الرجل الذي حسب زوجته قبعة

الرجل-الذي-حسب-زوجته-قبعة

|

 

هو عنوان حالة واحدة من ضمن 27 حالة يحتويها الكتاب الذي يحمل نفس الاسم أيضًا، للكاتب أوليفر ساكس «Oliver Sacks»، طبيب الأعصاب المشهور، متحدثًا فيه عن أغرب الحالات التي مرت به طوال فترة حياته؛ حيث تعتبر هذه الحالة أغربهم على الإطلاق وكان هذا سببًا لاختيارها عنوانًا لكتابه.

يتحدث أوليفر عن حالته: الدكتور «بي-P»، أستاذ الموسيقى المرموق في كلية الموسيقى المحلية الذي لم يميز الوجوه على نحوٍ سليم، بل لم يميزها على أي نحو، فهو يميز طلابه بناءً على حدسه الموسيقي لخطواتهم وحركاتهم وأصواتهم لا عن طريق شكل الوجوه. الدكتور بي أحيانًا كان يخاطب حنفيات المياه على أنها أشخاص حقيقيون؛ بل وقد كان يندهش من عدم استجابتهم لمحادثته لها!

لم يجد الدكتور بي في هذا أمرًا جللًا، ولم يرَ طلابه أيضًا هذا، فقد كانوا يحسبونه مازحًا بلا شك بتحدثه مع الهواء أو بتوبيخ الحنفيات، فهو رجل معروف بحس الدعابة. لم يذهب الدكتور بي إلى طبيب العيون إلا عندما أُصيب بداء السكري، و قد أخبره طبيبه أن عيناه سليمتان ولكنّ أمرًا ما جعل الطبيب يُحيله إلى طبيب أعصاب وهو الدكتور أوليفر ساكس مؤلف الكتاب.

اندهش الدكتور أوليفر من ذكاء وبراعة الدكتور بي، لكنه سيفحصه على أي حال بادئًا بفحص المنعكسات التي بدت طبيعية تمامًا عدا عن ذلك الشذوذ الطفيف الذي لا يوحي بمشكلة.

ولكن تبدأ القصة في فحص باطن القدم الذي بدا طبيعيًا أيضًا إلا عندما أخبره الطبيب أنه أنهى الفحص وأنه بإمكانه أن يرتدي حذائه، فلم يستطع ارتداء الحذاء أو لم يرَ الحذاء الأيسر من الأساس، بل حسبه قدمه، الأمر الذي جعل أوليفر الطبيب يطلب أن يكون ضيفًا في منزل الدكتور بي.

يصف الطبيب أوليفر منزل الدكتور بي بأنه ذو طابع موسيقيّ مميز، كتب وروايات، لكن الموسيقى هي التي تغلب طابع المنزل. يلتقيه الدكتور بي ويتجه نحو ساعة الحائط ليصافح الطبيب أوليفر لولا أن حياه الطبيب بصوته، فغير اتجاهه.

أخرج الدكتور أوليفر مجسمات أفلاطونية متماثلة الشكل، فتعرّف الدكتور بي عليها بنجاح، ثم تعرّف على بطاقات الولد والبنت والجوكر ببراعة أيضًا، بل وتعرّف على رسومات كاريكاتورية بحس فكاهة، ولكنّ العجيب أنه لم يتعرف على وردة نضرة وأخذ يتفحصها بعين الخبير في علم النباتات ويذكر طولها وعرضها ولونها دون ذكر أنها مجرد وردة. لم يعرف بحقيقتها إلا عندما شمها!

ولم يعرف بماهية القفاز واكتفى بوصف طياته وعدد جيوبه وخامة صنعه، وصاح عندما أدرك أنه قفاز حين ارتداه في النهاية.

استطاع الدكتور بي أن يحدد مكان بعض الدول على الخريطة، وكان شديد الملاحظة فكان تركيزه على تلك التفاصيل الدقيقة والأماكن المميزة في الخريطة، ولكنه فشل في التعرف على صورة غلاف لمنظر طبيعي يُظهر مشهدًا من الكثبان الرملية مع غياب الشمس، وأجاب عن وصف الصورة بأنها منزل كبير وبه مائدة للضيوف وهم جالسون عليها!

وعندما طالع الطبيب أوليفر الحائط وجد رسومات قد رسمها الدكتور بي مطبوع على كل واحدة منها تاريخها الزمني، وقد لاحظ الطبيب أوليفر تغير نبرة الرسومات من الطبيعيّ الحسيّ الدقيق تدرجًا إلى التجريدي المتحرر مُفتقد الدقة والصورة الكلية.

لم يستطع تمييز صور عائلته إلا أخيه باول الذي وصف فكه المربع المميز، ولم يتعرف على نفسه ذاتها، ولكنه تعرف على آينشتاين من شعره وشاربه المميزين.

المدهش أنه عندما طُلب منه أن يصف المدينة من مدخلها الشماليّ، كان يذكر المباني على الجانب الأيمن بذاكرة طبوغرافية فائقة ولكنه كان يهمل المباني على الجانب الأيسر، وعندما طُلب منه وصف نفس المدينة ولكن من مدخلها الجنوبي استطاع أن يصف مباني الجانب الأيمن التي أهملها سابقاً والتي كانت على يساره في الوصف الأول مما يعني أنه مصابٌ بعمه بصري ليس خارجيّ فقط ولكنه أيضًا داخليّ.

وعن تسمية الحالة بهذا الاسم فقد حدث وأن قام الدكتور بي -عندما كان يهم بالرحيل من عيادة الطبيب أوليفر- بالإمساك برأس زوجته ليرتديها ظنًا منه أنها قبعته.

لتفسير هذه الحالة ،التي تعتبر أكثر الحالات التي يهتم بها علم نفس الأعصاب «Neuropsychology»، وكيفية تأثير الخلل في مراكز معينة في المخ على السلوك ونمط الحياة.، فإن حالة الدكتور بي من أندر الحالات التي تم دراستها، وعلى الرغم من وجود مشكلة لديه في التعرف على الأشخاص المألوفين من ملامح وجوههم، فإن حياته تسير بشكل طبيعي ويغلب عليها الطابع الموسيقي ولا يعاني من شيء؛ بل في حقيقة الأمر كان يعاني من مجموعة اضطرابات. فالتشخيص الذي لا مجال للشك فيه هو صعوبة التعرف على الأشخاص المألوفين من ملامح وجوههم «prosopagnosia»، وأيضًا هناك احتمال بإصابته بعدم القدرة على قراءة الموسيقى المكتوبة «musical dyslexia»؛ لأنه كان لا يستطيع قراءة النوتة الموسيقية. ويندرج كلا من الاضطرابين تحت اضطراب عام يسمى «Visual Agnosia» وهو عدم القدرة على التعرف على الأشياء المألوفة والمؤثرات البصرية رغم قوة البصر.

لذلك المشكلة ليست في عينيه ولكن في مركز معين بالمخ، بالأخص في منطقة القشرة المخية البصرية. الدكتور بي كان يتعرف على الأشخاص لكن بطريقة أخرى وهي «الصوت»، لذلك فإن الخلل ليس في التعرف وإدراك ماهية الاشياء ولكن في استقبال المؤثرات البصرية للأشياء؛ إذن فعندما يوجد فشل في التعرف على الأشياء من خلال حاسة البصر، فإن هناك فشلًا مسبقًا في استقبال الإشارات البصرية في المخ وهذا ما يسمى بـِ «Apperceptive agnosia».

في الواقع يصعب تشخيص الأشخاص المصابين بخلل في وظائف المخ، ونادرًا ما ينطبق التشخيص على المعايير المصنفة للاضطرابات النفسية والعصبية. ومن المهم في هذا المجال الأخذ في عين الاعتبار أن كل هذا التصنيفات لا تتوافق مع جميع الأشخاص؛ لأن كل مخ فريد من حيث شدة الإضطراب ومنطقة الخلل أيضًا، غضافة إلى الاختلاف الفردي في كيفية عمل الدوائر العصبية مع بعضها، فكما نعلم أن المخ هو جهاز في غاية التعقيد جملة وتفصيلًا، ومن المنطقي أن أي اختلاف طفيف في خلايا المخ لا يتجاوز بضع ملليمترات سينتج عنه اختلافات مباشرة في السلوك والأداء.

تلخيص: محمد عبد العزيز

إعداد الجزء النفسي: Nabila Baghdady

مراجعة: Mohammad Marashdeh

تصميم: Bothaina Mahmoud

المصدر:

Oliver Sacks- The case of Dr.P : webfusion.net.nz [Internet]. [cited 2015 Dec 18]. Available from: http://sc.egyres.com/P7B5Y

#الباحثون_المصريون

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي