بين الديمقراطية والرأسمالية صراعٌ وتنازلات شُكِّلَ من خلاله اقتصاد العالم. في العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية، عملت الديمقراطية على وضع القوانين وتقييد اقتصاد السوق عن طريق العمالة وأنظمة الرفاهية. لكن في سبعينيات القرن الفائت، ومع عولمة الرأسمالية وتحررها وتخلصها من القومية، استطاعت العودة إلى اللعبة. واليوم نرى نفوذ الرأسماليين على الحكومات الديمقراطية، وقدرتهم على وضع القوانين والضغط على هذه الحكومات. ومع هيمنة الرأسمالية ظهرت سلبياتها على المواطنين، فزادت فجوة عدم المساواة وتقلصت الأجور الحقيقية، مما أدى إلى لجوء المواطنين إلى السلطات عندما شعروا بأنهم ضحايا للأسواق، وهو ما نتج عنه صعود سياسيين أمثال دونالد ترامب وبيرني ساندرز.
قصة صعود الرأسمالية
يروي المؤرخ الألماني «يورجن كوكا» قصة الرأسمالية في كتابه «الرأسمالية: تاريخ قصير». وهو يروي قصة الرأسمالية منذ نشأتها من طرق التجارة في بلاد ما بين النهرين إلى الأزمة المالية عام 2008. ويرى «يورجن كوكا» أن الرأسمالية هي مفهومٌ أساسي لفهم الحداثة، والأهم من ذلك أنها مجموعة من المؤسسات التي تحمي حقوق الملكية ورأس المال ودعم استخدام الاسواق، كما أنها مجموعة من المبادئ والأفكار. وتعريف «يورجن كوكا» للرأسمالية أتاح له رؤية قوية لمعرفة نمو مراحلها الأولية بين تجار بلاد ما بين النهرين، وعلى طول طريق الحرير بقارة آسيا، وبحلول القرن الحادي عشر، ظهرت التجارة الرأسمالية البرجوازية، في شبه الجزيرة العربية والصين، ثم في أوروبا لاحقًا.
بين القرن الثاني عشر والخامس عشر، أنشأ التجار مؤسسات تعاونية أدت إلى تقسيم أكبر للمخاطر الذي شجع على تراكم رأس المال. ويرى «كوكا»، أن هذا أدى إلى «تكوين مشاريع لها شخصية قانونية مستقلة»، بالإضافة إلى إنشاء أسواق رأسمال بدائية، وأخيرًا، ثروات البنوك التي ارتبطت ارتباطًا قويا بظهور الدول الحديثة، من خلال إدارة الديون.
ترسيخ الرأسمالية
هذا التحالف بين الرأسمالية والدول الناشئة أدى إلى عصر الاستعمار، حيث بدأت حملة التوسع الأوربي من خلال التجار ورواد الأعمال والغزاة، ودعم كبير من الدول القوية، عن طريق خلال التجارة الثلاثية: يحضر التجار الأوروبيون البضائع إلى إفريقيا مقابل العبيد، ثم يقايضوا العبيد مقابل العمل في حقول السكر والقطن في العالم الجديد. هذا العملية ساعدت على ترسيخ الرأسمالية في أوروبا اكثر من الشرق الأوسط والصين؛ فحجم الاستثمارات الهائلة أدى إلى تكون ما يٌسمى بالشركات المساهمة، وبداية عصر «الرأسمالية المالية»، وافتتاح أسواق تداول أوراق مالية أنتويرب عام 1531، وأمستردام عام 1611.
ومع أن الارباح التي حصل عليها الرأسماليون الأوروبيون جاءت من أنشطة ضد الليبرالية، فإن «يورجن كوكا» يشير إلى أن «الرأسمالية تحتوى على القليل من مقاومة الممارسات اللاإنسانية»، وعلى المدى البعيد وضعت الرأسمالية أسس الديمقراطية؛ بسبب الثروات التي تولَّدت من ورائها، والاحتماليات التي ولدتها مؤسساتها الأخرى، وهو ما أدى إلى تطور التصنيع في القرن التاسع عشر، وإلى الرأسمالية الإدارية في القرن العشرين.
نهاية الرأسمالية
ذكر الكاتب البريطانى «بول ميسون» في كتابه «ما بعد الرأسمالية» أن الرأسمالية تحتضر. فهو يعتبرها «نظام معقد متكيف، وصل إلى أقصى حدود قدرته على التكيف».
طبقًا لـ«نيكولاي كوندراتييف»، عالم الاقتصاد السوفييتي، فإن النظام الرأسمالي يتأرجح بين الصعود والهبوط، وكل دورة تدوم خمسين عامًا. في أسفل الدورة، تتوقف نماذج الأعمال والتكنولوجيات القديمة عن العمل، ويتوجب الدفع بتكنولوجيات جديدة لفتح الأسواق قبل أن تسير إلى هبوط جديد، لتدور الدائرة مرة أخرى. فمن اكتشاف طاقة البخار ومرورًا بالكساد في عشرينيات القرن التاسع عشر، ثم انتشار السكك الحديدية والتلغراف، ليرتفع الاقتصاد مرة أخرى، ويأتي كساد آخر في سبعينيات القرن التاسع عشر. ثم جاءت الكهرباء، ثم الكساد العظيم من بعدها، ومن بعده الحرب العالمية الثانية. بعدها جاءت الثورات التكنولوجية، لتبدأ دورة رابعة. لكن هذه الدورة لم تنته بكساد عظيم.
مستقبل الرأسمالية
يرى «بول ميسون» أن الدورة الرابعة لم تنته بكساد عظيم بسبب تجاهلنا للركود الاقتصادي الذي حدث في 2008، ويذكر بعض الأسباب ومنها:
- استبدال الرئيس الأمريكي «ريتشارد نيكسون» الغطاء الورقي بالغطاء الذهبي في 1971، وهو ما أزال الكثير من العوائق أمام سد عجز الموازنة، والتي كان الغطاء الذهبي يفرضها.
- دخول الدول الآسيوية إلى ساحة الإنتاج مكن الولايات المتحدة من الاستمرار في رفع معدلات الإنتاج.
- الثورة التكنولوجية والتقدم الهائل في الإلكترونيات ساهم في تدعيم النيوليبرالية في العالم.
هذه الأسباب لا جديد فيها، ولكن السؤال هو كيف استطاعت النيوليبرالية الحفاظ على مكاسب الرأسماليين. فالنيوليبرالية أعطت الرأسماليين سلاحًا قويًا لمواجهة العمال عن طريق صعود التكنولوجيا وتقدمها، وكانت كالعصا تحرك العمال أينما تريد، وهي التي أبعدت شبح الكساد عن الاقتصاد العالمي، وفقًا لـ«ميسون».
كل هذا لم يفعل شيئًا سوى تأجيل انهيار الرأسمالية المحتوم. فكارل ماركس كان يرى أن حركة العمالة سوف تقف في وجه الرأسمالية وتسقطها، بينما ميسون يراهن على أن تكنولوجيا المعلومات هي التي ستدمر النظام الرأسمالي، ويضيف أنها وصلت لطريق مسدود.
المصادر:
- Blyth, M. (2016). Capitalism in Crisis. Retrieved from:
https://www.foreignaffairs.com/reviews/review-essay/2016-06-13/capitalism-crisis
- Monbiot, G. (2016). Neoliberalism – the ideology at the root of all our problems. Retrieved from:
https://www.theguardian.com/books/2016/apr/15/neoliberalism-ideology-problem-george-monbiot#img-3
إعداد: سامح منصور
مراجعة: عبدالله أمين