حدثت الشِّدَّۃ المستنصريۃ بمصر في عَهْد الخليفۃ الفاطمي المستنصر بالله٬ وسُميَّت بالسَبع سنين الِعجاف بسبب انخفاض منسوب مياه نهر النيل، فانعدمت الزراعۃ، وارتفعت الأسعار وعمَّ الوباءُ بالناس، جاعَ الناسُ حتی أكلوا الكلاب والقطط، وأكلوا الميتۃ ولحاء النخل، وأشتد بهم الجوع فأكلوا بعضهم أحياء، أنتشر الوباء فكان إذا مَرِض الرجل في بيته ومات فلا تَمُّر عليه الليلۃ أو يطلع عليه الصبح؛ إلا وأصبحَ أهل البيت كُلهم أموات، هلك في هذه الشِّدَّۃ من الخلق مالا يُحصيهم إلا خالِقَهُم.
في عهد الخليفۃ المُسْتنَصِر بالله وقعت أسوأ ما مرت به مصر من شدائد، تلك التي عُرفت بالشدۃ المستنصريۃنسبة إلى الخليفة المستنصر الفاطمي الذي حَكَم مصر لمدۃ ستين عامًا، تولی الحكم وهو ابن السَابعۃ وتوفي في السابعۃ والستين من العمر، وشهد عهده عديد الشدائد والوباء والغلاء والجلاء والفتن بمصر، كانت بدايۃ الشِّدۃ عندما انحصر مَدُّ النيل عن مصر في عام 457هـ-1065م وامتدت حتی عام 464هـ-1071م، حدثَ فيها الغلاء الذي ما عُهِد بِمثله من زمن يُوسف -عليه السلام-٬ فسُميت بالسبع العِجاف، عندما انخفض منسوب النيل فجفت الأراضي وتعطلت الزراعۃ، وتزايد الغلاء حتی أنه بِيعَت البيضۃ بعشرۃِ قراريط، وشربۃ الماء بدينار، وبِيعَ رغيف خبز بخمسين دينارًا٬ حتی بيع كلبٌ نافِق ليؤكل بخمس دنانير.
اشتَّد البأس بالناس فأكلوا الميتۃ، وعم البلاء فكان يتساقط الآلاف من الناس موتی في اليوم، وعجز الناس عن مواراۃ الأموات فكفنوهم في الأنخاخ (البُسُط الطويلۃ)، ثم عظمت شناعۃ الموت وتضاعف العجز، فصاروا يحفرون حُفرًا كبيرۃ يلقون فيها الأموات بعضهم علی بعض، وترصد الناس لبعضهم في الأزقۃ يسلبون ما معهم ويقتلوهم، وأكل الناس بعضهم، فقد كان البعض يتربص بالناس في الطرقات ويصطادوهم بالخطاطيف، فإذا ظفروا بأحدٍ أخذوه، وضربوه، وقطَّعُوا لحمه وأكلوه.
يقُولُ الشريف أبو عبدُ الله محمد الجَوَّاني في كتابه (النُقَّط): “حدَّثَني بعضُ نسائنا الصالحات، قالت: كانت لنا من الجارات امرأۃٌ تُرينا أفخاذها وفيها كالحُفَر، وكنا نسألها فتقول: أنا ممن خطفني أكلۃُ الناسِ في الشِّدَّۃ، فأخذني إنسان وكنت ذات جسمٍ وسِمَن، فأدخلني بيتاً فيه سكاكين وآثار الدماء وزفرۃ القتل٬ فأضجعني علی وجهي ورَبطَ في يديّ ورجليّ سلبًا إلی أوتاد حديد، ثم شَرَّحَ من أفخاذي وأنا أستغيثُ ولا أحد يُجيبُني، ثم أضرم الفحم وأسوی من لحمي وأكل أكلًا كثيرًا٬ ثم سَكِرَ حتی وقعَ علی جبينه لا يعرفُ أين هو؛ فأخذتُ في الحركۃ إلی أن تخلی أحدُ الأوتاد، وأعانَ الله علی الخَلَاص، وخَلَصت، وحللتُ الرباط، وأخذتُ خُرُوقًا من داره ولففت بها أفخاذي،وزحفت إلی خارج الدار إلی أن وقعتُ إلی الناس٬ فحُملتُ إلی بيتي، وعرَّفتهم بموضعه، فمَضوا إلی الوالي فكبس عليه وضرب عُنُقَه، وأقامت الدماء في أفخاذي سنۃً إلی أن خَتَم الجرح، وبقي هكذا حُفَرًا”.
يُحكی أن الوزير نزل يومًا راكبًا بغلته، فهجم عليها العامّۃ وأكلوها، فأمر بهم فَشُنقوا، فأجتمع الناس علی ميتتهم فأكلوها، وآل أمر الخليفۃ المستنصر إلی أن صار يجلس علی الحصير في قصره، وتعطلت دواوينه وذهب وقاره، وخرجت أمه وبناته ناشراتٍ شُعُورَهُن يَصحن: “الجوع الجوع”،و فررن إلى العراق، ولم يكن المستنصر يجدُ القوت حتی تُرسل له الشريفۃ بنت صاحب السبيل قدحً من الفتات من ما قد تبقی مما كانت تملك (والذي كان لا يُحصی قبل الشِّدۃ)، ولم يكن له غير هذا القوت مرۃً واحدۃً في اليوم لا يجدُ غيره، ولم يكن معه في القصر غير ثلاثۃٍ من الخدم؛ بعد أن كان حوله الحشم والخدم والنساء، قَويَ تَغْلُّب المارقين علی المستنصر وأستباحوا مافي بيوت أمواله، فلم يبقَ للدولۃ ماتعول عليه، ولا مالٌ يُرجَعُ إليه، فاضطر المستنصر إلی بيع كل ما في قصره بأبخس الأثمان، من الخزائن والاسلحۃ والمجوهرات والأحجار الكريمۃ والذهب ذكرهم المقريزي في ثلاث وعشرين صفحۃ من كتابه، وأخذ التُجار ما أُخرج من القصر من الثياب التي كان عددها مايزيد عن خمسين ألفًا وقيل مائة ألف والفرش المنسوجۃ بالذهب فحرقوها ليستخلصوا ما فيها من ذهب، يقول المقريزي: “وأُخرج من الذخائر مالا شُوهِد فيما بعده من الدول مثله نفاسۃً وغرابۃً وجلالۃً وكثرۃ وحُسناً وملاحۃً وجودۃً وسناء قيمۃ وغلو ثمن”. حتی أنه أُلِّف كتابٌ سُمي ” الذخائر والتحف وماكان في القصر من ذلك” لبيان ما أُخرج من خزاءن المستنصر.
لم يكن قصور مد النيل هو السبب الوحيد لحدوث تلك الشِّدَّۃ، وإنما كان ظهور الفتنۃ من اختلاف الكلمۃ ومحاربۃ الأجناد بعضهم بعضًا، وكان الجُند عدۃ طوائف مختلفۃ الأجناس، كان اللواتۃ والمغاربۃ علی الوجه البحري، والعبيد السودان علی أرض الصعيد، والأتراك بمصر والقاهرۃ، فتحاربوا وتصارعوا، واشتدت شوكۃ الأتراك علی المستنصر وطعموا فيه وتعنتوا في زيادۃ مقرارتهم٬ وكانت بين العبيد السودانيين والأتراك حروبٌ عظيمۃ، ثم اتحدوا علی المستنصر ليستغلوه ويستنفذوا أمواله.
بدأت الشِّدَّۃ بالانحسار قليلًا سنۃ 463هـ بسبب تصالح الجنود الأتراك مع ناصر الدولۃ ابن حمدان فدخلت الغلال إلی البلد؛ فطابت قلوب الناس، ولكن لم تمر السنۃ إلا وتنازعوا مجددًا وعادت الفتنۃ مرۃ أخری في مصر.
وفي عام 466هـ كتب المستنصر إلی أمير الجيوش بدر الجمالي بعكا، ليستعين به لنجدته وإعانته ووعده بتملك البلاد؛ بشرط أن يقدم بعسكر معه، فاستجاب له الجمالي وأبحر من عكا إلی مصر مع العساكر في مائة مركب، وقام بصنع مكيدۃ للأمراء كما فعل محمد علي مع المماليك في مذبحۃ القلعۃ، دعا الأمراء إلی قصره وقضوا وقتًا عنده في الأكل والشرب والأُنس ،حتی نفِدوا إلی قصورهم في المساء؛ أرسل مع كل أمير غلامً من غلمانه، فلم يصبح الصباح إلا وروءس الجميع بين يديه. وقويت شوكته واشتدت وطأته وعظم أمره وصارت جميع أمور الدولۃ في يده، يُحكی عن بدر الجمالي أنه لما دخل إلی مصر كانت المواضع خاويۃ علی عروشها خاليۃ من سكانها، فأباح للناس من العسكريۃ والملحيۃ والأرمن،وكل من وصلت قدرته إلی عمارۃ، أن يُعمِّر ماشاء في القاهرۃ مما خلا من دور الفسطاط بموت أهلها، فأخذ الناس في هدم المساكن ونحوها بمصر وعَمّروها.
المصادر:
1- جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي : النجوم الزاهرۃ في ملوك مصر والقاهرۃ.
2- تقي الدين أحمد بن علي المقريزي : اتغاظ الحُنفا بأخبارالأءمۃ الخُلفاء.
2- أيمن فؤاد سيد (دكتور): الدولۃ الفاطميۃ في مصر.
#الباحثون_المصريون