض السماح للضوء بالوصول إلى الحديقة.

untitled

Rendering of the Solar Carve, Jeanne Gang’s design near the High Line. Photo: Studio Gang

     يقول (Christian Coop): «بينما يتم الحكم على ناطحات السحاب بارتفاعاتها الشاهقة، إلا أن ما يهم أكثر في الحقيقة هو تأثيرها على المقياس الإنساني، حيث يُقاس نجاح المبنى بما يضيفه للعامة، ولذلك يكون السؤال: هل يمكننا تشكيل مبنى كامل فقط بغرض تحسين ظروف البيئة المحيطة؟»، قامت شركة (NBBJ) بتطوير برنامج لتحديد مسار الشمس واستخدامها لنحت مبنى ذي أقل قدرٍ من الظلال بطريقة مثالية، كانت النتيجة النهائية هي مبنى لا أحد يريد بناءه، أو حتى أن يقضي بعض الوقت فيه، ولذلك قام المعماريون بتطوير التصميم وتقييم الاختيارات حتى الوصول إلى الناتج النهائي الذي يوفِّق بين العلم والمعيشية (science with livability)، خرج التصميم مكونًا من ناطحتي سحاب غير متماثلتين وفراغ بيضاوي بينهما. يقوم زجاج المبنى الأعلى بإمساك الضوء المنساب على المبنى الأقل ارتفاعًا ومن ثم ارتداده على الحديقة بالأسفل، يقول (Coop) أن الانعكاسات ستقلل الظلال إلى النصف.
تم تسمية المشروع بالبرج عديم الظلال (No-Shadow Tower).

untitled 1

     تشترك جميع تلك التصميمات في كونها هياكل تتسع كلما ارتفعت، لتسمح لضوء الشمس بالوصول إلى قاعدة البرج، وتُسقط الظلال في مدى أبعد، حتى في مشروع (Gang) المنحوت بعناية لم تختفي الظلال، فقد  انتقلت فقط إلى مكان أبعد، تكمن المعضلة في إحساس المعماريين بمسؤولية أقل كلما ابتعدت الظلال عن مبانيهم، ولكنها لا تزال موجودة، لا يمكننا معالجة مشكلة الظلام كمعالجة المدينة لمشكلة القمامة، فقط قم بإبعادها إلى مكان آخر، ولذلك يعد برج المعماري (Jean Nouvel) في سيدني هو الإلهام الواعد، حيث مجموعة من المرايا التي تتحرك ميكانيكيًا تقوم بعكس أشعة الشمس إلى الأسفل، ساعيًا إلى إضاءة الحديقة المركزية أسفل المبنى بدل من إغراقها في كآبة الظلام.

1

Jean Nouvel’s One Central Park in Sydney, Australia is outfitted with angled mirrors. Photo: Ateliers Jean Nouvel

 

إعداد/ترجمة : حسام هشام

مراجعة  علمية: Mostafa Mohamed El-Ashmawy

مراجعة لغوية  وتصميم: Mohamed Sayed Elgohary

المصادر :

http://goo.gl/TFhsK5

https://goo.gl/E3nClT

http://goo.gl/u6dHRA

http://goo.gl/lnfDO8

http://goo.gl/5mw12K

http://goo.gl/l1Udhk

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي