الحلقة الثانية: الأفيون

38508718_499586343802713_911531504914399232_n

|

يُمكننا وبكل أريحية تسمية الأفيون -النبات الذي بين أيدينا في هذه الحلقة من السلسلة- بالأب الروحي للمواد المخدرة؛ ليس لكونه أحد أهم المصادر لأحد أشهر المواد المخدرة التي عرفتها البشرية مثل المروفين والكوكايين فحسب، بل لأنه ساهم أيضًا -وبصورة مباشرة- في تغيُّرات سياسية أثرّت على تاريخ بعض الشعوب للأبد؛ لذلك وجب تنبيهك عزيزي القارئ، فسوف نأخذك في رحلة إلى الماضي البعيد، وبمنتهى السرعة سنعود بك وَسْط المركبات الكيميائية المعقدة والتأثيرات الفسيولوجية الغريبة؛ فكن مستعدًا…

حرب الأفيون الأولى

ارتبط الأفيون بأحد أقذر الحروب التي خاضتها الحضارة الغربية في منتصف القرن التاسع عشر، فمع مرور عام (1820م) والأعوام التالية له، كان تعاطي الأفيون هو أحد السِمات المميِّزة للمجتمع الصيني حينها، ولما كان له من آثار اجتماعية واقتصادية جسيمة على امبراطورية الصين؛ فقد دمرت حكومة بكين حينها أكثر من (20000 طن) من الأفيون، مايعادل (1400) طن من ذلك الأفيون المُخزن في مدينة (قوانغتشو-Guangzhou) من قِبل التجار البريطانيين، ومع تصاعد العديد من الأزمات السياسية الأخرى بين الصين وبريطانيا في ذلك الوقت؛ فقد اتخذت الأخيرة قرار تدمير الأفيون والأزمات الأخرى سبب لاخضاع الامبراطورية الصينية واحتلالها عسكريًا والتمكن من توريد الأفيون مرة أخرى لها، ولذلك فقد حركت بريطانيا عام (1841م) أسطولها البحري الأقوى حينها تجاه الصين في واحدة من أكثر الحروب انحطاطًا في تاريخ البشرية، والتي انتهت بانتصار بريطانيا على الصين واخضاعها اقتصاديا في معاهدات هي الأكثر إذلالًا في تاريخ الصين.

ما هو الأفيون

يعتبر الأفيون هو أحد العقاقير المخدرة المستخلصة من حوافظ بذور نبات الخشخاش، ويتم ذلك عن طريق إحداث شق في تلك الحوافظ؛ حيث تخرج مادة لبنية لزجة بيضاء تتحول فيما بعد بفعل تعرضها للهواء إلى اللون البني، ويتم تحويل تلك المادة الخام الى أشكال عديدة مثل البودرة أو على هيئة قوالب أو قشور صلبة؛ أو حتى إدخالها في عمليات معالجة لاستخلاص مواد أخرى مثل (الموروفين-morphine) و(الكودين-codeine) و (الهيروين-Heroin).

ماذا يفعل الأفيون بنا

ترتبط المواد الأفيونية بمستقبلات خاصة في الخلايا المنتشرة في مناطق عديدة من الدماغ والحبل الشوكي وأعضاء أخرى، خاصة تلك المسؤولة عن الإحساس بالألم، حيث يحجب بعد ذلك إشارات الألم المرسلة من المخ إلى باقي الأعضاء مع تحفيز إفراز كميات كبيرة من الدوبامين في جميع أنحاء الجسم.
تساعد العمليات السابقة على زيادة الاسترخاء والنعاس والشعور بالنشوة، كما إنها تبطيء من عمليات التنفس ودقات القلب وتثبط من السعال، بالإضافة إلى استرخاء العضلات الملساء (smooth muscles) بالجهاز الهضمي، مما يجعل المرور بتلك التجربة أمر ممتع لابد من تكراره.

استخدامات الأفيون الطبية

يعد الأفيون المسكن الأكثر شعبية في الأوساط الطبية قديمًا لعدة قرون؛ حيث اُستخدم قديمًا بصور مختلفة وتحت أسماء عدة، على سبيل المثال صبغة الأفيون (Laudanum)، وهي عبارة عن محلول كحولي مخفف من الأفيون نفسه، اُستخدم قديمًا في علاج الإسهال عن طريق إرخاء عضلات الجهاز الهضمي، يستخدم الأفيون حاليًا في الوصفات الطبية كمخدر للعديد من صور الألم المختلفة، كالآلام الناتجة عن جراحات الأسنان والأصابات الرياضية الخطيرة والسرطان.

الشياطين الصغار

ترفض البشرية دائمًا أن تترك الأشياء على طبيعتها كما وُجدت، حتى تلك السموم التي أنتجتها الطبيعة كالأفيون؛ فإن بصمة ذلك الكائن المخرب تأبى إلا أن تُطبع عليه، فماذا أنتج تزاوج العقل البشري مع تلك النبتة؟

المورفين

لعلك شاهدت الفيلم الأمريكي الحربي «بيرل هاربر» (Pearl Harbor)، خاصة ذلك المشهد التراجيدي الذي امتلأت فيه أروقة المستشفى بالجنود المحروقين والمصابين بأعيرة نارية خطيرة، تدفعهم آلامهم إلى الصراخ بهستيرية من الألم، فما كان من الأطباء إلا أن قرروا حقن جميع المصابين الميؤوس من حالتهم بالمروفين رأفةً بهم، فما هو هذا المخدر وما علاقته بالأفيون؟
المورفين هو أحد العقارات المستخدمة طبيًا كمسكن للآلام والمستخلصة من نبات الخشخاش (الأفيون)، أُنتج لأول مرة عام (1809م) على يد الكيميائي الألماني (فريدريك سيرتونر – F.W.A. Sertürner)، يتميز المورفين بقدرته على تخفيف الألم الجسدي بصورة كبيرة جدًا، وتكمن أهميته في علاج الآلام الناتجة عن السرطان والنزيف الداخلي وفشل القلب الاختناقي (congestive heart failure)، كما يعمل أيضًا كمهديء لحالات الصدمة النفسية.

الهيروين

إنه يقلص من بؤبؤة عينك ويُثقل من أنفاسك؛ نبض قلبك يتهوى ويغلب عليك النوم، ولكن ليس هذا ما يجذبك نحوه، بل مفعوله السريع، فمن بين جميع المخدرات التي عرفتها وستعرفها، فلا شيء غيره يقدم لك النشوة في غضون ثواني بعد الحقن، إنه ينشر ذلك الإحساس بالدفء في داخلك، حالة من الرضا والارتياح والتي سرعان ماتتبخر لتتحول إلى النقيض تمامًا؛ فبعد مرور أربع ساعات من تعاطيك المخدر، ستجد نفسك في دوامة لا تنتهي من من القلق والاكتئاب والغثيان.
الهيروين أو ما يعرف بـ ثنائي أستيل المورفين (diacetylmorphine) أحد المواد التي تشكل جزءًا لا يستهان به في سوق الإتجار غير المشروع للمخدرات، أنتج لأول مرة على يد كيميائي بريطاني عام (1874م) وظهر كمنتج تجاري تابع لشركة (باير – Bayer Company) الألمانية للدواء عام (1898م)، وكان يستخدم في الأصل كمسكن للآلآم، ولكن سرعان ما اكتشف الاستخدام الذي يليق بمثل هذه المادة.
تتم صناعة الهيروين عن طريق معالجة المورفين المستخلص من الأفيون بمادة (انهيدريد الخليك – acetic anhydride)، حيث يصبح مفعولة أكبر بأربع لثمانية أضعاف من المورفين.

قد يقتلك الأفيون

في إحدى الأمسيات الخريفية الهادئة، تدخل أمرأة مفزوعة على غرفة طواريء مستشفى (بريغهام ببوسطون)، تستنجد بالأطباء قائلة: «أنا لا أشعر بخي…» لم تكمل جملتها إلا وقد فقدت وعيها تمامًا وسقطت على الأرض، تنفسها بطيء وبؤبؤة عيناها تكاد تختفي، إنها أعراض مثالية لجرعة زائدة من المواد الافيونية.
حاول الأطباء إنعاشها عن طريق حقنها ب (0.4 مليجرام) من مادة (نالوكسون – naloxone) وهي جرعة كبيرة بالنسبة لترياق؛ ومع ذلك لم تستفيق، أعطوها جرعة أخرى تقدر بـ (1 مللي جرام) ثم (2مللي جرام) إلى أن أوصلوه بصورة جنونية إلى (12 مليجرام) في غضون خمس دقائق فقط، مازالت أنفسها تتباطأ، أوصلوها بجهاز التنفس الصناعي، وطوال عشرين دقيقة من الأعصاب المرهَقة، فاقت المرأة غاضبة ومنتشية، ولكنها مازالت تنبض بالحياة، ولكن ما الذي أوصلها إلى تلك الحالة؟
عندما تدخن أو تحقن نفسك أو تتعاطى المواد الأفيونية بأي طريقة كانت؛ فإنها تسبح في مجرى الدم إلى أن تصل إلى مستقبلات (mu-opioid receptors)، وبمجرد أن ترتبط بتلك المستقبلات حتى تنطلق مجموعة من الإجراءات النفسية والجسدية التي وإن كانت تفجر السعادة بداخلك ولكنها تسبب فشلًا في الجهاز التنفسي، لذلك فإن ضحايا الجرعات الزائدة من تلك المواد يموتون مختنقين، حيث لا يستطيعون الحصول على الأكسجين اللازم لتغذية أدمغتهم.

إعداد: أحمد فهمي
مراجعة: أميرة إسماعيل
تصميم: مؤمن هشام
تحرير: زياد الشامي

المصادر:

1.
Opium Wars — Britannica Library [Internet]. [cited 2018 Jul 30]. Available
from: https://library.eb.co.uk/levels/adult/article/Opium-Wars/57210
2.

opium — Britannica Library [Internet]. [cited 2018 Jul 31]. Available from: https://library.eb.co.uk/levels/adult/article/opium/57209

3.

Abuse NI on D. Prescription Opioids [Internet]. 2018 [cited 2018 Jul 31]. Available from: https://www.drugabuse.gov/publications/drugfacts/prescription-opioids
4.

Prescription Pain Medications (Opioids) [Internet]. NIDA for Teens. [cited 2018 Jul 31]. Available from: https://teens.drugabuse.gov/drug-facts/prescription-pain-medications-opioids

5.

heroin — Britannica Library [Internet]. [cited 2018 Aug 1]. Available from: https://library.eb.co.uk/levels/adult/article/heroin/40205
شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي