الرؤى الدينية والطب المعاصر

1-2

الرؤى الدينية والطب المعاصر|الرؤى الدينية والطب المعاصر

الرؤى الدينية والطب المعاصر

مقدمة

بمتابعتنا لتاريخ الأديان في العالم، نرى اتفاق جميع الأديان تقريبًا في الإيمان برؤى دينية، حيث يرى الإنسان مَشاهد روحية من ملائكة وقديسين وقديسات وأنبياء وأولياء وأحيانًا الله نفسه، ويشعر المرء أنه اٌختبر اختبارًا روحيًا من العالم الآخر.

لكن الطب الحديث اكتشف أمراض عصبية ونفسية تشابه أعراض الرؤى الدينية فساعد ذلك في فهم الكثير من ملبسات الرؤى الدينية في التاريخ الديني للبشرية.

لكن يرجى الانتباه أن العلم لا يهدف لتقليل أو معارضة الأديان، بقدر أن العلم يهدف للتمييز بين الأعراض المرضية وبين الاختبارات الصادقة للشخص.

صرع الفص الصدغي والرؤى الروحية

في مقدمة سريعة على مرض الصرع، يجب أن نعرف أن الصرع هو مرض عصبي يصيب المخ، فيه تأتي نوبة كهربائية شديدة تصيب المخ وينتج عن ذلك أعراض عصبية كثيرة، ينقسم الصرع لعدة أنواع:

  1. النوبات الكبيرة أو التوترية – الارتجاجية الشاملة (General Tonic- Clonic seizure): هو يصيب جميع فصوص المخ ويفقد المريض وعيه وتبدأ عضلاته بالتشنج ويستعيد المريض وعيه لكن يكون قد فقد ذاكرته أثناء تلك النوبة.
  2. النوبات الجزئية: في هذا النوع تخرج الشحنات الكهربائية من منطقة واحدة أو محدودة في مخ الإنسان وتنقسم تلك النوبة لنوعين إما:
  • (نوع جزئي بسيط – Simple partial seizure): حيث يشعر المريض بشعور غريب مثل الخوف المفاجئ أو في حاسة البصر وحاسة السمع وشعور بألم في المعدة لكن مع ذلك، الوعي لا يتأثر.
  • (نوع جزئي معقد – complex partial seizure): حيث يتأثر الوعي بصورة قليلة، ومن الممكن أن تظهر على المريض أعراض غريبة مثل التمتمة بأشياء غريبة والمشي بطريقة عشوائية ومص الشفاه وهذا من النوع الذي سنتحدث عنه بالتفصيل وهو صرع الفص الصدغي (Temporal lobe epilepsy).

وبالنسبة لموضوعنا، مرض صرع الفص الصدغي، فهو يعتبر من نوعية النوبات الصرعية الجزئية المعقدة ويصيب الصدغ الفصي فقط في المخ. ومن المعروف أن (الصدغ الفصي- Temporal lobe) مسئول عن المشاعر والذاكرة.

أعراض نوبات صرع الصدغ الفصي (Temporal lobe epilepsy):

  1. تسبق النوبة، فترة تسمي بالاحساس السابق للصرع أو Aura. يشعر المريض بخوف شديد، و يشعر أنه رأى ذلك الموقف سابقًا Deja vu، وأحيانًا يشم رائحة غريبة مثل رائحة حرق المطاط.
  2. النوبة نفسها: يختل وعي المريض ويفقد وعيه بالمكان والزمان الذي فيه، يبدأ بالحملقة الفجائية ويمص فمه، ويبدأ بالبلع أكثر من مرة بدون سبب، ويبدأ بتحربك يديه بطريقة غريبة كأنه يمسك شيء ما.
  3. بعد النوبة: يشعر المريض بالتيه ولا يتذكر ما حدث ويشعر برغبة شديدة في النوم.

الرؤى الروحية:

لاحظ العلماء ظهور ظواهر روحية عند المصابين بصرع الفص الصدغي أثناء الAura، مثل الرؤى والشعور بالسعادة الفجائية أو الخوف، أو الشعور بالملء الروحي.

