الأدبُ مرآة الشعوب وثقافتها، وهل توجدُ مرآة أصدقَ من عينيّ طفلٍ صغير، يخطو خطواتَه لاكتشافِ العالم بشغفٍ ملء الكون وطاقةٍ لا تنضب؟
إذا سألك أحدٌ عن أكثرِ عملٍ أدبيّ مؤثرٍ في حياتك، فسيكون غالبًا عملًا تؤول فيه البطولة لطفلٍ صغير. إذ أن العديد من الروائعِ العالمية التي لم تَفُت أي قارئ، كان أبطالها براعمًا صغيرة، تتحسسُ الأرضَ تحت قدميها، تخطو بحذرٍ نحو مستقبلها. تلك الروايات بلا شكٍ كان لها بالغُ الأثر في نفوسنا؛ لصدقِ التجربة، ونأيها عن التشوهِ بأي عواملٍ؛ فيصفُ الطفلُ العالمَ كما يراه؛ ولذلك استُخدِمَ الأطفالُ في الأدبِ لكونهم رسولًا صادقًا، يخبرُ القارئ بحالِ المجتمع كما رآها بعينيِه البريئتين. لا أتحدثُ في هذا المقال عن الطفولةِ، بل عن منظورِ الطفولة في الأدب؛ “وفقًا لطبيعةِ الطفل، لا يُمكِنُ حصرُ المواضيع التي يتناولُها ذلك النوعُ من الأدبِ في بابٍ واحد، بل يُؤخَذ مدخلًا لعديدٍ من المواضيع مثل: السياسة، والتاريخ، والعلوم الإنسانيّة، والفنون”.[1]
قصة (أوليفر تويست) للكاتبِ الإنجليزيّ تشارلز ديكنز مثلاً، وبطلها طفلٌ يتيم يستغلُه لصٌ هو وعدد من الأيتام؛ للسرقةِ، والتسول. تناولت القصةُ عددًا كبيرًا جدًا من القضايا، ونقلت لنا صورةً تفصيليّة عن المجتمع الإنجليزيّ بعد الثورة الصناعيّة. علاوة على ما سبق، أبرزت القصةُ عيوبَ المجتمع آنذاك، ليس من منظورٍ ناقد أو إصلاحيّ مُجرد، بل تعكسُ صورةً مؤلمة لذلك المجتمع؛ لتستفز أفرادَه للتغيير. ورغم أن الكاتب نفسه –ليس تشارلز ديكنز على وجه التحديد- قد يروي التاريخَ أو يصفُ المجتمعَ من وجهةِ نظره الخاصة، إلا أن القارئَ بأي حالٍ لن يشُكْ فيما يرويه طفلٌ يتألم، فربما كانت تلك حيلةٌ أدبيةٌ يستخدمُها الكاتب؛ لإضفاءِ مصداقيةٍ لكلامه.
جديرٌ بالذكر أيضًا كونُ معظمُ الأطفال أبطالُ الروايات في القرنين التاسع عشر، والعشرين أيتامًا. ربما يتعلقُ ذلك بارتباطِ تلك الفترة بعديدٍ من الحروب، حيث فُقِد الكثيرون، وتزايدُ عددُ الأطفال الأيتام في ذلك الوقت بطريقةٍ ملحوظة. ومن هنا، نأخذُ لمحةً تاريخيّة عن الحروب، ولمحةً سياسيّة عن تكوينِ المجتمع وفئاته، ولمحةً إنسانيّة عن رؤيةِ المجتمع للأيتامِ وكيف تعاملَ معهم، ولمحاتٍ كثيرة في علمِ النفس للمجتمع بعد الحروبِ والثورةِ الصناعية، وعلمِ نفس الطفل وعلمِ نفس الكبار. وكما ذكرت آنفًا، لا يُمكِنُ حصر هذا الأدب في بابٍ واحد.
ومنذ نشأة الأدب، نجدُ الكتابُ يركزون على نشأةِ البطل منذ طفولِته، ويعكسون صورًا، ومواقفًا متعددة أثرت في شخصيتِه. واشتركَ معظمُ الكتابِ في منحِ الأبطال المؤثرين طفولةً مميزة وغالبًا صعبة، فتتساءل إذا ما كانت الطفولةُ القاسية تُنشئ أبطالًا، ثم تفكرُ لماذا تجدُ بين شخصياتِ القصة الواحدة أطفالًا عاشوا نفسَ الواقع، ونفس التجربة ولكن نما كل منهم على نحوٍ مختلف؟ في كثيرٍ من القصصِ التراثية، كان الأبطال أيتامًا أيضًا مثل: معظم حَكايا الإغريق، والسيرة الهلالية كمثالٍ من التراث العربيّ. على أي حال، ليس أدبُ الطفل أدبًا يتيمًا -وإن شاع استخدام تلك الصورة-، فتلك ليست الغاية. فجوهرُ ذلك اللون الأدبي التعبيرُ الصادق كما قال بيكاسو: «أنا أرسمُ الأشياء كما أفكر فيها، لا كما أراها»، وكذلك الطفل.
وفي روايات مارك توين (Mark Twain)، كان أبطالُ أشهر عملين له أطفالًا كثيرة، وهو أفضل مما كان سيمثلُه بطلٌ كبير مثل توم سوير، الطفلُ الذي يمثلُ حماسَ الطفولة وشغفها، وحب الاكتشافِ، والمراوغةِ أحيانًا. فلا مفرّ من أن بعضَ الانطفاء يعترينا كلما تقدمَ بنا العمر والخبرات، ولا مفر أيضًا من أن تقيدُ الواقعيةُ أقدامَنا بالأرضِ؛ فتعيقنا عن التحليقِ لنلامسَ النجوم. لا نتخيلُ بطلًا بالغًا على نفسِ القدر من الشجاعةِ، والإقبالِ على الحياة؛ فعندما كنا أطفالًا، كنا أقوى ممن نحن عليه ونحن بالغون.
ورغم تباينِ الأحداث والأزمنة والأماكن، وتباينِ شخصيات الأطفال في الأدبِ بين صور للفضيلة أو للفساد في المجتمع، ما بين هؤلاء الضحايا الملحميين في رواياتِ ديكنز مثل أوليفر تويست، أو العبيد والساعين للحريةِ مثل توم سوير وهاك لمارك توين؛ إلا أن جميعهم كانوا رموزًا أو أيقونات لقضاياٍ موجودة، ومحتملة يعرفُها الجميع حتى من لم يقرأ الروايات. تلك القضايا موجودةٌ، وقائمة رغم تغيّرِ الزمان، والظروف، وكل تفاصيلِ الروايات، لكن المشكلةَ الأساسيّة تظلُ واردةَ الحدوثِ في أي وقت.[2]
والطفولةُ ليست موضوعًا احتكره الأدب الإنجليزيّ، فقد انتهجَ بعضُ من عظماء الأدب العربيّ نفس النهج في تصوير الحياة بفلسفةِ الأطفال مثل الرافعيّ الذي نقلَ في كتابِه «وحي القلم» صورةً عن التشوهِ الذي أصابَ بنيةَ الحياة الاجتماعية، وعَبَثَ بالإنسانية، فاستخدمَ الطفلَ صورةً للنقاء، والبراءة ومصدرًا للسعادة.[3]
التجربةُ الإنسانية من منظورٍ يافع تكون أصدقَ وأعمق، وتشفُ عن صورةٍ أكثر واقعية للمجتمع والحياة. لذلك، فإن توظيفَ الطفولةِ في الأعمالِ الأدبية كان بالغُ الأثر في التعبيرِ عن فلسفةٍ أعمق وواقعٍ أشمل؛ وكان لكذلك بالغُ الأثر في نفوسنا إذ هامَ وجداننا مع هؤلاءِ الأطفال، وعشنا قصصَهم معهم فلم ننسهم. وتلك الأعمالُ كانت الأنجح مُطلقًا وستظل كذلك، إذ أن هشاشة التجربة، وقسوتها تُثيرُ في القارئ مشاعرَ الخوف، والشفقة؛ فتسمو بنَفسِه نحو الأفضل، وتلك غايةُ الأدب في الارتقاءِ بالروح الإنسانيّة كما قال أرسطو.
2 Responses
مقال رائع يا إيمان ..
سلاسة العرض واللغة السليمه وحسن اختيار الموضوع كلهم موجودين ف المقاله
جامد