إنه ليس عنوانًا للأخبار، حيث أن أدمغتنا هي موضع أفكارنا ومشاعرنا. يُعد المخ صانع القرار في الجسم، والقبطان الذي يقود أفعاله، والمهندس الذي يحافظ على عمل جميع أنظمته، يؤقلم المخ فعل الجسم على البيئة المحيطة به؛ حيث يستقبل البيانات الحسية ويرسل في حينها الاستجابات المناسبة.
لطالما قمنا لفترة طويلة بإرجاع الأعمال الرائعة للدماغ لتركيبته المعقدة المكونة من خلاياه العصبية فائقة التخصص، هذه التكوينات هي التي تشكل أجهزة الدماغ الخاصة به، أو «Hardware» للدماغ.
ولكن كشف بحث جيني جديد أنه وعلى مستوى أعمق يتم تشكيل العواطف والتصرفات بواسطة طبقة ثانية من التنظيم في الدماغ، هذه الطبقة، التي صنعنا المعدات حتى نستطيع فقط رؤيتها، تعتمد على الجينات. نبدأ الآن في تقدير الكيفية التي تعمل بها الجينات والأعصاب معًا، كالبرامج المعدة للاستخدام «software» والأجهزة التي تعمل بهذه البرامج «Hardware»، حتى تُمكن الدماغ من عمل وظائفه.
يساعدنا تعلمنا لفهم هذا النظام ثنائي الطبقات على فهم كيفية تأثير البيئة في السلوك، وكيف نخترق هذا النظام لتحسين الصحة العقلية، إنه الوقت لندرك بالكامل أن النشاط الجيني ليس فقط قاصرًا على تكوين خلفية مساعدة للدماغ، ولكنه أيضًا جزء تكاملي في عملياته.
-الأعصاب في مقعد السائق:
أصبح التعقيد المطلق للدماغ البشري جليًا في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك عندما اخترع عالما التشريح المتمرسان، كامييو جولخي من إيطاليا وسانتياجو رامون وكاخال من اسبانيا، تقنيات «صبغ الأنسجة-tissue staining»، التي كشفت عن شبكات ميكروسكوبية معقدة من الخلايا العصبية.
نعرف الآن أن حوالي مائة مليون خلية عصبية تتصل ببعضها في الدماغ البشري لتكوين دوائر معقدة تحمل الرسائل الكيميائية والكهربية لصنع الذكريات والتحكم في السلوك، هذا التركيب الفيزيائي- الذي أسفر عن نفسه للمعدات العلمية في وقته، يشكّل «Hardware» لجهاز التحكم العصبي لدينا، والذي يعد قابلًا لإعادة تجديد التركيب عن طريق التجربة بصورة فريدة من نوعها.
خلال القرن العشرين، قام عشرات العلماء بتمييز السكريات، والدهون، والبروتينات، وعدد هائل من الجزيئات التي تبني الدماغ وتقوم بتشغيله وإصلاحه، تبدو هذه الجزيئات كما لو أنها تبقى بعيدًا عن أضواء الشهرة، حيث تلعب دورًا داعمًا للأعصاب التي تتحكم ظاهريًا في سلوكنا.
-فهم جديد للجينات:
ولكن في عصر القرن العشرين من علم الجينوم، استقبل العلماء مفاجأة جديدة حول الدماغ؛ فقد كشف علم الجينوم مجموعة كاملة من المعلومات الجينية الموجودة في الخلايا، وأنشطة الجينات، والتفاعلات بين بعضها البعض، وذلك حيث أن جينات الدماغ مشاركة بشكل ملحوظ في تنظيم السلوك بصورة أكبر مما تخيلنا.
توجّه الجينات إنتاج الجزيئات السابق ذكرها عبر وسائط صُنعت بواسطة الـ «RNA»، تخبر جزيئات الـ «RNA» أجهزة الخلية عن كيفية ووقت تصنيع البروتينات التي تحتاجها للنمو وتأدية وظيفتها، وسمحت التكنولوجيا التي طُوِّرَت، في العشرين عامًا الأخيرة، بمراقبة تأرجح صعود وهبوط الـ «RNA»، المُنتَج من كل جين في الدماغ، بدقة متزايدة، وكشفت هذه الدراسات عن علاقة وثيقة بين السلوك ونشاط الجينات في الدماغ.
بعض الرؤى المبكرة حول العلاقة الوثيقة بين السلوك ونشاط الجينات أتت من مصدر غير متوقع، وهو دماغ نحل العسل؛ حيث يعيش نحل العسل كالبشر في مجتمعات معقدة، وهو متأثر بقوة بما يفعله الآخرون حوله. اكتشف المختبر أن التغيرات في السلوك تُدار بالنشاط المتبادل لآلاف الجينات في دماغ النحل، في بعض الحالات، تعد العلاقة بين السلوك ونشاط جينات الدماغ وثيقة جدًا لدرجة أن برنامج الحاسب يستطيع التنبؤ بدقة بسلوك النحل، وذلك من نماذج لنشاط جينات الدماغ منفردة.
اتضح أنه تم إيجاد استجابات جينية في أنواع عديدة أخرى، متضمنةً الإنسان، مما يعد اكتشافًا مُعزِّزًا لفكرة أن الجينات داخل الخلايا العصبية هي القوة الدافعة الكامنة خلف السلوك.
كان هذا الاكتشاف مفاجئًا، حيث عُرفت الخلايا العصبية بأنها تنسق كيفية التواصل بين بعضها البعض لإحداث تغيرات في السلوك عبر آليات لا تحتاج فيها إلى تغيرات فورية في نشاط الجينات، وعلى الرغم من أننا عرفنا أن الجزيئات الخاصة بالدماغ لابد أن تُصنَّع باستمرار لتمكين الدوائر العصبية من إعادة التجدد، كنتيجة للعمر والخبرات المتراكمة، إلا أن علماء الأعصاب لم يتوقعوا أن العلاقة بين نشاط جينات الدماغ والسلوك ستكون مقترنة بإحكام هكذا.
-الجينات في الدماغ تمارس نفوذها:
لماذا هناك اقتران وثيق بين نشاط جينات الدماغ والسلوك؟ يأتي تلميح من دراسة أخرى تمت على النحل؛ حيث يستجيب نحل العسل بعدوانية فورية لتهديد خليته، وفي الطبيعة يُعد أي تأخير مطول عن ذلك مؤديًا للهلاك. تستغرق هذه الاستجابة السلوكية وقتًا أسرع من الوقت الذي يستهلكه النحل لإنتاج جزيئات جديدة من الـ «RNA»، مما يقترح ذلك أن الاستجابة الأوليّة أكثر اعتمادًا على النظام العصبي منها على النظام الجيني، ومع ذلك، اكتشف المختبر تغيرات في نشاط مئات من الجينات في الدماغ لأفراد النحل في استجابةٍ للدخيل على الخلية بعد ساعات من إزالة التهديد، يعني هذا أن خبرة التهديد قامت بتغيير النحل على المستوى الجزيئي والسلوكي.
تزامن التغيرات المستمرة في نشاط جينات الدماغ، والتي نستطيع رؤيتها عبر التغيرات في كميات كل نوع منفرد من جزيئات الـ «RNA»، تزايدًا مستمرًا في يقظة النحل المضطرب فجأة، خلق هذا شعورًا جيدًا، فبينما لا يتوقع الأداء السابق بالضرورة نتائج مستقبلية على شارع وول ستريت، إلا أنه رهان آمن في الطبيعة للمحافظة على التيقظ بعد المرور بتجربة تهديد. التلاعبات المعملية التي حاكت النشاط الجيني لدماغ الدخيل السابق جعلت من النحل الساذج أكثر عدوانية، مما يدل على وجود علاقة سبيية بين السلوك والنشاط الجيني.
دماغ النحل، الذي يواجه تهديدًا قد يكون متكررًا، يملك تطبيقات جينية تساعده على الاستجابة بصورة أكثر فعالية، حدث نفس النوع من هذه التغيرات بعد أن تم تعريض «سمك أبو شوكة-stickleback fish» والفئران للتهديد، مما يقترح أن هذه الاستجابة الجينية البطيئة المستمرة للتجربة هي خاصية عالمية للأدمغة.
-النظامان يعملان معًا:
الخلايا العصبية في الدماغ، والجينات الموجودة فيها يمثلان الـ«Hardware» والـ«software»، يديران معًا استجابة الفرد لموقف جديد، والذي قد يتفاوت من شخص لآخر، قد يسبب حدث درامي، مثل: تحدٍّ في المدرسة أو في العمل، أو شخص جديد في الدائرة الاجتماعية، قدرًا كبيرًا من التوتر لشخص، بينما يسبب قدرًا قليلًا جدًا لآخر.
نحن نظن الآن أن الأنظمة العصبية لشخصين مثلهما مضبوطةً على نحو مختلف على الأرجح بواسطة أنظمتهما الجينية، وذلك ربما كنتيجة لتجارب مرهقة ماضية. على عكس الحاسب الآلي، فإن الـ«software» في الأدمغة الحية يساعد في تعديل الـ«Hardware»، وكلما واجه مواقف جديدة فإن العمل الوظيفي للـ«Hardware» العصبي يستمر بتعديل الـ«software» الجيني، تسايرت الطبيعة مع نظام ذكي يتفاعل فيه الـ«Hardware» والـ«software» بتكيف وحيوية.
التبادل بين الجينات والخلايا العصبية يبني باستمرار تاريخًا متشابكًا يتمدد طوال الطريق عائدًا إلى الفروق الفردية الموروثة في الطباع، والتي تؤثر أيضًا في نشاط الجينات، وبينما قد يسبب الإجهاد الحاد تغيرات جينية تحفز الخوف والغضب لساعات قليلة، فإن الإجهاد المزمن الناتج من العنف أو الحرمان قد يسبب آثارًا مدمرة للصحة؛ لأنها تُنشط تغيرات جينية في المخ لا تزول. في بعض الحالات، يتم تحفيز التغييرات الباقية لمدى طويل للبنيات الكيميائية للـ «DNA»، وهذه التغيرات المشار إليها على أنها فوق جينية، قد تمرر من جيل لجيل تالٍ.
نحتاج لتعلم كيف نقرأ بصورة أفضل السجل الجيني للتغيرات المتروكة بواسطة الخبرة؛ لكي نتنبأ بالنتائج المستقبلية، ولن يُعمِّق ذلك فهمنا الجوهري للدماغ فحسب؛ بل سيساعدنا أيضًا على فهم كيفية تأثير الضغوط الاجتماعية والاقتصادية وآثارها سلبًا على الصحة والحياة الجيدة.
الجهود البحثية، بما يتضمن المبادرة الاتحادية الجديدة للدماغ، لابد وأن تركز على تطوير تقنيات جديدة لكي تقيس النشاط العصبي بدقة أكبر، ولكي تستكشف الكيفية التي يتواصل بها النظام العصبي والنظام الجيني مع بعضهما البعض. إن الدماغ يقوم بما هو أبعد من توجيه سلوكنا، إنه يبني خبراتنا في صورة متماسكة من إدراك العالم، سيكون هذا العالم فريدًا لكلٍّ منا على حسب تاريخه الشخصي، مع الإمكانية التي تجعل منه مشمسًا، أو غائمًا، أو مليئًا بالظلال. إذا ما استطعنا أن نصبح ماهرين في الشفرة التي يعمل به دماغنا، فربما نستطيع تعلم كيف نعطي هذه الروايات دَفعَة في الاتجاه الصحيح، وأن نغمر عالم كل شخص بالنور.
ترجمة: Basant Gamal
مراجعة: Mohammad Marashdeh
تصميم: Ahmed El-tobshy
المصدر: http://sc.egyres.com/naPVH
#الباحثون_المصريون