تصف الحكمة التقليدية النزاعات الأخلاقية كصراعٍ داخليٍّ ما بين نفسٍ أخلاقيةٍ أسمى وجانبٍ مظلمٍ غير مروّضة. هذه الفكرةُ متفشية في الخيال العام: الملاك والشيطان كلٌّ على كتف، وأمثولة «الثعلبين»، والكبرياء والهوية، و«النفس الحقيقية» و«النفس المزيفة». هذه الفكرة يتردد صداها في التقاليد الدينية التي تضعنا ما بين الملائكة والحيوانات في حلقةٍ عظيمة من الكينونة؛ الأمر الذي يتركنا ممزقين ما بين الأسمى والأدنى، والروح والجسد، والخير والشر، ومتطلبات الضمير وإغواء الخطيئة.
تستدعي هذه النظرة أيضًا تقليدًا فلسفيًا بدأ من أفلاطون واستمر حتى إيمانويل كانط، ويُظهر هذا التقليد -عادةً- نزاعاتِ الحياة الأخلاقية الأساسية كنوع من الحرب ما بين متطلباتِ الواجب وأخطار الرغبة. تظهر النفس كأنها مُقسمّة ويتحتّم عليها السعي للكمال من خلال تنحية أو إسكات عناصرها الشريرة، أيضًا من خلال رفض منحِ النوايا غير الأخلاقية موطئ قدم في الفكر والفعل. لهذا السبب فإن جزءًا كبيرًا من النظرية الأخلاقية يميل إلى افتراض وجود إجابةٍ أخلاقيةٍ صحيحةٍ عمّا ينبغي على المرء فعله تحت أي ظرفٍ معيّن. تَنتُج أيّ صعوبة في فعل الصواب من المقاومةِ «الأنانية أو الشريرة»، وليس من الحقيقة أنّ المرء ليس بوسعه فعل كل الأمور الجيّدة أو القيّمة التي يُطالَب بفعلها.
تتجاهلُ هذه النظرة المألوفة على أي حال حقيقة أنّه -في كثير من الأحيان- لا تكون المشكلة في الطريقة المُثلى لتجاوز أو إسكات الجانب المظلم للفرد، بل في كيفية التأقلم مع امتلاك العديد من المتطلبات الجيّدة أو المحايدة أخلاقيًّا مقارنةً بوقتك المحدود أو طاقتك أو مواردك. بكلمات أخرى، المشكلة الأساسية في الكثير من الحالات ليست في أنْ تكون أخلاقيًّا، بل في الطريقة المثلى لتوزيع مواردك الأخلاقية في حالات النُدرة والصراع. التعايش الناجح مع النوع الثاني من التحدي الأخلاقي يتطلّب طرقًا شديدة الاختلاف في التفكير في التمثيل الأخلاقي وكيفية الخلوص إلى حياة جيّدة.
هناك على الأقل ثلاث فئات مختلفة للأشياء الجيدة التي -على الدوام- تعطي الفرصة لظهور مزاعمٍ أخلاقيةٍ شرعيةٍ لا يمكن مقارنتها لكنها متنافسة، ويظهر كل منها من خلال موقفٍ عملي مختلف نتبنّاه تجاه العالم خلال محاولتنا اكتشاف ما يجدر بنا أن نفعله وأن نكُونه. في هذه الصورة، كل عنصر هو مفكك بالتأكيد، لكن الطريقةَ المثلى لفهم هذا التفكّك ليست في اعتباره صراعًا داخليًا ما بين النفس الخيّرة والنفس الشريرة.
ما هي هذه الميادين الأخلاقية الأساسية أو مستويات القيمة؟ قد يكون من المفيد التفكير فيهم من زاوية تمييز الأدب التقليدي ما بين منظور الشخص الأول والثاني والثالث. توفّر روايةٌ مكتوبةٌ من منظور الشخص الأول وصولًا لصراعات بطل الرواية من الداخل؛ حيث يقول القارئ «أنا» بالتوازي معه. في منظور الشخص الثاني، يكون التركيز على الشخص الآخر «أنت» آخذًا مركز الصدارة. أما حينما تُكتب من منظور الشخص الثالث، فإن صراعات كل شخصية تُرى من الخارج، يُشار إلى كلٌ منهم ب «هو» أو «هي» أو «هم» أو «هذا» في أوصاف حركاتهم في عالم الرواية. على الرغم من أن بعض الشخصيات قد تصبح أكثر أهميّة من الآخرين، فالمعهود ألّا يُخَصّ أحدهم بالذكر كمقدِّم للعدسة الأساسية التي يجد العالم معناه من خلالها.
هذه الزوايا ليست مجرد أدواتٍ أدبيةً مفيدةً فحسب؛ وإنما هي زوايًا عمليةٌ أساسيةٌ نعتنقها تجاه العالم ومكاننا فيه. في خلال سعينا لمشاريعنا ولذّاتنا، وفي تعاملنا مع الآخرين، وفي تشاركنا المؤسسات والمعاني العامة، فإننا ننتقل ذهابًا وإيابًا باستمرارٍ ما بين هذه الزوايا العملية الثلاث، ويُبرز كلٌّ منهم عناصرًا مختلفةً في الواجهة ويسلّط الضوء على خصائصٍ مختلفة من العالم وموقعنا فيه كأشخاص جيدين أو سيئين.
من منطلق الشخص الأول، أنت تبحر في العالم كفاعل يحاول تحقيق مشاريعه وتلبية رغباته. من منظور الشخص الثاني، أنت تفهم نفسك والعالم من خلال عدسة الآخرين، الذين هم مركز مشاريعٍ وتفضيلاتٍ خاصة بهم، تلك المشاريع والتفضيلات لها متطلبات شرعية من وقتك واهتمامك. أما من منظور الشخص الثالث، فأنت تفهم نفسك كواحدٍ من العديد، وكأنّك مدعوّ لموائمة نفسك بين القواعد والمعايير المشتركة الحاكمة لعالمٍ مكوّنٍ من العديد من الكائنات المماثلة لك.
هذه المناظير المختلفة تكشف خصائصًا مختلفةً لنفس العنصر أو الموقف. لنأخذ جسدك كمثال؛ حينما تزيل الأعشاب الضارة من الحديقة أو تغسل الأطباق فإنك -رغم طبيعة العمل الجسدية- تكون إلى حد كبير غير واعٍ بجسدك ما دام جسدك وسيلةٌ لإرادتك. بالطبع ما هو قيّم وبارز بخصوص الجسد من منظور الشخص الأول هو بالتحديد قدرته على الاختفاء داخل المهمة. إذا عُرقلت بصداع أو التهابٍ في مفصل كتفك، فإن حالة الجسد كوسيلة لكونك فاعلًا تتأثر، وتصبح بدلًا من ذلك مرغمًا على التفكير فيه كعنصرٍ متمرد يحتاج إلى التحكم به. إذا كان جسدك تمثيلًا مطابقًا لإرادتك، فإنه لم يعد «جسدك»، هو عِوضًا عن ذلك أنت ببساطة.
من منظور الشخص الثاني، يظهر جسدك كأداةِ اختبارٍ للشخص الآخر. فكّر في مدى اختلاف اختبارك لجسدك عندما تكون وحيدًا، في مقابل اختبارك له عندما يدخل شخصٌ فجأةً الغرفة. من منظور الشخص الثاني، جسد الشخص قد يبدو محرِجًا، أو مرغوبًا فيه، أو عاديًا، أو ناقص القدرات، إلى آخره؛ ويعتمد هذا على من يكون الشخص الآخر. تخيّل الآن أنّ نفس جسدك يفحصه طبيب. في هذه الحالة يظهر جسدك لك كشيء مختلف قليلًا عن التعبير السلس للتمثيل أو تجسيد الذات أمام فردٍ آخر. يتحوّل انتباهك لمنظور الشخص الثالث بحيث يظهر جسدك كعنصر مادي عرضةً لقواعدِ وتصنيفات العناصر الماديّة الأخرى، فتصبح له خصائص مختلفة ذات أهمية. خلال كشفٍ طبي، فإنك تختبر جسدك كمثال للشكل المادي العام، قادرًا على أن يُساعَد أو أن يُعاق من قبل إجراءاتٍ وأساليبٍ عامة طُوِّرت للتحكّم في العناصر من هذا النوع.
يجب أن تستجيب لكينونتك، إذا لم تستجب للآخرين فلتستجب لنفسك
هذا النوع من المنظور العملي للشخص الثالث ينتقل إلى الخلفية حين يهيّئ منظورٌ آخرٌ الشروطَ لما يمكن احتسابه ذو صلة أو ذو معنًى في موقف معيّن. الهدف هو رؤية كيف تمنحنا هذه المناظير المختلفة سبيلًا للوصول إلى نماذجٍ مختلفةٍ للمعنى والقيمة والأسباب، على الرغم من أننا قد لا نشغَل موقفًا واحدًا في معزلٍ تامٍّ عن المواقف الأخرى. أثناء شَغلنا منظورًا ما، فإننا لا ننسى المناظير الأخرى ببساطة، لكننا نكون واعين وخاضعين للمساءلة للمزاعم التي يطرحونها بطريقةٍ خفيّة. كل منظور يقدّم باستمرارٍ معلوماتٍ مهمّةً عمّا يهم وما هو أفضل، ونحن مسؤولون أمام المناظير الثلاثة كلّها في آنٍ واحد، حتى حينما يضع منظورٌ واحدٌ الخطّةَ عن الطريقة المُثلى لتوزيع وقتنا واهتمامنا وانتباهنا المحدودين في موقف معيّن.
حقيقة وجود عدّة منظورات أخلاقيّة تعني أنّ هناك أكثر من طريقةٍ لفهم ما هو الأفضل. الأفضل لمن؟ لي؟ لك؟ للعديد من الذين يشاركوننا العالم وللمؤسسات التي تسمح بهذه المشاركة؟ ليس باستطاعة منظورٍ واحدٍ الاستيعابُ الشامل للآخرين. يُظهر لنا كل منظور جانبًا مختلفًا للمعنى المعقّد للعالم الذي لا يمكن اختزاله ولمكاننا فيه. يمنحنا كل منظور وصولًا لطرقٍ مختلفةٍ لفهم ما هو مهم أو قيّم أو جيّد. حالة التعددية الأخلاقية الخاصّة بنا تعني أنّنا مزودون بمواردٍ مختلفة لإجابة أسئلة التمثيل الأساسية: ماذا ينبغي عليّ فعله؟ ما هي الاختيارات الأفضل والأسوأ في هذا الموقف؟ من الشخص الذي أحاول كونَه؟ لمن أدين بالمسؤولية؟ هذا التعقيد الأخلاقي يجعل من معيشة حياة جيّدة تحديًا، لأن الخيرات المتصارعة النابعة من هذه الفئات الأخلاقيّة المختلفة لا يمكن مقارنتها على مقياسٍ واحد. في معظم الحالات، لا توجد إجابةٌ سهلة عمّا ينبغي فعله. للتفاوض مع متطلبات الحياة فإننا ننتقل باستمرارٍ داخل وخارج كل منظورٍ في مقابل إدراكٍ في الخلفية أننا خاضعون للمساءلة للمعيار المختلف للمعنى والقيمة المكوِّن لكلٍ من المنظورات الثلاثة.
هذا التركيز على «الاستجابة» هو خاصيةٌ رئيسية للرواية الوجودية للشخصية. إنّنا نختبر ذواتنا بكونها «على المحك» في اختياراتنا، واعين لحقيقة أنّ ما نكونه هو مسؤوليتنا، وأنّنا نعبأ بأن نقوم بالأمر على النحو الصحيح. على الرغم من أنّنا على الداوم نحاول التغطية على تلك الحقيقة وإخفاءها عن طريق العقيدةِ السيئة والخضوع بلا تفكير وخداع النفس؛ أن تكون إنسانًا هو أن تكون مطارَدًا بالقلق الذي يصاحب الوعي بحريتنا والمسئولية الوجودية التي تنطوي عليها. في نهاية الأمر، يجب عليك أن تكون مسؤولًا عمّن تكونه؛ إن لم تكن مسؤولًا أمام الآخرين فلتكن مسؤولًا أمام نفسك. حالتنا الأساسية هي ككائناتٍ مُستجيبة أخلاقيًا، بمعنى كوننا كائنات لديها القدرة على أن توجَّه ناحية تمييزات للأفضل والأسوأ؛ اعتمادًا على هذا الإحساس بكوننا مسؤولين عن من نكونه.
الوعي بكونك مكلّفًا بوجودٍ أنت وحدك خاضعٌ للمساءلة فيه يعني أنّنا دومًا في حالةِ ترصّدٍ للإرشاد حول كيفية تقرير الاختيارات جيّدًا. الميادين الأخلاقية الثلاثة المختلفة الموضّحة من خلال منظورات الشخص الأول والثاني والثالث توفّر أدواتٍ لإجابة الأسئلة الوجودية الجوهرية التي تقدّم ضماناتٍ لكل خيار. كلّ منظورٍ يوفّر إطارًا أساسيًا مختلفًا للقيمة، اُطُرٌ من خلالها يصنع العالم متطلباتٍ علينا تلبيتها عن أفضل شيء لفعله. إننا بالتأكيد نفوسٌ ممزقة، لكنّ ما يفرقنا ليست على الأغلب معركةٌ ما بين نوايا الخير والشر. عوضًا عن ذلك، إنّه التوتّر ما بين أُطُرٍ عملية مختلفة لتقييم الخيارات الأفضل والأسوأ، كلّ منهم يرتكز على جانب مختلف من الخير.
طبقًا لهذه الصورة الوجودية، لا يمكنك أن تكون غير متأثر تمامًا بأيٍّ كان ما يبدو لك كالأفضل في أي موقف. لماذا؟ لأنه أن تكون غير مكترث تمامًا للاعتبارات التي تُحتسب لصالح اختيارِ طريقةٍ بدلًا من أخرى يعني التنازل عن تمثيل الفرد، أن تتبنى وضع الجماد الذي تقرره كليةُ الظروف العشوائية، بدلًا من وضع الفرد الفاعل المُستجيب للأسباب. لكن حتى هذا التنازل هو تعبير عن كون الفرد فاعلًا، وإن كان فردًا يسعى إلى إخفاء هذه الحقيقة عن نفسه. على الرغم من أنّه ليس واضحًا دائمًا ما هي الطريقة المُثلى للاستجابة لمزاعمٍ أخلاقيّةٍ محددةٍ حينما تظهر عبر المناظير العملية المختلفة في مواقفٍ معيّنة -وقد يكون المرء غير مؤهلٍ أو جبانٌ في التصدّي لتلك المواقف- فإنّه ليس بوسعنا الهروب من الحقيقة المطلقة أننا خاضعون للمساءلة حيال تلك المزاعم. ليس بوسعنا إلا الاهتمام بالفرق ما بين الحيوات الأفضل والأسوأ، وهذا يعني أنه ليس بوسعنا إلا الاهتمام بالاستجابة الجيدة لمزاعمِ كلٍ من المناظير العمليّة الثلاثة.
على النقيض، الكثير من أعمال النظرية الأخلاقيّة تولّي الأولوية لواحدة من هذه المنظورات العمليّة وتحدُّ من الصلة الأخلاقيّة للآخرين باستبعاد كونهم يوفرون الوصول الحقيقي للأسباب الأخلاقيّة. هذا له تأثير السماح لأي استجابة لمستويات أخرى من المزاعم الأخلاقيّة أن يتم تصنيفها كعمل غير عقلاني أو شرير. على سبيل المثال، النفعيّة الكلاسيكيّة تحثّنا على التفكير في الجميع -بما فيهم أنفسنا- كوحدة متساوية في الحساب الأخلاقي الذي يهدف للزيادة القصوى لإرضاء الرغبات والتفضيلات المشروعة. هذه هي طريقة الشخص الثالث لمقاربة السؤال عمّا هو الأفضل لفعله، بما إن كلًا منّا يجدر معاملته كوحدةٍ أخلاقيةٍ متساوية، عُرضةً لنفس الفئات والتقييمات كأي وحدة أخرى. على نحو مشابه، الأخلاقيّات الكانطيّة تولّي الأولوية لعالميةِ الأسباب الخاصّة بالشخص الثالث، المفهومة بكونها حاضرةٌ في صورةٍ طبق الأصل في كل الأفراد الفاعلين. في كل الحالات، تُعرَّف الحياة الجيّدة من ناحية قدرتك على إخضاع نفسك لفئات أخلاقيةٍ مشتركةٍ عالميًا؛ أن تفكّر في نفسك من المنظور الأخلاقي للشخص الثالث.
هناك شيء ما صحيحٌ حيال هذه المقاربة. إنها تمتلك تلك النتيجةَ المقنعة التي تدفعنا إلى أن نفعل أكثر مما نفعله للغرباء الذين هم في ضائقة؛ لأننا عادة ما ننغمس في مشاكلنا الخاصة أو مشاكل من نحبّهم. لكن هذا المقاربة أيضًا تثير اعتراضاتٍ مستمدةً من الاعتراف بالقيمة والأهميّة المتساوية لمنظوري الشخص الأول والثاني في حيواتنا الأخلاقيّة. على سبيل المثال، يوضّح ناقدو الأخلاقيّات الكانطية أن احترام منطقٍ عالمي يتجسّد في كل إنسان والاهتمام المحبَّ لشخص ما بالتحديد يمكن بصعوبةٍ اعتبارهما نفس الشيء. نُقّاد النفعيّة في الوقت نفسه يشيرون إلى أنّ الزيادة القصوى «للمنفعة الكليّة المتوقعة» -بمعنى الحصول على أكبر “كميّة” من النتائج الجيّدة الممكنة- قد يتطلّب منّا مثلًا حصد أعضاء شخص عند وصوله لفحص دوري روتيني لدى الطبيب، بما أنّ خمسةً من أعضائه الصحيحة بإمكانها إنقاذ حياة خمسةِ أشخاص في حالةٍ حرجة. السماح له بالاحتفاظ بأعضائه سينقذ شخصّا واحدّا تافهًا فقط. رغم كون النفعيّين والأخلاقيين قد جاءوا بالعديد من الردود الحاذقة على هذه الاعتراضات؛ فإنّ هذه المخاوف تظهر بطبيعة الحال من المنظور العملي للشخص الثالث، حيث يُرى كل شخص كوحدة مجهولة إلى حد كبيرٍ ويمكن استبدالها في العقلانيّة العامة أو النتائج الممكن حسابها للعالم بصفة عامة.
البيان الوافي للحياة الجيّدة يتطلب استيعاب كل المستويات الثلاثة للخير
لكن إذا فكرّنا فيما يهم من منظور الشخص الأول -ما يمكن تسميته قوة الفرد في حكم حياته والتعبير عن رغبته المميزة- فإنّ هذا النوع من المقاربة تظهر لنا كمقاربة وحشيّة. بالطبع فإن مقاربة التمثيل الأخلاقي المحبوبة للاقتصاديين والتحريريين -الأنانيّة العقلانيّة- تتأرجح بعيدًا في الاتجاه الآخر، في إصرارٍ على أنّ قوّة الفرد لحكم حياته الخاصّة والتعبير عن رغبته الشخصية هي الشيء الوحيد الذي له قيمةٌ حقيقية، والشيء الوحيد الذي يمكن أن يظهر كسبب حقيقي لفعل أي شيء. طبقًا لتقاريرٍ من هذا النوع -تلك التي تولي الأولوية لمنظور الشخص الأول مع استبعاد المنظورين الآخرين- فالمؤسسات أو الأشخاص هم غير أخلاقيين طالما هم يعرقلون أي مجهوداتٍ لفردٍ لإرضاء تفضيلاته الشخصية. كلّ الأسباب العمليّة المزعومة ينبغي فهمها في إطار سعي الفرد الحرّ لتفضيلاته، إذا كان يمكن احتسابها كأسباب من الأساس.
مرةً أخرى، شيء ما حيال هذا يبدو صحيحًا. كل فرد هو شرعيًا مُطالِب برغبة في الاستقلال والنجاح الفردي، إنّه توقٌ أساسي لإرضاء تفضيلات الفرد وتحقيق أحلامه. لكن اقتراح أنّ هذا هو المصدر الوحيد أو الأساسي للقيمة -أو أنّه الطريقة الشرعية الوحيدة لإجابة سؤال «ما الأفضل؟»- تقود إلى استنتاجاتٍ مخالفةٍ للتوقعات عن طبيعة الحياة الجيّدة. الاعتراض الأساسي هو أنّه يمحو تمامًا الطبيعةَ الاجتماعية العميقة للحيوات الإنسانية الجيّدة، مختزلًا الآخرين في كونهم مجرد وسائلٍ تُرضي تفضيلات الفرد.
على النقيض، الحقيقة التي تظهر لنا من خلال منظور الشخص الثاني هي أنّنا نقدّر الآخرين ونسعى على الدوام إلى تمكينهم في مشاريعهم وتفضيلاتهم، حتى لو كان لهذا تكلفةٌ شخصية عالية. من منظور الشخص الثاني، يختبر الفرد نفسه كما يُزعَم من قبل قيمة شخص آخر، وليس كمجردِ ممثلٍ لفئة أخلاقية عالمية، ولا كأداة مفيدةٍ لتطلعاته الشخصية. عوضًا عن ذلك يُختبر الشخص الآخر ككونه قيّمًا بطبيعته. لهذا يكشفُ منظور الشخص الثاني أنّ التصرفات يمكن اعتبارها أسبابًا، حتى تلك التي لا تشجّع اهتمامات الفرد نفسه.
لكن شرعيّة الميدانَين الأخلاقيَّين الآخرَين -خيرات بناء العالم المشترك، والاستقلال الذاتي التعبيري- تعني أنّه لا يمكن بسهولة إخضاعهما لإيثار منظور الشخص الثاني. البيان الوافي للحياة الجيّدة يتطلّب استيعاب كلٍ من المستويات الثلاثة للخير. على الرّغم من أنّ تخفيض رتبة الأولوية للنفس أو للمجال السياسي المشترك مقارنة بتصرفات التضحية بالنفسِ المفرطة أو الإحسان هي مثلٌ أعلى أخلاقي مقنِع تدعو إليه الكثير من ديانات العالم، إلا أن هذا أيضًا يشوّه الصورة الأخلاقيّة لما يمكن اعتباره حياة بشرية جيّدة.
على الرغم من أفضل المجهودات من قبل أصحاب النظريات الأخلاقية لتبسيط الأرضية الأخلاقية من خلال تقييدنا لمنظر واحد عن الخير أو مصدر واحد للمزاعم الأخلاقية نخضعُ لمساءلته، فإنّ فعلَ ذلك باستمرار ينتج عنه صورة للحياة البشرية تهمِل بعضًا من مصادر القيمة التي تجعل الحياة الجيّدة جيّدة بحق. كلٌّ من هذه المنظورات الأخلاقية توفّر لنا مجموعة من الأسباب الفريدة التي لا يمكن اختزالها أو ترجمتها إلى أي من المنظورات الأخرى بدون إزالة بعضٍ من الخصائص الجوهرية لحيواتنا الأخلاقية.
هذا يعني أنّ الحياة تواجهنا بتعارض جوهري لا يمكن حلّه. لقد أُسنِدت إلينا مهمة أن نجد طريقنا حول مزاعمٍ أخلاقية شرعية ومتنافسة -التي هي أنواع مختلفة من الخير- بدون احتكامٍ إلى مقياس مُطلق أو منظور أعلى من خلاله يمكن إزالة الصراع في إجابة الأسئلة الوجودية الأساسية التي نحن مدانون بها: من يتوجب عليَّ كونُه؟ ماذا يجب أن أفعل؟ إلى من أدينُ بالفضل؟
لا يجب أن يدفعنا هذا لتبنّي العدمية، بل إلى التعرّف على الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها الوصول لحياةٍ جيدة لكائنات منقسمة أخلاقيًا كما في حالتنا. أن تعيش حياةً إنسانية جيّدة -الأمر الذي يُسمّى أحيانًا بالازدهار- يتطلّب أن نكون في حالة تفاوضٍ دائم مع هذه الطرق الثلاثة المتنافسة للتعرّض للخير. يتطلّب الازدهار تحقيق توازنٍ دقيق ومتحوّلٍ بين الأرضيات الأخلاقية المختلفة. الازدهار هو التميّز البشري بين كل هذه الميادين (تحقيق الذات، والعلاقات الجيّدة، والاستجابة لمتطلبات العالم المُشترك) وتحقيقه بحيث يكون النجاح في ميدان لا يضحي -بنحو غير ملائم- بالنجاح في ميدان آخر.
حسنًا، ربما تفكر الآن، ولكن كيف بإمكاننا معرفة ما يتوجّب علينا فعله تحت أي ظروف معينة؟ المقاربة المذكورة هنا -تلك التي تركّز على الفوضى غير القابلة للحل والصراع في أساس حيواتنا الأخلاقية- تبدو أنّها تمتلك عيبَ عدم توفير إرشادٍ كافٍ لكيفية تقرير ما يجب على المرء فعله، على الأقل مقارنة بالموارد التي توفرها نظرياتٌ أخلاقية أخرى.
لكن هذه المقاربات الأخرى نجحت في توفير الإرشاد عبر تجاهل التعقيد الاخلاقي لكون المرء في قبضةِ تعددٍ لا يمكن اختزاله لأوجه الخير. لا يجدر بهذا أن يقودنا إلى التبسيط المُخل لهذه المقاربات بالطبع. الأخلاقيات الكانطية تولّي الأولوية لعالمية المنطق الخاصة بالشخص الثالث، لكن بوسعنا أن نرى أنّها تحاول استيعاب وُجهات النظر الأخلاقية الأخرى من خلال مفاهيم احترام الآخر (البُعد الخاص بالشخص الثاني) واحترام الذات (البُعد الخاص بالشخص الأول). إنها بالأساس تفرض علينا أن نحترم ذواتنا، والآخرين، وأن نبني عالمًا يمكن فيه احترام الجميع. بهذا الشكل، فإنها ترسم بشكل جيد خريطةً على الأرضية الأخلاقية ثلاثية الأجزاء التي حددتُها سابقًا، لكنها تميل إلى تجاهل التعقيدات الناتجة، بافتراض أنّ كل وجهات النظر الأخلاقية الثلاثة سوف تعرّضك لنفس المتطلبات الأخلاقية بحذافيرها.
المداولات الأخلاقية اليومية تتضمن الانتقال باستمرار من منظور إلى الآخر
بشكل مماثل، تولِي النفعيةُ الأولويةَ لقاعدة الشخص الثالث الأخلاقية للمنفعة العالمية، لكنّها تحاول أن تستوعب المنظورات الأخرى من خلال حقيقة أنّ تفضيلاتِ المرءَ لا تنتصر بشكل تلقائي على تفضيلات الآخرين (بُعد الشخص الثاني)؛ وحقيقة أنّ طبيعة القاعدة الإرشادية (الرضا) تتضمن إشارةً جوهرية إلى بعد الشخص الأول.
لكن في كلتا الحالتين فإن القصد -المفهوم أنّه قابل للتحقيق- يكون توفير نهجِ اتخاذ قرارٍ يقتضي تبنّي موقف الشخص الثالث المحايد، الذي يُزعَم أنّه يعكس القوة الأخلاقية للمجالَين الأخلاقيين الآخرين بدون زيادة. تلك النظرة هي التي يجب استجوابها.
ما يساعدنا الاحتكاكُ مع هذه النظريات الأخرى في التعرّف عليه هو كيف تتضمّن المداولات الأخلاقيّة اليوميّة التحوّل الدائم من منظورٍ لآخر في محاولة لموازنتهم أمام بعضهم البعض، على الرغم من انعدام قابلية قياسهم الجوهريّة. تخيّل أنّك تحاول التقرير ما بين الاستقالة من عملك لتسعى خلف مسارٍ وظيفي أقل إجهادًا. المرتّب الأقل سيجعل الأمور المعيشية أصعب لعائلتك، ولن تتمكّن من مساعدة الآخرين بنفس القدر في الوظيفة الجديدة. هل يعتبر انغماسًا في الملذّات أن تسعى خلف الخيار الأسهل حينما تمتلك المهاراتِ اللازمةَ لمساعدة الآخرين وحينما يكون فعل هذا يدعم عائلتك؟ ولكن ألا تستحقُّ أنت استراحةً أيضًا؟ كما أن التوتّر له تأثيرٌ سيئٌ على صحتك ومِزاجك، الذي بالتبعيّة يؤثر على عائلتك. بالوقت والطاقة الإضافيين اللذان يتيحهما التغيير، سيكون بوسعك المساعدة في المجتمع أكثر. ماذا ينبغي عليك فعله؟
هذه التحولات في المنظور تكشف أنّه غالبًا ما سيكون مستحيلًا تقييم الجودة الأخلاقيّة لتصرفاتٍ معينة باستثناء إزاء خلفيةِ مضمونِ حياة الفرد. في كلمات أخرى، عند تقييم النجاح أو الفشل الأخلاقي فإن الهدف الأساسي ينبغي أن يكون الحيوات وليس التصرفات. في معظم الحالات، يكون تصرف معين ذو معنًى فقط من حيث مكانه في حياة الفرد كاملة؛ من ناحية الدور الذي يلعبه هذا التصرف في المشهد العام للمتطلبات المتصارعة من طرف النفس والآخر والعالم. هل أنت ذلك الشخص الذي يساعد ويحترم الآخرين على الدوام على المستويين الفردي والمؤسسي؟ إذا كنتَ هذا الشخص، فيحقّ لك أن تصنع مساحةً لراحتك ومتعتك الخاصة. لكن إذا كنت دائمًا خاضعًا لصافرة الاستدعاء الخاصةِ بالانغماس في الملذات، فيجدر بك التفكير في إعادة توزيع مواردك المحدودة بحيث تعكس حياتُك قيمةَ المستويين الآخرَين من الخير بشكلٍ أفضل. الاستجابة الجيّدة إلى معايير التميّز المكوِّنة لكل ميدان أخلاقي (أن نكون أخيارًا مع أنفسنا ومع الآخرين وتجاه العالم) تتطلّب مجهودًا للتفاوض بحيث يكون من الممكن استيعاب ميادين الخير الثلاثة المتنافسة بشكلٍ متناسق. لهذا فالازدهار يتطلّب منّا أن نرتِّب أولوياتنا، ليس على مستوى اللحظة الراهنة فحسب، بل على مدار مشاريعنا وعلاقاتنا وهويّاتنا.
بالطبع سيكون هناك حدٌّ أدنى من القواسم المشتركة في كل مجالٍ أخلاقي. لا يوجد قدر من التصرّف الجيد يجعلك مستحِقًا لأن تعذِّب الآخرين على الأقل، ليس إذا كان سيتم احتسابك كشخص جيد وحياتُك كحياةِ جيّدة. لكن هذه القيود المطلقة هي قليلة جدًا، وقليل منّا يجد تلك القيودَ تحديدًا مغرية، على الأقل في هيئتهم الواضحة. لهذا السبب فإن هذه القيودَ غير قادرةٍ على توفير إرشاد عمليّ كافٍ حينما يتعلق الأمر بالاختيارات التي يقوم بها معظم الناس في حياتهم اليومية.
هذا التأكيد على الحيوات وليس الأفعال هو خاصيّة مميّزة لمقاربة أخلاقيات الفضيلة في النظريّة الأخلاقيّة، التي طبقًا لها يجدر بنا التركيز على شخصية الفرد وسياق حياته، وليس التركيز بشكل أساسي على اختياراتٍ أو أحداثٍ منعزلة. وجهة نظري، التي تدمج ما بين الوجوديّة مع أخلاقيات الفضيلة، تدعمُ هذه المقاربة، بالتوازي مع خاصيّةٍ أخرى أساسية لأخلاقيّات الفضيلة: الموضع المركزي للأدوار النموذجية/القدوات في استدلالنا الأخلاقي. عندما نشعرُ أنّنا ممزقون ما بين متطلباتٍ أخلاقيّة شرعيّة متنافسة سواء كان هذا في ميدان أخلاقي واحد (حينما نكون مطالبين بحاجتين متنافستين لشخصين نحبهما) أو عبر ميادينٍ مختلفة (حين تكون احتياجات شخص نحبّه متنافسة مع متطلبات عدلٍ مؤسسي)؛ يجب علينا التفكير بخصوص كيفيّة توزيع الأولويّات في حياتنا بشكل عام، وعادة ما نستلهم من نماذجِ الحياة الممتازة التي توفرها لنا قدواتنا الأخلاقيّة. ما تختارُ أن تفعله ينبغي أن يكون مُرشدُه فهمك لكيف تشكِّل هذه التصرفات حياةً ما. لكن فهم الكيفيّة التي تصنع بها تصرفاتٌ معيّنة حياةً أو شخصيّةً من نوع معيّن هي معلومات نتعلّمها بصفة رئيسية عبر النظر في حيواتٍ وشخصياتٍ أخرى. كيف نجد قدواتٍ جيّدة وكيف نتحرر من القدوات السيئة هي بالطبع أسئلة مهمّة للمناقشة، لكن هذه التحدّيات لا ينبغي أن تتداخل مع التعرّف على الأدوار النموذجيّة/القدوات كمصدرٍ أساسي للإرشاد خلال تنقّلنا في هذه الأرضيّة الأخلاقيّة المعقّدة.
واحدة من الطرق التي نتعلَّم من خلالها من الآخرين كيف ننجح في الاستيعاب وعمل التفاوض الذي يُعد ضروريًا بسبب التعددية التشريعية، هي من حيث الفضائل. الفضائل هي مواقفٌ لحل المشكلات التي من خلالها نتمكن من مواجهة عوائق الازدهار البشرية المُتضمَّنة في الحالة البشرية. هذه العوائق التي تحُول دون الازدهار تتضمن الفناء والمحدودية المؤقتة، والندرة الماديّة، والإغراءاتِ الناجمة عن الرغبة في المتعة الجسدية وتجنّب الألم. الفضائل هي طباع شخصية، هي ميول للرؤية والإحساس والفعل، ميولٌ تمكّن شخصًا جيدًا من الاستجابة الجيّدة للنفس والآخر والعالم المشترك. على سبيل المثال، يساعدنا الصبر على الاستجابة الجيّدة تجاه النفس والآخر والعالم المشترك، رغم العائق المؤقت الذي يجعل فعل هذا صعبًا جدًا. بتعويد أنفسنا على هذه النماذج المثالية للاستجابة المعيارية، يمكننا ملاءمة الطرق المختلفة التي يُفصح فيها الخير عن نفسه في حياتنا بطريقة أفضل. بالإضافة إلى ممنوعات مُطْلقة محددة على مجموعة محدودة من التعديات الصارخة على الخير، والنماذج الأخلاقية التي توجّهنا في سعينا، بوسع الفضائل مساعدتنا في التعايش مع تحديات الازدهار العميقة الهيكلية.
رؤية «التقاتل» الشائعة للأخلاق، حيث الأفراد الفاعلون ممزقون على الدوام ما بين الرغبات غير الأخلاقيّة ومتطلّبات الواجب، تستمدُّ كثيرًا من معقوليتها من مأزقنا الأخلاقي المتعدد، الذي يوجب علينا التفاوض مع الصراعات والتوترات الناجمة عن المصادر الأخلاقيّة المتنافسة التي توفرها ذواتنا والآخر والعالم الذي نتشاركه. إنّنا بالتأكيد في تعارض، ممزقين ما بين متطلّباتٍ أخلاقيّةٍ جوهرية موضوعيًا وشرعية نسبيًا. لكن هذا عادةً ما يكون ببساطة خاصيّة للمشهد الأخلاقي المعقد الذي نحن مدانون به، وليس علامةَ فساد أخلاقي داخلي. ما يمكن اعتباره «نية سيئة» في نموذج التقاتل هو عادة يمكن فهمه بطريقة أفضل على أنّه تجسيد لزعم شرعي آخر للخيرية، زعمٌ على خلاف مع قيمة نعتبرها في نهاية الأمر تمتلك أحقيّة أكبر للاعتراف في هذا السياق أو في هذه النقطة من حياتنا. لهذا فإن فعل الصواب ليس ببساطة أو بشكل أساسي مسألة إسكات رغبةٍ شريرة -على الرغم من أنّه قد يكون مفيدّا التفكير في الخيرات التي لا يمكننا تحقيقها بهذه الطريقة- بل يكون عوضّا عن ذلك مسألة تقرير ما هو الأفضل الآن في سياق حياة عيشت بشكل جيّد عند النظر إليها ككل؛ وليست هناك معادلةٌ بسيطة لمعرفة كيف نمارس هذا التمييز الأخلاقي أثناء صراعنا لتحقيق العدل بين كل مصادر القيمة التي نجد أنفسنا خاضعين لمساءلتها.
هل أنا سعيد؟ هل أنا كريم؟ هل أساهمُ في العالم؟ الصراع الأخلاقي الذي نواجهه هو إيجاد طريقةٍ للإجابة بدقّةٍ وصراحة بنعم على كل هذه الأسئلة الثلاثة في نفس الوقت، في خلال مسار الحياة الذي يَطرح أمامنا العديد من العوائق لفعل ذلك.