مملكة الأحلام
يرسم الأدب صورة نابضة للواقع؛ قد تغلب الكاتب مشاعره فيستطرد في الكلام ولا يُفوت حتى التنهدات ونبضات القلوب وزقزقة العصافير في فجر أحد الأيام، ويهيمن سلطان العقل أحيانًا فيكتب فقط ما يهم وينفع، ويقيم على كل ما يقول الحجة والبرهان؛ لكن ماذا لو أنك استيقظت في عالم من الفوضى؛ حروب وديكتاتوريات وثورات، دماء هنا وصرخات هناك فلا ملجأ لك ولا نصير من الألم، عقلانيتك وكل منطق عرفته البشرية غير قادر على استيعاب ما يحدث ووقفت عاجزًا في هول هذا المشهد.
كل ما تريده هو أن تترك كل شيء عرفته يومًا خلف ظهرك وتهرب ولكن إلي أين؟!
أبوكاليبس* القرن العشرين
يقول السياسي والكاتب «آلان وودز- Alan Woods»:
شهد القرن العشرين حربان عالميتان؛ لقى أكثر من خمسين مليون شخصًا مصرعهم خلال الحرب العالمية الثانية، كما كادت أن تمحو أثر كل الحضارات. إن جنون الفاشية بمعسكرات اعتقالها وغرف الإعدام بالغاز كانت قمع متوحش لدولة بدائية. أوضحت لنا الحرب الأخيرة مدى سطحية وهشاشة النظام الرأسمالي، النظام الذي تبعه أنصار الحرب والمدافعون عن السوق الحر، موقنين بأن الحرب والركود الاقتصادي أشباح من الماضي وأعلنوا واثقين أن الإنسانية تخطوا نحو عصرٍ ذهبي جديد، عصر السلام العالمي والرخاء والديموقراطية. هذه الأوهام التي عززها ألف مرة انهيار الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي قادنا لما يسمى؛ النظام العالمي الجديد. (1)
وجد من شهد القرن العشرين نفسه أمام تلك المأساة؛ العالم في فوضى عارمة. اندلعت في تلك الآونة الحرب العالمية الأولى (1914-1918)م والثورة البلشفية (1917)م. كما شهدت تلك الحقبة ميلاد الفاشية في إيطاليا بتمكن «بنيتو موسيليني- Benito Mussolini» من مقاليد الحكم (1922)م وميلاد النازية في ألمانيا بفوز «أدولف هتلر- Adolf Hitler» في الانتخابات عام (1933)م. كما أسفر تفوق الحركة القومية في روسيا ونشأة الاتحاد السوفيتي عن خلق أحزاب قومية ولاسلطوية (الفوضوية-Anarquismo) واشتراكية في كل أنحاء أوروبا التي دعت إلى الثورة والتمرد. (2)
كان لكل ذلك تبعات في نفوس الجميع خاصة حدث الحرب العالمية؛ فقد أثرت على حدٍ سواء في الدول المشاركة والدول التي لم تشارك. على الرغم من أن إسبانيا لم تُشارك في الحرب العالمية الأولى، إلا أن مفكريها شاركوا العالم المحيط بهم حزنه وتمرده. لا يعني هذا أن إسبانيا خلت من المشكلات وإنما عاشت أيضًا فترة تقلبات سياسية؛ حيث تحولت من ملكية إلى جمهورية وسط صراع وغليان داخلي بين مختلف الأحزاب وخارجي مع دول وقوى أخرى. (3)
لحظة ميلاد
يقول «خوسية أورتيجا إي جاسيت- José Ortega y Gasset» في كتابه «تجريد الفن من النزعة الإنسانية- Deshumanización del arte»:
من هنا جاء هذا الإلهام الجديد، الذي يلبس مظهراً غريباً، ليلامس، ولو بشكلٍ بسيط، طريق الفن الحقيقي، ذلك أن هذا الطريق يدعى “حرية اختيار الأسلوب”. ولكن: إن استعمال الأسلوب يعني تشويه ما هو واقعي وحقيقي، وبالتالي فإن الأسلوب يقتضي هدمًا للنزعة الإ نسانية والعكس صحيح أيضاً، فليست هناك طريقة أخرى لهدم النزعة الإنسانية إلا من خلال استعمال الأسلوب. (4)
لخص خوسيه في هذه الكلمات مقصد الحركات الطليعية التي توالى ظهورها في تلك الفترة، حيث أُصيب الفن والأدب بعدوى الثورة والتمرد. خَرَج الكتاب والفنانون على كل القواعد السابقة، واتجهوا صوب كل ما هو مستحدث وعشوائي وخارج عن المألوف. لم يهدفوا أبدًا أن يعكسوا المشكلات اليومية أو التحديات المعاصرة وإنما كان الهدف إدهاش المُتلقي وإخراجه من واقعه إلى واقع جديد. على هذا النحو ابتعدت الحركات الطليعية شيئًا فشيئًا عن النزعة الإنسانية، حتي ميلاد السريالية –التي تنتمي أيضًا لسلسلة الحركات الطليعة- ولكنها كانت مغايرة للحركات السابقة بحيث يمكن وصفها بـ أنها أعادت إحياء النزعة الإنسانية ولكن على طريقتها الخاصة.
ثورة اللاوعي
تسيطر على العقول الرغبة الجامحة في إخراج اللامعلوم ووضعه في منزلة المعلوم والمُصنف؛ تطغى رغبة التحليل على المشاعر. أيها السادة العقلاء: متى تحين ساعة الفلاسفة النائمين. – «أندريه بريتون- André Breton»؛ بيان السريالية الأول(5)
أطلق الكاتب الفرنسي «جيوم أبولينير- Guillaume Apollinaire» لفظة السريالية لأول مرة في باريس عام (1917)م لكي يصف نموذجين واضحين ضمن ميلاد فن جديد كان أحدهما استعراضًا للباليه والآخر عملًا مسرحيًا؛ وبذلك فإن منشأ الحركة كانت في فرنسا وتعني حرفيًا «الفوق واقعية». أرسى الشاعر والكاتب الفرنسي «أندريه بريتون- André Breton» فيما بعد قواعد السريالية ابتداءً من عام (1924)م في ثلاث منشورات يشرح فيها ما تعنيه الحركة ويوضح أهدافها والتي يبدو لنا من قراءتها أنها ليست فقط مدرسة فنية وأدبية وإنما مفهومًا جديدًا للحياة. على ضوء نظريات العالم النمساوي «سيجموند فرويد- Sigismund Freud»، سعي السرياليون إلى التحرر من الحتميات البرجوازية السائدة في ذلك الوقت عن طريق استخدام اللاوعي والذي يزهر عندما نعفي العقل من التحكم في دواخلنا، كما يحدث في عالم الأحلام. صاحبت تلك الحالة تقنيات ألحَّ السرياليون في استخدامها مثل الكتابة الآلية وتعني؛ التعبير عن كل ما يطرأ ويخطر في البال بصورة عفوية بحيث يكون الكاتب مغمورًا في عالم اللاوعي. (6)
السريالية الإسبانية
تبنت إسبانيا السريالية كمدرسة أدبية وفنية ولكنها لم تقبل بها كما هي وإنما صبغوها على طريقتهم الخاصة؛ فكانت السريالية الإسبانية خلقًا آخر. بالنظر إلى أثر الحركة في الأدب؛ سنجد أن أكثر الأنواع الأدبية تأثرًا بالحركة هي الشعر. ظهر في تلك الفترة جيل شعري ذاع صيته في أوروبا وفي كافة أنحاء العالم؛ جيل (1927)م. ضم هذا الجيل مجموعة من أفضل شعراء القرن العشرين لغزارة وجودة أعمالهم كما أنهم كانوا سُفراء مُمتازين عن الحركات الطليعية بما فيها السريالية، على أنهم لم يهملوا تراثهم الشعري والأدبي القديم. ساعد تواجد أعضاء هذا الجيل في نفس السكن الجامعي والتقارب العمري والمناخ الأدبي الخصب على بزوغ نجمهم. (7) كان الشاعر الإسباني الشهير «خوان رامون خيمينث- Juan Ramón Jiménez» الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام (1956)م مسؤولا عن السكن الطلابي؛ وبذلك وجد أعضاء الجيل قدوة ماثلة أمامهم ودافع يدفعهم طوال الوقت. (8)
كان هذا السكن الجامعي شاهدًا على ميلاد ثلاث فنانين سرياليين عالميين؛ الرفقاء الثلاث «جارثيا لوركا- Garcia Lorca»، «لويس بونيويل- Luis Buñuel» ،و«سلفادور دالي- Salvador Dalí». سلك كلٌ منهم دربه الخاص في الفن.
كان لوركا أحد أعضاء جيل (1927) الشهير فكان شاعرًا وكاتبًا مسرحيًا، والذي أدى اغتياله في بداية الحرب الأهلية الإسبانية إلى شهرته العالمية بالإضافة إلى جودة أعماله. (9)
أما «لويس بونيويل- Luis Buñuel» فقد استهوته السينما والإخراج؛ حيث شارك مع صديقه الرسّام دالي في عمل فيلم سيريالي شهير عام (1929) م يدعى «كلب أندلسي-Un perro andaluz»؛ كان هذا الفيلم تعبيرًا محضًا عن السريالية حيث أن أساس الفيلم قائم على حلمين أحدهما لـ سلفادور دالي والآخر لـ بونيويل بالإضافة للعديد من الرموز والإشارات في مختلف مشاهد الفيلم التي رآها كل ناقد وفق منظوره، هذه المشاهد اشتركت جميعها في أنها غير تقليدية وغير عقلانية ولا تنتمى لفكرٍ سابق، فقد اتفق كلاهما على وضع كل ما هو مثير ولافت للانتباه.(5)
سلفادور دالي
من لم يجد تفسيرًا لفني؛ هذا لا يعني أن فني ليس له معنى.
صاحب التعبيرات الطفولية والمريبة أحيانًا، الرسام السيريالي الكتالوني «سلفادور دالي- Salvador Dalí». رسم دالي منذ نعومة أظافره، لكن لم يكن له أسلوب مُحدد إلى أن التقي بـ أندريه بريتون عام (1929)م فوجد طريقه الحقيقي المُعبر عنه وصار من أهم أعضاء الحركة السُريالية. (9)
القارة اللاتينية تستقبل الفن الجديد
بعيدًا في قارة أمريكا الجنوبية، كان مطلع القرن العشرين هناك كارثيًا أيضًا. شرارة الثورة والتمرد تنتقل من دولة لأخرى بسرعة غير مسبوقة. كانت ولأول مرة يُسمع دوي انتفاضة القارة البعيدة في شتى بقاع الأرض بل واستحالت منذ القرن العشرين إلى قدوة ورمز للثورة والتحرر.
وُجد في تلك الفترة ما عُرف بمافيا المثقفين؛ احتكرت جماعة من الطبقة البرجوازية الذين شغلوا أوقات فراغهم بملء الصحف وتشييد متاحف ومراكز ثقافية فقط من أجل المال. بالتالي؛ عند وصول الفكر السريالي لم يتماشى ادعاء الثقافة واصطناع الفن والأدب مع طابع الفن الجديد؛ فالخيال للجميع فمنذ متى وكان على دواخلنا رقيب؟!
ومن ثم؛ حلت السريالية في مكانها المناسب وزُرعت في أرضٍ خصبة؛ فكان نتاجها ليس كأي نِتاج.
نمت النبتة الجديدة جنبًا إلى جنب مع نمو الثورات، ظفرت مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية بالمخرج والملاذ من خلال السريالية فخلفوا لنا أعمالًا خالدة ناطقة بحالهم ومُعبرة عن أحلامهم وأوجاعهم دون تسلط أو احتكار؛ فمن الكُتّاب من انتمى لطبقة العمال والفلاحين وآخرون من السكان الأصليين (Indígena)، الذين هم على اختلاف توجهاتهم إلا أن روح الثورة وحدتهم. (1)
سنكتفي بإلقاء الضوء على أشهر سرياليّ القارة ومنهم الرسامة الشهيرة «فريدا كالو- Frida Kahlo» التي فتح لها الفن آفاقًا جديدة وأعطاها بدلًا عن قدمها المصابة جناحان لتطير بعيدًا في عالم الخيال ولتجسد لنا معانٍ كالحب والألم. أجابت فريدا عمن سألها عن قدمها المُصابة قائلةً:
قدمان؟ ما جدوى القدمان؟ إذا كان لدي جناحان أُحلق بهما. (10)
تشعّين من الداخل
انت الحجر الاعمى
ليلة إثر ليلة أنحتكِ
بعينين مغمضتين
انتِ الحجر الصادق
ونغدو هائلين
فقط لأننا تعارفنا
بعينين مغمضتين.**
قصيدة للشاعر المكسيكي «أوكتافيو باث- Octavio Paz»، تعرف أوكتافيو على السريالية من منابعها في باريس من أندرية بريتون نفسه عام (1945)م. وجد الشاعر في السريالية إجابات وحلول لمشاكله حيث صرح بأنها: «محاولة يائسة لإيجاد مخرج». امتاز النتاج الفني لـ أوكتافيو بأنه أضاف عناصر من أساطير حضارة الآزتيك إلى أعماله. ترجمت الكثير من أعمال الشاعر المكسيكي إلى العربية. (11)
ختامًا؛ ما زالت السريالية مدرسةً أدبية وفنية لن تنضب أبدًا، فكما سبق وذكرنا أنها قبل أي شيء فكرة والفكرة لا تموت.
*apocalypse: كلمة إنجليزية تعني نهاية العالم والمقصود بها الحرب العالمية
** قصيدة «بعينين مغمضتين» ترجمة: جـمـانـة سلّوم حـداد
إعداد: رقية التهامي
مراجعة علمية ولغوية: آلاء مرزوق
تحرير: زياد الشامي
المصادر:
(1)
(2)
(5)
(6)
(7)
(8)
(9)
(10)
(11)