ففي حالة درسها البروفسير (VS Ramachandran) في جامعة كاليفورنيا عن مريضة تدعي (Gwen Tighe)، ظنت أنها عندما أنجبت طفلها أنها أنجبت المسيح نفسه، ويؤكد البروفسير أن السبب هو مرض الصرع. وعقد البروفسير أيضًا دراسة بحثية يدرس تفاعل مرضى صرع الفص الصدغي مع المحتوي الديني، عن طريق قياس ردة فعل المرضى عند رؤية الصور الدينية ووجد بالفعل أنهم تأثروا بالمحتوى الديني وقال:

«لقد فوجئنا، أنه كل مرة تعرض هؤلاء للكلمات الدينية مثل (الله)، يظهر تقلص شديد في جلدهم»

وتحكي الصحفية ( Jess Hill ) خبرة إصابتها بصرع الفص الصدغي، تقول أنها شعرت لأول مرة بالنوبة الصرعية حينما كانت في الطائرة، شعرت فجأة بغيابها عن المحيط بيها، شعرت كأنها في «ثقب أسود» وفقدت النطق مع ذلك الشعور وفقدت اللغة أيضًا. وجدت نفسها تجري في الطائرة خائفة وتتشبث براكب بالقرب منها، وعندما رجعت للبلد التي تقصدها ذهبت للمستشفى، وتم تشخيصها بأن عندها ورم حميد في المخ نتج عنه نوبات صرعية.

وتعرفت الصحفية بمريضة أخري محامية تدعي (Lucinda Edwards) وحكت لها عن خبرتها مع المرض وقالت أنها رغم أنها ملحدة إلا أنها تشعر برؤى دينية وصور دينية تأتي لها أثناء النوبة وتشعر معها بشعور قوي بمعني الحياة وهدف خلق الكون تأتي تلك النوبات مع شعور مفاجئ بالسعادة. لذلك شعرت لوسيندا أنها من الممكن أن تكون «علامة من الله» لكنها تعرف أن سببها مرضي وليس روحي.

و يؤكد البروفسير (Mark Cook) رئيس قسم المخ والأعصاب بمستشفى (St.Vincent) والمتخصص في الصرع أن هناك ترابطًا بين الشعورالصوفي والصرع لكننا لا نعلم السبب بالتحديد. وقال العالم (W.G Gowers) عن دراسة عقدها عن مرضى الصرع أن هناك مريضًا شعر أنه موجود في « الجنة».

وبلّغ العالم (D. Williams) عن حالتين من ضمن 100 حالة درسهم عن صرع الفص الصدغي. لامرأة تبلغ من العمر 41 عامًا مصابة بالمرض وتقول أنها شعرت بسعادة وامتنان رهيب وقالت « شعرت أنني حصلت على معلوماتٍ لا يقدر أحد أن يحصل عليها، معلومة تنتمي للمرحلة بين الحياة والموت”. ورجل عمره 32 عامًا يقول « شعرت بالسعادة المفرطة وأحسست أن الغرفة التي أنا فيها تنتمي لعالم آخر».

كتب العالمان النفسيان (K Dewhurst و AW Beard) عن 6 حالات غيروا معتقداتهم الدينية عقب رؤيا دينية أثناء مرحلة الAura في النوبة الصرعية، منهم اثنان تحولوا نتيجة وهم من مرض الفصام Schizophrenic Delusion وشخص غيَر معتقده مرة أخري حين رأي رؤيا أخري عكس معتقده الأول وشخصان تحولوا للأبد للديانة الجديدة.

مرض الفصام Schizophrenia والرؤى الروحية

مرض الفصام هو مرض عقلي مزمن و شديد، يؤثر على تفكير الشخص وشعوره وطريقة تعامله، في ذلك المرض يفقد المريض تعامله مع الواقع وأعراضه شديدة ومن السهل ملاحظتها. ( وهو ليس كما يظن البعض يجعل المريض يتصرف بشخصيتين مختلفتين فهذا مرض آخر).

تنقسم أعراض الفصام لثلاثة أنواع:

  • الأعراض الإيجابية Positive symptoms: هي أعراض ذهانية تصيب فقط مرضى الذهان والفصام ولا ترى في أي شخص طبيعي مثل:
  1. الوهم Delusion : وهو الاعتقاد الخاطيء المستمر والغير قابل للتغيير بالطرق الإقناع العادية مثل اعتقاد الشخص أنه نبي أو قديس أو الله.
  2. الهلوسة Hallucination : حيث يري المريض أشياء على غير حقيقتها مثلًا يرى عصا ثعبان.
  3. تغيير في نمط تفكيره حيث لا يقدر المريض أن يعبر عن طريقة تفكير سليمة.
  4. زيادة الحركات أو ظهور حركات غريبة.
  • أعراض سلبية Negative Symptoms : وهي تؤثر في مشاعر الشخص وطريقة تعامله مثل:
  1. غياب المشاعر وقلة الشعور بالسعادة والرضا وصعوبة في الكلام أو القيام بأشياء جديدة.
  2. خلل في الإدراك Cognitive symptoms: يعاني المريض من خلل في الذاكرة والكلام والتفكير.

وقد لاحظ العلماء تشابهًا كبيرًا بين أعراض الفصام والرؤى الدينية. فالعلماء (Ronald Siddle) و (Gillian Haddock) و (Nicholas Tarrier) و (E.Brian Faragher) عقدوا دراسة على 193 مريض بالفصام ووجدوا أن 24% بلّغوا عن أوهام دينية ولاحظوا أن من يصابوا بالأوهام الدينية مثل إدعاء الألوهية أو أنهم أحد الأنبياء ينفذون وصايا من الكتاب المقدس بحرفية مثل «قلع العيون» ووجدوا صعوبة في علاجهم.

وفي دراسة بحثية أخرى أقامها (Sylvia Mohr) و (Philippe Hugulet) وجدوا النتائج الآتية عندما درسوا الأوهام الدينية عند مرضى الفصام:

  • حسب دراسات عُقدت في جينيف في سويسرا ، لاحظوا أن ثلث مرضى الفصام يكونون شديدو التدين خلال سنواتهم الأولى من المرض.
  • في لقاء مع المريض رقم 25 قال:

    « عندما كنت في حالة قلق شديد، كانوا يتحكمون بي، كنت أؤمن أني في علاقة قوية مع الله، وأنه يجب أن أقتل نفسي لكي أنقذ الأطفال (الذين كانوا يلعبون أمام منزلي). كانت فريضة عليَ، فأخذت الحبل لكي أشنق نفسي لكن الحبل قد انقطع وانتهت نوبة القلق»

  • في لقاء مع المريض رقم 12 قال:

    « أسمع أصواتًا تجعلني أقول أن «الله عظيم» وتشجعني على الصلاة، لكن توجد طائفة تضطهدني وأيضًا عند أخذ الأدوية تشعرني بالنعاس وتمنعني من الصلاة»

  • وقالوا أن غالبية الأوهام الدينية تكون في إطار اضطهادي مثل «الشيطان» أو في إطار كبرياء مثل إدعاء الألوهية أو القول أن الشخص يمثل المسيح أو أحد الملائكة أو الأنبياء.

ولاحظ البروفسير (Harold G. Koenig)، أن الأوهام الدينية تختلف حسب الثقافة وتدين الشعوب ، ففي دراسات عقدت في اليابان كانت نسبة الأوهام الدينية هناك بنسبة 7% فقط مقابل 39% في أمريكا.

أمثلة تاريخية يُظن أنها أصيبت بالأمراض السابق ذكرها

  • جان دارك Joan of Arc، فرنسا (1412 – 1431)

جان كانت فتاة فرنسية بسيطة ولدت لأب مزارع بسيط وأم فقيرة كاثوليكية شديدة التدين وقد نشأت جان في فترة تاريخية مهمة سميت بحرب «المئة عام» بين إنجلترا وفرنسا أدت لاحتلال إنجلترا لمقطاعات من فرنسا، قد سمعت جان دارك صوتًا من السماء يدعوها لمحاربة الإنجليز وطردهم من بلادها، وأدعت أنها رأت الملاك ميخائيل والقديسة كاثرين والقديسة مارجريت في رؤيا دينية ورفضت الزواج وذهبت لتنضم للجيش الفرنسي بعدما ارتدت زيّ الرجال.

وفازت على الإنجليز في معركة أورلينز لكن خسرت المعركة اللاحقة وأدى ذلك للقبض عليها والحكم عليها بتهمة الهرطقة والسحر لكنها تحت وقع التعذيب أنكرت أنها تلقت وحي من الله لكن بعد ذلك ارتدت زي الرجال فشك الجمهور أنها رجعت لهرطقتها و أحرقوها حية. وعندما درس علماء الأعصاب (Nicolas Nicastro) و (Fabienne Picard) من مستشفي جينيف الجامعي أنه من الممكن أن تكون قد تعرضت جان دارك لهلاوس سمعية وبصرية جعلتها تظن أنها مختارة من الله نتيجة صرع الفص الصدغي.

  • إيلين ج. وايت Ellen G. White ، الولايات المتحدة الأمريكية (1827 – 1915)

ولدت لعائلة فقيرة من أب و أم مزارعين، عندما كانت بسن 9 سنوات تم إلقاء صخرة عليها أدت لفقدانها الوعي والدخول في غيبوبة لمدة 3 أسابيع، تزوجت إيلين واعتنقت مذهب السبتية المسيحيية وكانت تحضر باستمرار للواعظ السبتي (ويليم ميلر) الذي ادعي أن المسيح سيأتي مجددًا عام 1844 طبقًا لنبوة سفر دانيال في الكتاب المقدس لكن المسيح لم يأت!
فأدى ذلك لترك الكثير من السبتيين لطائفته، فأُصيبت إيلين بإحباط لكنها صلت كثيرًا مع نسوة صديقات لها لإرشاد الله حتى ادعت أنه في يوم بحضور 4 نساء رأت رؤيا من الله أن المسيح بالفعل جاء لكنه متخفي عن الجميع.

منذ ذلك الحين ادعت (إيلين وايت) أنها تلقت 2000 رؤيا من الله وكتبت 40 كتابًا روحيًا وماتت عام 1915م بعدما أسست طائفة «أدفنتست اليوم السابع» المسيحيية واليوم الطائفة يعتنقها 12 مليون شخصًا ويظنون أنها نبية حباها الله بموهبة النبوة والرؤى.

أتى أطباء ليشخصوا إيلين وايت بعد ذلك بصرع الفص الصدغي خاصة الطبيب النفسي (Dr.William S. Sader) الذي كان يعلم إيلين وايت معرفة شخصية وقال بالحرف في رسالة بعثها لطبيب المخ والأعصاب (Charles D.Willis) :« بإجراء محادثات كثيرة مع إيلين وايت ومع الذين شاهدوها أثناء الرؤى الدينية، لقد توصلت لنتيجة أنها كانت تتعرض لنوبات صرعية، لا يوجد شيء فيما تقرر عنه في رؤياها لم أره في مرضاي». وقد أكد على ذلك (Charles D.Willis) طبيب المخ و الأعصاب و شخصها Post-traumatic temporal lobe epilepsy. و قد أكد على ذلك طبيب الأطفال Delbert H. Hodder وطبيب الجلدية Molleurus Couperus.

  • الروائي فيودور دوستيفسكي (Fyodor Dostoyevsky (1821 – 1881، روسيا

يعتبر دوستيفسكي من أشهر الروائيين في عالم الأدب على الإطلاق، فكتاباته تمتاز بالعمق وتحليل شديد للذات البشرية، فيراه العديد من الأدباء ليس فقط أديبًا بل أيضًا طبيبًا نفسيًا.

كان دوستيفسكي يعلم أن عنده صرع وكتب في رسالة لأخيه ميخائيل عام 1865م يقول فيها أنه تعرض لجميع النوبات، مما يرجح أنه تعرض لنوبات صرعية كبيرة، لكن فرويد شخّصه أن صرعه الذي كان يصفه في كتاباته كان نتيجة «هيستريا».

إعداد: Fady Khella

مراجعة: Mohamed El-Safi

تدقيق: Sherif M.Qamar

تحرير: Tawfik Atef

المصادر:

http://sc.egyres.com/wjd3s

http://sc.egyres.com/YxQXE

http://sc.egyres.com/8HJWT

http://sc.egyres.com/RJHNy

http://sc.egyres.com/a7T93

http://sc.egyres.com/uWOJ0

http://sc.egyres.com/2FA4X

http://sc.egyres.com/62mTg

http://sc.egyres.com/4gCzI

http://sc.egyres.com/lnrsp

http://sc.egyres.com/i0vjE

http://sc.egyres.com/nikdk

http://sc.egyres.com/FTc80

http://sc.egyres.com/woZM8

http://sc.egyres.com/Sw9ov

Gowers WG. Epilepsy and Other Chronic Convulsive disorders. 1st Ed London , William Wood , 1881 , 49-57

Williams D. , Temporal lobe syndromes , In:Vinken PJ. Bruyn GW, eds. Handbook of Clinical Neurology Vol 2: 700-24

Dewhurst K , Beard AW. Sudden Religious Conversions in Temporal lobe epilepsy. Br J Psychiatry, 1970 , 117 – 497 – 507

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي