العدمية

jakub-kriz-arOyDPUAJzc-unsplash

«يكمن خطر العدمية في كونها تعزلنا عن كل ما هو جيد أو حقيقي. غير أنّ عدم الإيمان بأيّ شيء قد يكون له إمكانية إيجابية.»

العدمية خطر دائم. وطبقًا للفيلسوفة “حنا أرندت” يُمكن فهم العدمية،ليس على أنّها مجموعة من «الأفكار الخطيرة»، بل على أنّها خطر يقبع في تصرف التفكير نفسه. فإذا قمنا بإعمال فكرنا في أيّة فكرةٍ لفترة طويلة كافية، فإنّنا سنبدأ بالتشكيك في حقيقتها، مهما كانت قوتها، ومهما كان نطاق تقبّلها واسعًا. وقد نبدأ أيضًا في التشكيك فيمَ إذا كان المتقبلون لتلك الفكرة يعلمون حقًّا أو يهتمون بمعرفة ما إذا كانت تلك الفكرة حقيقية أم لا؟!. يُمثل هذا خطوةً في البعد عن التفكير في سبب غياب الإجماع على كثير من القضايا، وفي سبب ظنك أن الجميع -باستثنائك- متأكدون مما يبدو لك مُشككًا فيه. في هذه النقطة وعلى حافة العدمية، لديكَ خياران: إمّا الاستمرار في التفكير، والمخاطرة بأن يؤدي ذلك لانعزالك عن المجتمع، أو التوقف عن التفكير، والمخاطرة بأن يؤدي ذلك لانعزالك عن الواقع.

كان “فريدريك نيتشه” قد وصف في مذكراته -قبل أرندت بقرن- خيارًا ما بين «العدمية الإيجابية» و«العدمية السلبية». وكان واحدًا من ضمن أقواله المأثورة عن العدمية قوله:

«إنها نتاج تخفيض قيمة المُثل العليا.»

إذًا يمكن للمثل من قبيل الحقيقة والعدالة أن تنقل إلينا الشعور بأنّها ليست مجرد أفكار، بل بأنّها تمتلك نوعًا من القوى الخارقة؛ بالذات حينما نقول: «ستجعلك الحقيقة حرًا» أو «ستسود العدالة». وحينما يظهر أنَّ هذه القيم لا تمتلك القوة المنسوبة إليها؛ لا تُحرّرك الحقيقة، ولا تنشأ العدالة، فإننا نصبح مخذولين. على الرغم من ذلك، فإنّنا بدلًا من أن نلوم أنفسنا على الإيمان الزائد بهذه القيم، نلوم تلك القيم على عدم رقيّها لتوقعاتنا. وتبعًا لنيتشه، في هذه النقطة، يمكننا أن نصبح عدميّين إيجابيين، ونرفض القيم الممنوحة لنا من الآخرين، في سبيل إنشاء قيم خاصة بنا. الخيار الآخر هو أن نصبح عدميّين سلبيّين فنستمر في الإيمان بالقيم التقليدية، رغم امتلاكنا شكوكا عن مدى قيمية هذه القيم. هكذا فالعدميون الإيجابيون يدمرون من أجل إيجاد أو خلق شيء يستحق الإيمان به؛ وما ينجو من الدمار هو وحده يجعلنا أقوى. اشترك نيتشه، وروسيو القرن التاسع عشر الذين عرّفوا أنفسهم كعدميّين في هذا الإطار. أما عن العدمي السلبي فهو لا يريد المخاطرة بالتدمير الذاتي، ولهذا فهو يتمسك بالأمان الذي توفره القيم التقليدية. وقد ذهب نيتشه إلى القول:

«مثل هذه الحماية الذاتية هي في الحقيقة أكثر خطرًا من التدمير الذاتي.»

قد يقود الإيمان فقط لأجل الإيمان بشيء إلى وجود سطحي، وإلى التقبُّل الراضي بالإيمان بأي شيء يؤمن به الآخرون؛ لأن الإيمان بشيء -حتى وإن اتضح أنه لا يستحق الإيمان به- سيراه العدمي السلبي كبديل أفضل من تحمل خطر عدم الإيمان بأي شيء، عوض خطر التحديق في الهاوية.[1]

أصبحت العدميّة اليوم طريقة شائعة لوصف سلوك منتشر تجاه الوضع الحالي للعالم. على الرغم من ذلك، فعند استخدام المصطلح في المحادثات، وفي مقالات الجرائد، أو في أحاديث وسائل التواصل الاجتماعي الصاخبة، قليلًا ما يتم تعريفه، وكأنّ الجميع يعرف جيدًا ما معنى العدميّة ويتشاركون تعريفًا للمفهوم. لكن كما رأينا، يمكن للعدميّة أن تكون إيجابية أو سلبية. وإذا أردنا فهمًا أفضل للعدمية المعاصرة، فيجب أن نتعرف على كيفية تطوّرها في علم المعرفة، والأخلاق، والميتافيزيقيا، وكيف وَجدَت تعبيرًا عنها في صور مختلفة في الحياة؛ كما في إنكار الذات، وإنكار الموت، وإنكار العالم.

في الإبستمولوجيا (نقد المعرفة العلمية)، تُرى العدمية غالبًا على أنّها إنكار إمكانية المعرفة، والقول بأنّ قناعاتنا الأكثر رسوخًا وتقديسًا، ليس لها أساس. المساندون للعدمية الإبيستمولوجية/المعرفيّة يدفعون بفكرة أنّ المعرفة تتطلب شيئًا أكثر من وجود العالم والمعلوم، وبأن شيئًا أكثر يُرى غالبًا على أنّه ما يجعل المعرفة موضوعيّة؛ مثل كون المقدرة على الإشارة إلى شيء خارج تجربة الفرد الشخصيّة الخاصة هو ما يفصل المعرفة عن مجرد الرأي.

كل تعويل إذن على الموضوعية يُرى من وجهة نظر العدميّة الإبيستمولوجية وهمًا. فنحن نخلق انطباع المعرفة لإخفاء حقيقة أنّه ليست هناك حقائق. على سبيل المثال، بإمكاننا تطوير نماذج شديدة التعقيد وشديدة النجاح في وصفها للواقع؛ والتي بدورها يمكنها مساعدتنا في اكتشاف كنزٍ من «الحقائق» الجديدة، لكن لا يمكننا أبدًا إثبات أنّ هذه الحقائق تنسجم مع الواقع نفسه، إذ يمكن لها ببساطة أن تكون مستمدّة من نموذجنا الخاص للواقع.

إذا زُعم أن شيئًا ما صحيح بناء على خبرة سابقة، حينها تظهر مشكلة الاستقراء: فقط لأنّ شيئًا ما حدث من قبل، فهذا لا يعني أنه سيحدث مجددًا. أمّا إذا زٌعم أنّ شيئًا ما صحيح بناء على دليل علمي، فستظهر مشكلة الاستعانة بالسلطة. في المنطق، تُرى مثل هذه الاستعانات على أنّها ارتكاب لمغالطة، حيث إنّ مزاعم الآخرين -حتى وإن كانوا متخصصين- ليست أرضًا صلبة للحقيقة؛ بمعنى أنّ المتخصصين قد يكونون متحيزين، وقد يرتكبون أخطاء. بالإضافة إلى ذلك، حينما يُنشىء العلماء مزاعم مبنية على أعمال علماء سابقين، فإنّهم أيضًا يمكن رؤيتهم على أنّهم يستعينون بالسلطة. هذا يقودنا إلى مشكلة أخرى، وهي مشكلة الارتداد اللانهائي. أيّة مزاعم للمعرفة تكون مبنية على أساس ما، فإن  تلك المزاعم تقود حتمًا إلى أسئلة عن أساس هذا الأساس، ثم أساس الأساس، وهكذا..

«في تتفيه الشكوك حيال المعرفة، يُتَّفه العدمي السلبي رحلة الوصول إلى المعرفة.»

عند هذه النقطة قد يبدو أنّ ما أُسميه «العدميّة الإبيستمولوجية» لا يختلف عن الشكوكية؛ لأنّ الشكوكي -وكما هي الحالة هنا- يشكّك في الأسس التي على أساسها تقوم المزاعم العلمية، ويشكّك في إمكانية أن تجد المعرفة أيّ أرضية صلبة. هنا سيكون مفيدًا العودة إلى تفريق نيتشه بين العدمي السلبي والعدمي الإيجابي. ففي حين أنّ العدمي الإيجابي سيكون مماثلًا للشكوكي المتطرف، فإنّ العدمي السلبي لن يكون كذلك. العدمي السلبي واعٍ بأنّ أسئلة شكوكية قد تظهر حيال المعرفة، ونتيجة لذلك فالمعرفة بالنسبة للعدمي السلبي موجودة على أساس الإيمان.

لهذا فالعدميّة لا توجد فقط في الشخص الذي يرفض مزاعم العلم لافتقادها إلى أساس غير قابل للاستدلال؛ بل إنّها توجد أيضًا في الشخص الذي يعي الشكوك المحيطة بمزاعم المعرفة والذي رغم ذلك يستمر في التصرف وكأنّ هذه الشكوك لا تعني شيئًا، فهذا الشخص هو أيضًا عدمي.

يمكن تأسيس النظريات العلمية على استناداتٍ لنظريات أخرى، والتي بدورها تستند على نظريات أخرى، وأيٌ من تلك النظريات يمكن أن يكون مبنيًا على خطأ. لكن طالما أن النظريات العلمية مستمرة في إظهار نتائج بالذات في مجال التقدم التكنولوجي، فإنّ الشكوك حول حقيقة تلك النظريات يمكن رؤيتها كأمر تافه. وفي تتفيه الشكوك حول المعرفة، فإن العدمي السلبي يتفِّه من رحلة الوصول إلى المعرفة.

بكلمات أخرى، فالمعرفة بالنسبة للعدمي السلبي لا تهم. فقط فكّر في مدى تكرار استخدام كلمات مثل «المعرفة» و«التأكد» بشكل اعتباطي في الحياة اليومية. عندما يقول أحدهم أنّه يعلم أنّ القطار قادم، وإذا سألناه كيف يعلم -بصرف النظر عمّا إذا كنّا نعلم أم لا- فإننا نُقابل بالإجابة متمثلةً في أساس المعرفة المطلق في الحياة المعاصرة: لأنَّ هاتفهم يقول ذلك. قد يتضح أنَّ الهاتف مُصيب، وفي هذه الحالة يبقى الاعتماد على السلطة قائمًا. قد يتضح بدلًا من ذلك أنَّ الهاتف مخطىء، وفي كلتي الحالتين من المُرجح أن نلوم القطار وليس الهاتف. لأنَّ الهاتف الخلوي أصبح مزوّدنا الرئيسي بالمعرفة، فالاعتراف بأنّه كان مخطئًا يؤدي للمخاطرة ليس فقط بالاعتراف أنّ معرفتنا المبنية على الهاتف الخلوي ليس لها أساس من الصحة، بل أيضًا بأنّ كل مزاعم معرفتنا قد تكون كذلك. في نهاية الأمر -وكما في حالة الهاتف الخلوي- نحن نميل إلى السؤال عن لِمَ نعتقد أنّنا نعلم ما نعتقد أننا نعلمه. وبهذه الطريقة، تصبح العدمية السلبية ليست مجرد موقف «ما بعد حداثي» متطرف، بل جزءًا طبيعيًا من الحياة اليومية.

تُرى العدمية في الفلسفة الأخلاقية على أنها إنكار لوجود الأخلاقيات، وكما ذهب “دونالد كروسبي” إلى القول[2] بأنّ العدمية الأخلاقية يمكن رؤيتها كنتيجة للعدمية الإبيستمولوجية. إذا لم تكن هناك أيّة أسس لصنع مزاعم موضوعية عن المعرفة والحقيقة؛ فهذا يعني عدم وجود أي أسس لصنع مزاعم موضوعية عن الصواب والخطأ. بكلمات أخرى، ما نعتبره أخلاقيًا هو أمر يختصّ بما نؤمن به أنّه صواب، والذي يختلف ويتناسب مع كل حقبة زمنية وثقافة وفرد، ليس بما هو حقًا صواب.

لطالما كان الزعم بأنّ شيئًا ما صحيحًا يتم تاريخيًا عبر تأسيس هذه المزاعم على أساس مثل الإله أو السعادة أو المنطق. لأن هذه الأسس تُرى على أنها قابلة للتطبيق عالميًا -أي على الجميع في كل الأماكن والأزمان- فإنها تُرى ضرورية لتطبيق الأخلاقيات عالميًا.

وقد تعرَّف فيلسوف القرن الثامن عشر، الأخلاقي “إيمانويل كانط”، على خطر جعل الإله أو السعادة أرضية للأخلاقيات، حيث إنها ستقود إلى الشكوكية الأخلاقية. فالإيمان بإله قد يدفع الناس للتصرف أخلاقيًا، لكن فقط كوسيلة من أجل غاية دخول الجنة بدلًا من النار. البحث عن السعادة أيضًا قد يدفع الناس للتصرف أخلاقيًا، لكن لا يمكننا التأكد مقدمًا، أو معرفة التصرف الذي سيؤدي إلى جعل الناس سعداء. لهذا وكرد على ذلك، دعا كانط إلى أخلاقية مبنيّة على المنطق. وطبقًا لكانط، إذا كان أساس عالمي هو ما تحتاجه الأخلاقيات، إذا فببساطة يجب علينا اتخاذ القرارت بالتوافق مع منطق ما يمكن تطبيقه عالميًا (Universalibility). و بتحديد ما نحاول الوصول إليه من أي تصرف، وتحويل تلك النية إلى قانون يجب على جميع العقلاء طاعته، يمكننا استخدام الإدراك في تحديد ما إذا كان ممكنًا -باستخدام المنطق وتطبيقه على التصرف المزمع- جعل هذا التصرف عالميًا. إذًا فالمنطق -بدلًا من الإله أو الرغبة- يمكنه إخبارنا إذا كان التصرف المزمع القيام به صحيحًا (أي يمكن تطبيقه على الجميع) أم خاطئًا (لا يمكن تطبيقه على الجميع).

لكنّ هناك عدة مشاكل في محاولة إرساء الأخلاقيات على أساس المنطق. واحدة من تلك المشاكل أشار إليها جاك لاكان[3] هي أنّ استخدام العالمية كمقياس للصواب والخطأ، قد تتيح فرصة للأذكياء (مثل ماركيز دي ساد)، أن يبرروا بعض الأفعال البشعة، إذا تمكنوا من إظهار أنّ تلك التصرفات يمكنها النجاح في تخطي اختبار كانط المنطقي. مشكلة أخرى أشار إليها جون ستيوارت ميل[4] هي أنّ الناس عقلانيون، لكنّ العقلانية ليست كل ما نملكه؛ ولهذا فاتباع الأخلاقيات الكانطية يجبرنا على العيش كإنسان آلي بدلًا من العيش كبشر.

إلا أنّ هناك مشكلة أخرى أشار إليها نيتشه، وهي أنّ المنطق ربما لا يكون هو ما زعم كانط؛ حيث إنّه من الممكن ألّا يكون المنطق أكثر صلابة كأساسٍ مقارنة بالإله أو السعادة. في كتابه «جينيالوجيا الأخلاق» (1887)، ذهب نيتشه إلى القول بأنّ المنطق ليس شيئًا مطلقًا أو عالميًا، بل هو شيء تطور عبر الزمن ليصبح جزءًا من الحياة الإنسانية. تمامًا كما يمكن تعليم الفئران في مختبر للتجارب أن يكونوا منطقيين، نحن كذلك تعلمنا أن نصبح منطقيين نتيجة لقرون من التجارب الأخلاقية، والدينية، والسياسية، في تدريب الناس أن يصبحوا منطقيين. ونتيجة لذلك، بما أنّ أساس المنطق نفسه يمكن التشكيك به، فلا يجب اعتبار المنطق أساسًا صلدًا للأخلاقيات.

«العدمي السلبي سيفضِّل الإبحار بواسطة بوصلة معيوبة عوضًا عن مخاطرة الشعور بالتيه الكامل.»

هنا ثانيةً نجد فرقًا مهمًا بين ردّة فعل العدمي الإيجابي والعدمي السلبي إزاء هذه الشكوكية الأخلاقية. فالقدرة على التشكيك في شرعية أي أساس ممكن للأخلاقيات، قد تقود العدمي الإيجابي، إما إلى إعادة تعريف الأخلاقيات أو إلى رفضها كليّة، وفي الحالة الأولى، يُحكم على التصرفات باستخدام معايير أخلاقية، غير أنّ العدمي الإيجابي هو من يحدد هذه المعايير. لكن ما قد يبدو خلّاقًا قد يصبح في واقع الأمر مشتقًا؛ حيث إنّه من الصعب التفرقة بين ما إذا كنّا نفكر لأنفسنا، أو كنّا نفكر وفق ما نشأنا عليه. لذلك، فعوضًا عن الأنانية الأخلاقية، من المرجّح أن يرفض العدمي الإيجابي الأخلاقيات برمّتها، وفي هذه الحالة، يُحكم على التصرفات من حيث كونها أكثر أو أقل فاعلية في تحقيق غاية مرغوبة. لهذا السبب، تُرى التصرفات الإنسانية غير مختلفة عن تصرفات حيوان أو آلة. وإذا كان من الخطأ أن نقول على حيوان أنّه شرير لالتهامه عند جوعه حيوانًا آخر، فالعدمي الإيجابي سيقول أنه خطأ أيضًا نعت البشر بأنهم شريرون لكونهم سرقوا من إنسان آخر عند جوعهم. من دون الأخلاقيات، أشياء مثل السرقة والملكية والحقوق، ستُرى ممتلكة لاعتبار قانوني فقط، وستُرى الأفعال على أنّها غير قانونية، لا غير أخلاقية. يمكن رؤية مثال لهذه العدمية الإيجابية في الصوفي الإغريقي القديم ثراسيماشوس. ففي «الجمهورية» لأفلاطون ذهب ثراسيماشوس بالقول إلى أن «العدالة» هي مجرد دعاية يستخدمها الأقوياء لقهر الضعفاء؛ من خلال خداعهم لتقبّل أن مثل هذا القهر هو الشيء العادل.

على الناحية الأخرى، العدمي السلبي لا يرفض الأخلاقيات التقليدية فقط لأنّ شرعيتها يمكن التشكيك فيها؛ بل إنّه -عوضًا عن ذلك- يرفض أهمية فكرة أنّ شرعية الأخلاقيات مهمة. العدمي السلبي يطيع الأخلاقيات، ليس من أجل الأخلاقيات في حد ذاتها، بل من أجل الطاعة، ومن أجل أن يعيش في وفاق مع ما يُرى من قبل الآخرين على أنّه صواب أو خطأ، وعلى أنّه جيد أو شرير. هذا الاختيار يُرى من قبل العدمي السلبي على أنّه أفضل من العيش بدون أي معايير أخلاقية تحكم اتخاذ قراراته. المعايير الأخلاقية تقدّم بوصلة، والعدمي السلبي سيفضّل الإبحار في الحياة باستخدام بوصلة معيوبة، بدلًا من المخاطرة بالإحساس بالضياع الكامل. توفّر القواعد الاجتماعية الإحساس بالانتماء إلى مجتمع، وتحظى مشاركة القيم والأخلاق بأهمية مماثلة للتي تحظى بها مشاركة اللغة، عندما يتعلق الأمر بأسلوب الحياة. إنّ العدمي الإيجابي في رفضه للأخلاقيات إنما يرفض أيضّا المجتمع. أما العدمي السلبي، فهو لا يرغب في خطر الشعور بأنّه وحيد تمامَا في العالم؛ ولهذا فهو برفضه الشرعية الأخلاقية يحتضن المجتمع. ما يهم العدمي السلبي، ليس حقيقة الافتراض الأخلاقي، بل مدى شيوعه. هذا يعني أنَّه بالنسبة للعدمي السلبي الأخلاقيات ليست ذات أهمية، فهو  يقدّر الأخلاقيات فقط كوسيلة من أجل غاية، وليس كغاية في حد ذاتها، وهو يهتم فقط بإحساس التوجيه، وبإحساس المجتمع اللذان يأتيان من تقبّل نظام اجتماعي، لأنّ رغبته في الانتماء، وفي أن يُقاد، تفوق رغبته في امتلاك يقين أخلاقي. إنّ العدميّ السلبي أشبه بمتفرج في حدث رياضي، يشجع الفريق الوطني، فقط لأنّ هذا ما يفعله الجميع. إنّه يدعم القواعد الأخلاقية فقط لأنّها مقبولة من قبل المجتمع الذي يأمل في الانتماء إليه.

وكما قد تؤدي العدمية الإبيستمولوجية إلى عدمية أخلاقية، فبإمكان العدمية الأخلاقية أن تؤدي بدورها إلى عدمية سياسية. العدمية السياسية غالبًا ما تُفهم على أنها رفض للسلطة، وهذه كانت حالة عدمية روسيا في القرن التاسع عشر السابق ذكرهم؛ والذين نجحوا أخيرًا في اغتيال القيصر. على الرغم من ذلك، هذه الصورة الثورية للعدمية السياسية -والتي يمكن جمعها مع العدمية الإيجابية في سلة واحدة- لا تضم معها الأسلوب السلبي من العدمية السياسية.

يأتي خطر العدمية الإيجابية من رغبتها الفوضوية في تدمير المجتمع من أجل الحرية. أمّا خطر العدمية السلبية فيأتي من رغبتها المتمثلة في تدمير الحرية من أجل المجتمع. وكما رأينا، فإنّ العدمي السلبي يجعل من العلم والأخلاقيات أداتين حين يعاملهما على أنهما مهمان، فقط للحد الذي يخدمان به غرضي الراحة والأمان. إنّ الحاجة إلى الشعور بالحماية من انعدام الراحة الناتج عن الشك، ومن انعدام الأمان الناتج عن عدم الاستقرار، هما ما يدفعان العدمي السلبي لأن يصبح في نهاية الأمر أكثر تدميرًا من العدمي الإيجابي. ينبع الخطر هنا، من أنّ الأنظمة السياسية التي تدعو إلى الحرية والاستقلال، ستُصبح مرغوبة أقل -من قِبل العدمي السلبي- من جهة الأنظمة الأخلاقية والسياسية التي تدعو إلى تقبل دوغماتية التقاليد، والطاعة العمياء للسلطة. رغم أنّنا قد نفصح عن رغبتنا في أن نصبح أحرارًا ومستقلين؛ إلا أنّ هذا التحرر قد يصبح عبئاً ثقيلًا. عبّر عن هذا على سبيل المثال سورين كيركيجارد في كتابه «مفهوم القلق» (1844) عندما وصف القلق بكونه «دوار الحرية» الذي يظهر لنا عندما ننظر إلى ما يظهر لنا «كهاوية» الاحتمالات اللانهائية. فقط فكّر في كيف تدفع قائمةُ طعام مليئة بالاختيارات رواد المطعم أن يطلبوا من النادل ترشيحات، وكيف يتكرّر هذا الموقف؛ أو كيف غيرت نيتفليكس (Netflix) من دعايتها، القائمة على مكتبتها الواسعة من الأفلام، لك لتختار منها، إلى دعايتها لخوارزمياتها التي ستجعلك «تسترخي» بينما تتخذ القرار نيابة عنك.

 

«قد تتم الدعاية للعدمية بواسطة مَن في السلطة المستفيدين مِن مثل هذه الأزمات.»

كان نيتشه قلقًا حيال ما رآه من ظواهر، مثل تزايد تقبّل إنكار الذات، والتضحية بالنفس، والإيثار كمُثل أخلاقية. لقد رأى تقبُّل مثل تلك المثل النافية للذات دليلًا على أنّ العدمية السلبية كانت منتشرة كمرض في أوروبا، في القرن التاسع عشر. بشكل مشابه، في القرن العشرين وفي كتابه «هروب من الحرية»، كان إريك فروم قلقًا مما وصفه بـ«الخوف من الحرية» الذي ينتشر عبر أوروبا. لقد كان هذا القلق هو ما حفَّز عمل صاحبي النظريتين في ألمانيا والوجوديين في فرنسا.

حذرت أرندت من أنّنا يجب أن نكون حذرين وألّا نعتبر العدمية مجرد أزمة شخصية من اللا ثقة. عوضًا عن ذلك يجب أن نعترف أنّ العدمية هي أزمة سياسية. قد تتم الدعاية للعدمية من قِبَل مَن في السلطة، الذين يستفيدون من هكذا أزمات. لهذا فحتى العدمية الميتافيزيقية قد تحمل وزنًا سياسيًا. تقبُّل أنَّ العالم بلا مغزى قد يقود إلى اعتبار أشياء مقلقة حيال القهر، والحرب، والبيئة، غير ذات مغزى أيضًا. لهذا السبب، ليس السياسيون فقط من قد يستفيدون من العدمية.

تبعًا لسيمون دو بوفوار في كتابها «أخلاق الالتباس» (1948)، واحدة من الصور التي قد تتّخذها العدمية هي النوستالجيا – الرغبة في العودة إلى الحرية التي اعتدنا الشعور بها كأطفال، قبل أن نكتشف ككبار، أنَّ الحرية تتضمن المسؤولية. لهذا فبإمكان الشركات الاستفادة من الدعاية للعدمية في صورة بيع النوستالجيا، وطرق أخرى، لنفصل أنفسنا عن الواقع. من أجل هذا يجب ألّا نتعرف على وجود العدمية داخلنا فحسب، بل أن نتعرّف أيضًا على وجودها في العالم من حولنا، وأن نحدد مصادر تلك العدمية. بدلًا من أن نترك أنفسنا نشعر بقلة الحيلة في عالم يبدو أنه قد توقف عن الاهتمام. يجب أن نسأل من أين تأتي الرؤى العدمية للعالم، ومَن المنتفع من رؤيتنا للعالم بهذا الشكل.

 

هوامش:

[1] تشبيه للعدمية تكرّر ظهوره في أعمال نيتشه

[2] في كتابه «شبح ما هو عبثي» الصادر في 1988

[3] في كتابه «كانط مع ساد» الصادر في 1989

[4] في «النفعية» (1861)

 

المصدر
شارك المقال:

فريق الإعداد

ترجمة: نورهان عادل
مراجعة علمية: نعيم حيماد
تدقيق لغوي: حسام إبراهيم
تحرير: هدير جابر
0 0 votes
Article Rating
7 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي